البداية القصصية لمهدي عيسى الصقر تعود إلى العام 1954، تاريخ صدور مجموعته "مجرمون طيبون". لكنّ هذا الأديب العراقي لم يفرض حضوره القصصي والروائي على مستوى الجمهور الواسع، الا مع منتصف الثمانينات. والكاتب الذي حظيت أعماله، في السنوات الأخيرة، بإهتمام نقدي واضح، يعتبر اليوم الأبرز بين أبناء جيله في العراق. أصدر حتى الآن خمس مجموعات قصصية وأربع روايات، فضلاً عن كتابه الجديد "وجع الكتابة" الذي جاء بمثابة "مذكرات ويوميات" عن علاقته بعالم الكلمة ومحيط الكتابة. ويجد الصقر ان ثمة مشكلة تواجه أي أديب عربي يحاول، في هذا الزمن بشكل خاص، ان يبوح بما يختلج في قلبه من مشاعر، وما يدور في نفسه من خواطر وأفكار. أما المشكلة الأخرى، بالنسبة إليه، فهي الموازنة بين ما يمليه عليه ضميره كإنسان يعيش بين آخرين، وبين عدم اختراق حدود المحظورات. فالكاتب الذي يريد ان يبقى أميناً لقناعاته، مثله اليوم، مثل من يحاول ان يمشي على حبل مشدود فوق هاوية! ومن هذا الأفق الخاص، نحاول الاطلال على عالمه القصصي والروائي. من أين تبدأ القصص؟ وكيف تبدأ؟ - مثلما يعرف أي كاتب، قد تبدأ القصة من أي محفّز: تجربة مثيرة تمر بها، أو يعيشها انسان تعرفه. مشهد تراه، نبأ يهزك: حالة من عدم التناغم، في الجو الذي يحيط بك، الى آخره. ان مثل هذه العوامل لا تكفي وحدها، بالطبع، "لإشعال الشرارة" ما لم تتوافر لديك الأرضية النفسية والفكرية، لاستقبال المحفّز. إن هذه المثيرات التي ذكرتها، ولنسمّها الأفكار الأولية، او المحاور، تشبه البذور التي تحملها الريح معها، وتسقطها بشكل عشوائي على أي أرض. ان أكثر هذه البذور تموت، عندما تسقط على أرض بوار، لا ماء فيها. ولكن ان سقطت البذرة الملائمة في أرض مواتية أرض كاتب، فإنها سوف تنتفخ - بعد وقت قد يطول وقد يقصر - لتتبرعم في قصة او رواية. هل من مثال؟ - على سبيل المثال قصتي "الصدى"، المنشورة في مجموعتي "شتاء بلا مطر" "إتحاد الكتّاب العرب في دمشق"، كان المحفز لكتابتها مقتل زوجة صديق عزيز بقذيفة أثناء الحرب مع إيران. وقد وصف لي هذا الصديق ما حدث بعد سقوط القذيفة القاتلة. كنت أعرف المرأة، فهي انسانة بسيطة طيبة، ما كانت تتوقع لحياتها هذه النهاية القاسية والعبثية. بعد مدة كتبت القصة بألم، إنّما بموضوعية. فمهما تكن حزيناً، وأنت تكتب، يتوجب عليك ان تمنع مشاعرك الخاصة من ان تؤثر على المستوى الفني للعمل. هل تقصد التوافر على شروط العمل الفني؟ - من الشروط الأساسية لفنية العمل ان يكون محايداً. أعطيك مثالاً آخر. في يوم شتائي كنت أذهب ماشياً الى دائرة البريد، أحمل في يدي مجموعة من الرسائل كتبتها لعدد من الأصدقاء. كنت أرتدي "قمصلة" مطرية، وأعتمر قبعة صغيرة، وبينما كنت أخترق طريقاً يمر بين بيوت، رأيت شيخاً يتوكأ على عصا، وبرفقته امرأة عجوز. كانا يقفان أمام باب بيتهما، كأنهما ينتظران أحداً. عندما اقتربت تقدمت المرأة صوبي مستبشرة. سألتني: "ها.. هل جئت لنا برسائل؟". لقد حسبتني ساعي بريد، وهي ترى حزمة من الرسائل في يدي. اعتذر الشيخ عن الخطأ الذي وقعت فيه امرأته. قلت لهما انني أتمنى ألا تتأخر عنهما الرسائل. وتابعت طريقي. غير ان مشهد هذين العجوزين المهجورين، وهما يترقبان وصول الرسائل من أبناء وبنات لهما تركاهما وحيدين، وراحوا يعيشون في بلاد غريبة، أحزنني كثيراً، فكتبت قصتي "عيون أضناها الانتظار". ظهرت هذه القصة ايضاً في مجموعة "شتاء