فتح الانتصار الانتخابي الكبير الذي حققه حزب العمال الجدد الباب امام التوقعات. وهي توقعات متضاربة ينبع تضاربها من طبيعة الانتصار، بل من طبيعة السياسة التي اتبعها العمال خلال سنواتهم الاربع الماضية في 10 دواننغ ستريت. فاذا كان من المسلّم به ان الانتصار الاخير فوز للوسط، يبقى السؤال: هل هو يمين الوسط أي الموقع التقليدي للمحافظين والذي هجروه الى يمين اليمين، أم يسار الوسط وهو الموقع الذي حل فيه الليبراليون الديموقراطيون بعدما ابتعد العمال عنه قليلاً؟ القائلون انه انتصار ليمين الوسط، والمبتهجون به، يحذرون من اعتماد راديكالية اقتصادية تنفّر الطبقة الوسطى وتعيدها الى احضان المحافظين، فيما يرحّبون باجراءات تحديثية كاضافة اربع وزيرات نساء، ما جعل الحكومة البريطانية تضم سبع وزيرات. وهم يجدون ما يشجعهم في ترقية "اليمينيين العماليين" جاك سترو وديفيد بلانكيت من وزارتي الداخلية والتعليم الى وزارتي الخارجية والداخلية. فسترو الذي اشتهر بأنه "رجل الأمن" اعطى مكانه لبلانكيت. والاخير ما ان عين في منصبه الجديد حتى بدأ يهدد ويتوعد مهربي المخدرات وكل من تسول له نفسه التطاول على الامن. اما القائلون انه انتصار ليسار الوسط فحجتهم ان التفويض الشعبي الجديد لتوني بلير ينبغي ان يدفعه الى تنفيذ ما وعد به في الولايات الاولى ولم ينفذه. ويقصد هؤلاء معالجة المشكلات الملحة في مجالات الصحة والمواصلات والتعليم. ولا يكتم هذا الفريق قلقه من الخطط التي اعلنت، ابان الحملة الانتخابية، لاشراك القطاع الخاص في بعض عمليات القطاع العام، لا سيما الخدمة الصحية العامة. لهذا لم يتلكأ بعض القادة النقابيين ومعهم محافظ لندن كين ليفينغستون وبعض تاريخيي حزب العمال المتقاعدين توني بن وروي هترسل في مطالبة الطاقم الجديد بضرب الحديد وهو حام "لما فيه مصلحة الاكثرية الساحقة من السكان". وقد يكون من المبكر الجزم في الوجهة التي سيتخذها العمال الجدد، لا سيما انها ستتأثر بمجريات الحزبين الآخرين، خصوصاً منهما حزب المحافظين. ما يمكن قوله ان اوروبا قد لا تمهل العمال طويلاً، بحيث يضطرون الى المسارعة في اجراء الاستفتاء بصدد الدخول في اتحادها النقدي. والحال ان هذا الموضوع هو وحده المرشح لأن يشهد بعض التغيرات في السياسة الخارجية البريطانية. هنا نقع على ابعاد روبن كوك عن وزارة الخارجية وتسميته التي اعتبرها الكثيرون مهينة قائداً لمجلس العموم. فكوك، الوزير الناجح، معروف باندفاعته الاوروبية التي حملته على الصدام مع وزير الخزانة غوردون براون الذي يفضّل التريث والابطاء. هكذا حل محله في الخارجية جاك سترو المعروف هو الآخر بتريثه وابطائه في ما خص اوروبا. ويرى بعض المراقبين ان هذا التعديل لا ينتقص من رغبات توني بلير الاوروبية بقدر ما يؤكد على جديتها. فرئيس الحكومة القديم - الجديد يخشى ان يتحول الموضوع الاوروبي موضوعاً انفجارياً غير قابل للضبط ما بين كوك وبراون. وما دام لا يستطيع ازاحة وزير الخزانة القوي آثر ازاحة وزير الخارجية الذي لا يُعدّ من أعمدة "العمال