مني رئيس الوزراء البريطاني توني بلير بأسوأ هزيمة يتعرض لها حزب العمال الحاكم في الانتخابات المحلية منذ تولي بلير منصبه. ويعود سبب هذه الهزيمة إلى الفضائح التي ظلت تطارد حكومة حزب العمال منذ توليها مقاليد السلطة في بريطانيا، حتى انها طالت بلير نفسه وشخصيات قريبة منه داخل حكومته من بينهم بيتر ماندلسون وديفيد بلانكيت وديفرلي هيوجز وتشارلز كلارك وجون بريسكوت، ما افقدهم الصدقية امام الرأي العام الذي تأكد من تورطهم في فضائح مالية واخلاقية، وباستغلال مناصبهم والتلاعب بالقوانين وبمعلومات الاستخبارات لتهيئة الرأي العام البريطاني للعمليات العسكرية التي أدت إلى تورط البلاد في غزو العراق. وما يهمنا هنا ليس تحليل أسباب الهزيمة الأخيرة التي مني بها حزب العمال، بقدر ما يعنينا إلقاء الضوء على حقيقة نظرية "الطريق الثالث"التي ساقها بلير كمشروع جديد لقيادة حزب العمال نحو الظفربالسلطة. وهنا يطرح المحللون الغربيون السؤال الآتي: هل سقطت"البليرية"في بريطانيا؟ منذ تسلم بلير رئاسة حزب العمال عام 1994، والذي وهنت عزيمته إثر تعرضه لسلسلة متلاحقة من الهزائم 1979، 1983، 1987، 1992، التزم الرجل إعادة تشكيل حزب العمال ليصبح"حزباً جديداً براقاً"لا يتمتع بالروابط القوية القديمة التي كان يتميز بها مع الاتحادات، وفاقداً الكثير من سياساته الاشتراكية التقليدية. وأظهر بلير والمجموعة الصغيرة المحيطة به عزيمة كبيرة في تمرير مشروعهم السياسي أو تسويقه باعتباره يشكل قطيعة حاسمة مع الميراث العمالي القديم، وكانوا يرفضون في الوقت عينه خيارات الجناح اليساري المتقهقر، خصوصاً خيارات اليمين الاشتراكي الديموقراطي المتمثل في حينه بأشخاص مثل روي هاترسلي وجون سميث اللذين ظلا وثيقي الصلة بالحركة العمالية ومتمسكين ببعض مواقف حزبهما التقليدية مثل إعادة توزيع المداخيل وتعزيز دولة الرعاية الكينزية. جسد بلير قطيعة مع فلسفة الاشتراكية الديموقراطية الأوروبية التي كان يتبناها حزب العمال، والمتمثلة في"الإكثار من الضرائب ومن النفقات في آن"، وطرح مسألة الانخراط في نظام العولمة الرأسمالية الجديدة. وكان وفريقه يستلهمان استراليا ونيوزيلاندا والولايات المتحدة، فنقلا إلى بريطانيا من دون تعديل بعض التقنيات الانتخابية والشعارات الإيديولوجية الرائجة في أميركا، كمفهوم"أميركا الطبقة الوسطى"الغريب في مناخ بريطاني لا يزال مطبوعاً بقوة بالوعي الطبقي الكلاسيكي. وفي أيار عام 1997، حملت الموجة الانتخابية العارمة حزب العمال ورئيسه إلى سدة الحكم في بريطانيا، حين حصد 45 في المئة من الأصوات و419 مقعداً، وعبرت في الوقت عينه عن رفض شعبي متجذر لحزب المحافظين الفاقد الصدقية، وعن رغبة عميقة في قيام إصلاحات حقيقية. وبعيد الانتصار العمالي قدم صاموئيل برتين، أحد شيوخ النيوليبرالية، في صحيفة"فاينانشال تايمز"3/5/1997، النصيحة لأنصاره المرهقين بالخسارة بأن يعتبروا أنفسهم سعداء بوصول بلير إلى رئاسة الوزراء، إذ بد له أكيداً أن العمال كانوا سينجحون حتى لوا تقدموا ببرنامج أكثر راديكالية بكثير. وأشار بمرارة إلى أنه على رغم جيل كامل من إعادة التربية في ظل حكم مارغريت ثاتشر، فإن البريطانيين يبقون أنصار أشداء للجماعية". وبعد مرور سنوات لا بأس بها على وضع بلير حداً لثمانية عشر عاماً من حكم المحافظين من نوع"اليمين الجديد"، بات واضحاً أكثر فأكثر أن"الاتجاه العمالي الجديد"ليس جديداً بالقدر الذي يود تصويره رئيس الوزراء البريطاني وحلفاؤه. واصبح بلير يعرف على صعيد عالمي بأنه المنظر ل"الطريق الثالث"الذي يعتمد من الناحية الإيديولوجية على إعادة طرح القضايا والموضوعات التي كان حزب ثاتشر الراديكالي يتعرض لها، وهي: خفض الضرائب وفرض القانون والنظام، مع الإلحاح على تطبيق القيم الاشتراكية المتمثلة في الحرية وتكافؤ الفرص والتضامن. ولا شك في أن طموح هذا الرهان يتعدى المجال البريطاني. ففي