بلا مطر"، وفيها نرى الرجل وامرأته يجلسان متجاورين، أمام باب دارهما - كما اعتادا ان يفعلا كل يوم - ينتظران مجيء ساعي البريد، الذي لا يجيء، وعند الظهيرة يشعر الرجل بالملل، فيحمل كرسيه ويدخل الى الدار. الا ان المرأة لا تقطع الرجاء. تبقى تجلس في الشمس تنتظر. وبسبب الحرارة تغفو على كرسيها. وعندئذ ترى نفسها على شاطئ بحر، وساعي البريد يقبل عليها يحمل حقيبة متخمة بالرسائل. يقول لها: خذي! كل ما في هذه الحقيبة من رسائل هي لك أنت، وصلت اليوم من الأولاد والبنات! كلهم كتبوا. كلهم، لكن البريد تأخر في الطريق! ويرفع ساعي البريد حقيبته عالياً، يقلبها وينفض ما فيها في حضنها. فتنزل عليها الرسائل شلالاً من مظاريف ملونة، تملأ حضنها، وتغطي جسدها، فتغدو مثل تل صغير من رسائل متكومة، وهي تكركر سعيدة! هذان نموذجان يكشفان لك الطريقة التي تبدأ فيها أقاصيصي، وكذلك المحفزات التي تجعلني أكتب. إنّها محفزات ذات طابع انساني بالدرجة الأولى، وليست ذات طابع أدبي صرف. هناك عنصران أساسيان في قصتك: الانسان والواقع. - أنا أضع الانسان، والواقع الذي يعيش فيه أولاً. بعد ذلك تأتي اللغة. هذه تربية نشأت عليها، منذ محاولاتي الأولى في الكتابة، في الخمسينات. ولم، ولن، يخطر ببالي اطلاقاً ان أكتب بشكل مغاير. ان مثل هذه الكتابات المغايرة لا تثيرني. أنا لا أعمد الى التعتيم على الهم الانساني، على المعاناة البشرية، في هذا الزمن، في وطننا العربي، وفي العراق بشكل خاص، من أجل البهرجة اللغوية. الكلمات وحدها لا قيمة لها عندي، مهما كانت ساحرة وجميلة، ان لم تكشف عن مكابداتنا، وعن حيرتنا. انني أحاول ان أجعل كتاباتي مشوقة، وممتعة، لكي أحتفظ بالقارئ حتى الصفحة الأخيرة، وبعدها أيضاً. لكنني، في الوقت نفسه، لا أكتب من أجل ان أسليه فقط. ما أطمح إليه حقاً، في كتاباتي، هو ان أجعله يفكر معي، ويشاركني حيرتي، وان يبحث مثلي عن أجابات عن مئات الأسئلة: لماذا يحدث هذا كله؟ لماذا يكرر الانسان أخطاءه ذاتها، في كل مرة؟ لماذا لا يفتح عينيه الا ساعة الاحتضار، ان أتيحت له برهة احتضار، ليغلقهما بعد ذلك الى الأبد؟ بين القصة والرواية وهذه المشاغل قد تأخذ مداك في سبر أغوارها عندما تكتب الرواية، إذ تتحرك على ساحة أوسع، وتمنح الحركة مدى أشمل. - هذا صحيح. وللتفريق بين القصة القصيرة والرواية، قلت في "وجع الكتابة" الذي صدر أخيراً عن "دار الشؤون الثقافية" في بغداد، إن الرواية - كما أراها - لها شبه كبير بالمدينة، في حين ان القصة القصيرة هي مثل بيت صغير، بيت حميم، بوسعك ان تستريح فيه، بعد تعب النهار. ومثل اي بيت ربما، وقعت فيه أحداث ومشاكل، غير انها لا تحتمل الامتداد والتعقيد. أما اذا امتدت وتعقدت، فعندئذ تخرج هذه الأحداث عن بيت القصة، لتدخل مدينة الرواية. القصة القصيرة حين تنضج لا يقف في طريقها شيء. انها تأتي للقاص مثلما تأتي القصيدة للشاعر، تقريباً. تأتي وقد ارتدت ثيابها، وهي ما تزال تتوارى خلف تلافيف دماغ الكاتب، ثم تخطو نازلة، لتستكمل هندامها، على بياض الورق. أما الرواية ففيها أكثر من حالة وموقف: صراعات، وأحداث، ومشاهد حب، ونقاشات، وتضارب في الأفكار، والقناعات والمصالح. في الرواية متاهات وحروب وجرائم ومكائد، وكل ما يصنعه الانسان بنفسه، وبأخيه. هذا هو العالم الذي يسعى الروائي الى ان يستكشفه، ويكشفه أمام القارئ. وكل روائي يفعل ذلك من وجهة نظره بالطبع، ولكن قليلة هي الروايات التي تصدمك فيها وجهة نظر لكاتب يناهض ما هو خير للناس. ومن حيث الصياغة؟ - الرواية، وإن اختمرت بعض عناصرها في ذهن الروائي، يتم بناؤها الفعلي في الخارج، حيث تتشكل ملامحها، وتكتسب أبعادها، في عمل دؤوب ربما استمر لسنوات. للقصة القصيرة وجه واحد، متغير الملامح، أحياناً، الا ان له تفرده وخصوصيته. أما الرواية فلها وجوه عدّة. هي مثل امرأة مجربة، لا تسفر عن كل وجوهها للمتلقي المكتشف، جوّاب المدن. ثمة وجوه تبقى مخفية وراء غموض الكلمات، وجوه أخرى تظل مستترة خلف الصمت المديد الذي يتلو الكلمات الأخيرة من الكتاب. وعلى المتلقي ان يحمل فانوس خياله ويكتشفها بنفسه. القارئ يقيد حريتي هنا يخطر لنا أن نسألك عن الكيفية التي تفكر فيها بقارئك؟ هل تفترض ان هناك نمطاً واحداً للقارئ؟ أم انّه متعدد، تجمعه، أنت القاص والروائي، في منظور واحد، هو منظورك؟ - عندما أكتب لا أضع في ذهني قارئاً محدد الملامح، ولا أضع نصب عيني القناعات الفكرية والاجتماعية. فذلك قد يقيد من حريتي في الكتابة، اذ يجعلني أخضع لشروط معينة، منها ان أكتب ما يتوقعه مني مثل هذا القارئ، وإلا أكتب ما قد يثيره ضدي. أريد ان أكتب بلا قيود، مع أنني أعلم تماماً ان الكتابة الحرة غير ممكنة، فثمة محرمات، ليس القارئ مصدرها - تجعلني أتوجس من التعبير الصريح عن كل ما يدور في ذهني. وهذا الهاجس، كما أعتقد، يثير قلق كل كاتب في وطننا العربي، في هذا الزمن. لذلك لا أريد قيوداً جديدة أفرضها على نفسي، ارضاءً لقارئ معين. إن توقعاتي من القارئ الذي أطمح ان يقرأني، توقعات عامة: ان يكون انساناً يحب كل ما هو جميل ونبيل، وكل ما هو في مصلحة الانسان، في كل مكان من العالم، بصرف النظر عن لون بشرته وثقافته، وطائفته، ومعتقداته الدينية او المذهبية! ومثل هذه التوقعات لا تحجب عنّي، في حالة انتشار أعمالي طبعاً، سوى عدد قليل من القراء. وهل أتيح لك ان تختبر قناعاتك هذه مع قارئك؟ - ان الانطباعات التي تصلني، أحياناً، من بعض القراء، تؤكد قناعاتي. بعضهم يقول إنه يجد في كتاباتي صدى لأفكاره، وانه يتماهى، احياناً، مع عدد من الشخصيات التي أكتب عنها. هذا يسعدني بالطبع، اذ يشير الى انني لم أضل طريقي! كل كاتب مبدع، بعد ان يكون قدم منجزاً واضحاً، يجد في نفسه ما لم يكتبه بعد. فهل تعيش أحياناً هذه الحالة؟ - لا أعرف كيف هو الحال، مع الكتّاب الآخرين. غير انني حين أفرغ من انجاز عمل روائي، أحس، لحظتها، انني مستنزف، وانني في حاجة إلى بعض الوقت، أستجمع فيه أفكاري، حول نواة عمل جديد. وقد تكون هذه النواة، وليدة ظروف تستجد، بعد الفراغ من العمل الأخير، او انها كانت كامنة عندي، من قبل، وأغلقت عليها الأبواب، حتى لا تشوش على المشروع الروائي الذي كان محور تفكيري، لتلك الفترة. وما الذي لم تكتبه بعد؟ - ان الكاتب - اي كاتب - لديه دائماً ما يقوله، ما دام يواصل العيش. فالتجارب الحياتية، النفسية والاجتماعية والفكرية لا تتوقف، وهو يجد معنى حياته في الكتابة. ان ما لم أكتبه ما زال غامضاً في جوانب كثيرة. عندما تتوضح هذه الجوانب، في عمل معين، فإنني أباشر كتابته من دون تأخير. إنني منشغل الآن بالعمل على رواية صغيرة، ربما انتهيت منها في الأشهر القليلة المقبلة. وربما كتبت، بعد ذلك، رواية، طويلة نوعاً ما، عن مدينتي البصرة وعن ناسها. هذه المدينة التي ترقد وادعة على ضفاف شط العرب، والتي تحملت الكثير من النكبات، في صبر عجيب