الجدد" وأساسييهم، نظراً الى استمرار بعض قناعاته "القديمة". وهذا ما يقود الى تغير آخر في الحكومة وفي الزعامة البليرية تالياً. فبعد الفوز الانتخابي الاول في 1997 اضطر توني بلير الى تشكيل حكومة تمثل كافة اجنحة حزب العمال. اما اليوم، وقد كشف عن قدراته القيادية، فجاءت حكومته بليرية كلياً. واذا كان الوحيد المختلف هو غوردون براون فانه يحضر الآن من دون حلفاء واصدقاء حكوميين يمكنه الاعتداد بهم. المحافظون على الجبهة الاخرى يعاني حزب المحافظين المعارض ما عاناه العمال في 1983، حين انزوى في الهامش الضيق الذي حشرته فيه زعامة مارغريت ثاتشر. وقد استغرق الامر اكثر من عشر سنوات، تمت خلالها تصفية الجناح اليساري المتطرف، قبل ان يعود العمال الى قوته القديمة. ويواجه المحافظون الآن التحديات نفسها طارحين الاسئلة نفسها تقريباً على انفسهم: هل كان من الجائز التحول الى حزب يميني سافر وترك الوسط كله للعمال؟ هل كان من الجائز خوض الحملة الانتخابية بشعارات سلبية مفادها التخويف من اوروبا ومن الهجرة، ام كان ينبغي تطوير شعارات ومطالب ايجابية يبحث عنها الناس في ميادين الصحة والتعليم والمواصلات؟ واذا كان من المعروف ان قائد المحافظين وليم هايغ دفع غالياً ثمن الهزيمة التي قاد حزبه اليها، واستقال تالياً من هذه القيادة، فأي طريق يمكن ان يسلكها المحافظون اليوم، وبأي رموز؟ اغلب الظن ان معركة اختيار القائد البديل ستكون طاحنة سياسياً وايديولوجياً. ففيها سوف يتواجه طرفان. 1- القوى الثاتشرية المصرة على ان هايغ لم يخطئ، بل المطلوب تعزيز الخط اليميني الذي مثله، والذي لا بد أن يؤوب اليه البريطانيون، خصوصاً طبقاتهم الوسطى، حين يكتشفون "الخدع" العمالية. 2- الخط القائل بالعودة الى المحافظة التقليدية الوسطية، ومن ثم تغليب نظرة جامعة على النظرة الحزبية، بل الفئوية الضيقة. والممثلون الابرز لهذا التوجه الاخير هم وزير الخزانة السابق كينيث كلارك الذي يرشحه تقليديو الحزب للقيادة، والوزير السابق والكاريزمي مايكل بورتيللو الذي اعلن ترشيحه رسمياً. وربما كان روتيللو الاوفر حظاً بها، كونه اصغر سناً من كلارك، رغم ما يوصف به من انتهازية حملته على القفز من المركب الثاتشري حينما احس باحتمالات غرقه. كذلك من رموز هذا التيار وزير الظل للشؤون الخارجية فرانسيس مود المعروف بتحالفه الوثيق مع بورتيللو، ما يجعل من المتوقع ان يتنازل له. والفارق هنا ضمن خط الاعتدال يدور حول اوروبا التي يؤيد كلارك الاندماج فيها، فيما يتحفظ عنه بورتيللو ومود. اما على جبهة "اليمين المحافظ"، فكانت وزيرة داخلية الظل المشهورة بتطرفها، آن وديكومب، اول من اعلن الترشح للقيادة. والاسمان الآخران على هذه الجبهة هما إيان دنكن سميث وزير دفاع الظل المسمى "خليفة ثاتشر" نظراً لقربه السياسي والشخصي منها على السواء، وجون ريدوود الذي سبق له ان نافس رئيس الحكومة المحافظ جون مايجور على القيادة من موقع يميني. كائناً ما كان الحال، فان ما سيرسو عليه وضع المحافظين سيؤثر على وضع الحكومة وحزبها. فاذا ما كُتب النجاح