ما يتعلق بتحديات العولمة، كال كل من بلير وعالم الاجتماع أنطوني غيدنز صاحب فكرة"الطريق الثالث"، عبارات الإطراء والمديح لعملية التحديث الجذري التي طالت الديموقراطية الاشتراكية الدولية، واعتبرا العولمة فرصة وليست خطراً محدقاً، وتمكن الاستفادة منها باللجوء إلى تأسيس شراكة شبه دائمة بين"رجال الأعمال"وائتلاف الحزبين الليبرالي والاجتماعي التقليديين وبين سياسة العدل والاشتراكية والسعي أيضاً إلى مكافحة التفرقة والتمييز العنصري. بالنسبة الى قسم كبير من رجال اليسار الفرنسي يعتبر مصطلح"البليرية"إهانة. لكن الواقع المعاش بشكل يومي من قبل البريطانيين يتناقض كثيرا مع هذه الرؤية الإيديولوجية الفرنسية التبسيطية. فحزب العمال البريطاني الذي عرف عنه أنه"حزب أوساط رجال الأعمال"، فرض كفاءته الإدارية بفضل وزير الخزانة غوردون براون. ويعزو المحللون صحة الاقتصاد البريطاني مقارنة مع الأزمة السائدة في ألمانيا و الركود في فرنسا إلى السياسة التي انتهجها بلير والتي تفضل العقول الذكية، وتشجع البحث العلمي والإبداع التكنولوجي، و توثق التعاون بين الجامعات والصناعة. ويقول بلير وبراون عن نفسيهما أنهما"رجلان من اليسار". فهما يؤمنان بالعقد الإجتماعي وبالمصلحة العمومية وبضرورة مساعدة الفقراء. وخلال ولايته الثانية 2001 - 2004 عمل رئيس الوزراء البريطاني على الإستثمار المكثف في العقد الإجتماعي وفي المشروع الكبير لتحديث القطاع العام الصحة، التربية والتعليم، والنقل. وعلى نقيض الأفكار المسبقة، يختلف مسار بلير السياسي عن مسار ثاتشر، إذ يعتبر الأول أن الإدارة الجيدة للإقتصاد هي مفتاح التماسك الإجتماعي الجيد. فعلى عكس"المرأة الحديد"، يعتقد بأن الفاعلية الإقتصادية يجب أن تكون في خدمة دولة الرفاه المحدثة. ويكمن سر نجاح استمرار"البليرية"في المحاولة التوفيقية الإضافية التي نجح فيها بين الإشتراكية الديموقراطية والنظام العالمي النيوليبرالي. وهذه المحاولة هي نتاج لخصوصيات الرأسمالية البريطانية من جهة، وللهزائم السياسية والإجتماعية التي لحقت باليسار طوال 18 عاما على يد أكثر الحكومات يمينية في أوروبا. وعلى رغم أن رئيس الوزراء البريطاني قدم نفسه مجدداً للفكر العمالي وقائداً ل"الطريق الثالث، يكشف نهجه الاقتصادي والسياسي شيئا فشيئا أنه مهادنة مع الإرث الثاتشري. فمع انقشاع غبار البلاغة تبين في شكل ساطع الاستمرار مع النهج الثاتشري المتميز بضعف الضريبة على المداخيل، والتخصيصية والليونة في سوق العمل. لكن، من جهة أخرى، سدد"الاتجاه العمالي الجديد"ديونا مؤكدة، ولو متواضعة، وفاء لتقاليده الاشتراكية الديموقراطية: اعادة توزيع خاطفة للمداخيل، استعادة بعض الحقوق النقابية، واقرار أول حد أدنى اجباري للأجر في تاريخ بريطانيا. ويؤكد بلير أن هذا التوليف يمثل بالضبط الانصهار من نوع"الطريق الثالث"الذي يسعى إلى تعزيزه. وعلى رغم محاولة بلير أن يلعب دوراً رسالياً لجهة تسويق الرؤية السياسية الشاملة ل"الطريق الثالث"، كي تثير اهتماماً عالمياً حقيقياً، فإن" الطريق الثالث"لا تزال ظاهرة بريطانية محصورة. وهو تمكن، بالطبع، من القيام بإصلاحات في المملكة المتحدة، إلا أنها تبقى من دون تأثير أو صفة ريادية في بقية الدول الأوروبية. وعلى رغم تعميم أفكاره حول"رأسمالية الشركاء"وحول التشاركية التي قوامها"لا حقوق من دون مسؤوليات"، أقر بلير أيضاً أنه من الناحية الإيديولوجية ما زالت الورشة القائمة في بدايتها. إذا فالطريق الثالث، أو"البليرية"، لا تمثل في النهاية سوى محاولة توفيقية بين الاشتراكية الديموقراطية والعولمة الرأسمالية الجديدة أو النظام العالمي النيوليبرالي الذي قاده كل من رونالد ريغان وجورج بوش وبيل كلينتون، ويقوده الآن بوش الإبن، أي يمكن اعتبارها خطوة إضافية بالمقارنة مع سياسات الحكومات الاشتراكية الفرنسية والأسبانية في عقد الثمانينات. * كاتب تونسي