لليمين المحافظ استمر العمال الجدد في ازدهارهم واحتلالهم وحدهم رقعة الوسط. اما اذا انتصر اليسار المحافظ فالمرجح ان يندفع العمال، او يُدفعوا، يساراً بحيث ترتسم الخريطة مجدداً ما بين يمين الوسط المحافظ ويسار الوسط العمالي. الهوامش وايرلندا كان من الملاحظ ايضاً، في الانتخابات الاخيرة، ان الاحزاب المتطرفة لم تنجح في ايصال اي من مرشحيها الى البرلمان، بل ان الغالبية الساحقة من هؤلاء خسروا المقابل المالي لترشحهم. يصح هذا في "الخضر" البيئويين ولو انهم احرزوا افضل نتائج الاحزاب الهامشية وفي "الائتلاف الاشتراكي"، وخصوصاً في "حزب العمال الاشتراكي" الذي اسسه نقابي المناجم والعمالي سابقاً آرثر سكارغيل وحصد نتائج بائسة جداً. لكنه ينطبق ايضاً على احزاب اليمين الهامشية ك "حزب الاستقلال" الذي يستنهض المشاعر الشوفينية ضد اوروبا، و "الجبهة القومية" العنصرية التي كسبت بعض الاصوات في بلدة أولدهام التي شهدت صدامات عنصرية قبل اسبوعين، من دون ايصال اي من ممثليها الى البرلمان. لكن الحزب الذي احرز نقلة باهرة كان حزب الليبراليين الديموقراطيين، فحظي ب52 مقعداً، اي بزيادة ستة مقاعد عن حصته في البرلمان السابق. والنتيجة هذه جعلت قائده الشاب تشارلز كينيدي من ثوابت الحياة السياسية بعدما نُظر اليه طويلاً كمجرد ظل للقائد الليبرالي السابق بادي اشداون. والحزب المذكور، الوثيق الصلة بالطبقة الوسطى وتقاليدها الاكثر استنارة، هو اليوم الطرف الاكثر راديكالية في مجالات ثلاثة: المطالبة باعتماد التمثيل النسبي في القانون الانتخابي، الدعوة الى الانتساب الى اوروبا، وتبني مبدأ رفع الضرائب للانفاق على تحسين الخدمات والتقديمات العامة. لهذا يراهن القائلون بانحياز العمال الجدد الى يسار الوسط على قيام ما يسميه كينيدي "الائتلاف التقدمي"، العمالي - الليبرالي، من غير ان يتمثل الاخيرون بالضرورة في التشكيلة الحكومية. على ان التفاؤل الذي اصاب التقدميين بالنتائج التي حققها العمال والليبراليون الديموقراطيون، انتكس بالنتائج الاخرى التي اسفرت عنها الانتخابات في ايرلندا الشمالية. فبعدما ساد الاعتقاد بأن حزب "اتحاديي ألستر" البروتستانتي المعتدل بزعامة ديفيد ترمبل، سيضمن للسلام اكثرية بروتستانتية كاسحة، خسر ثلاثة من مقاعده في البرلمان السابق لتقتصر الآن على ستة فقط. وفي المقابل نجح المتطرفون البروتستانت في حزب "الاتحاديين الديموقراطيين" بزعامة إيان بايزلي في احراز خمسة مقاعد. وهذا ما انعكس مباشرة بظهور منافسين لترمبل داخل حزبه ابرزهم النائب جيفري دونادسون. وحصل الشيء نفسه على جبهة الكاثوليك، فنال حزب "شين فاين"، الذي لا يزال يمانع في تسليم الاسلحة، أربع مقاعد، ولم يحظ "حزب العمل الاجتماعي والديموقراطي" المعتدل وذو الجمهور الكاثوليكي الا بثلاثة. وفي الخلاصة، فالأثر الأسوأ للانتخابات في ايرلندا الشمالية سيتجسد اضعافاً للقاعدة التي تؤيد اتفاق "الجمعة العظيمة" للسلام ولممثليها. وهذا سوف يعقّد، بالتأكيد، احدى المهمات الملحة لحكومة توني بلير القديمة - الجديدة.