لحرب الجواسيس الأميركية - الروسية تاريخ طويل تبدأ أهم محطاته، على مدار النصف الثاني من القرن العشرين، بمقتل الرئيس الأميركي جون كينيدي العام 1962 وقضية المخبر لي هارفي اوزوالد المحسوب على موسكو والذي قيل ان له ضلعاً في الجريمة. وفي العام 1967 حكم على الرقيب في القوة الجوية الأميركية هربرت بنكينهاوت بتهمة بيع أسرار حربية الى الاستخبارات السوفياتية. وفي أواخر السبعينات ألقي القبض على جاسوس اميركي كان في بيته زهاء نصف طن من الوثائق الرسمية. واعتباراً من العام 1985 ظل اولدريش ايمز يزود ال"كي جي بي" بالتقارير السرية الى أن اعتقل وزوجته في نيسان ابريل 1994. وفي العام 1997 حكم على هارولد نيكلسون بالسجن 23 عاماً بتهمة التجسس لمصلحة الروس. والمحطة الكبيرة الأخيرة في هذا الطريق هي فضيحة روبرت هانسن في 18 شباط فبراير 2001. وتشكل قضية ايمز الموظف السابق في مديرية العمليات التعبوية لدى وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية مرحلة كاملة في تاريخ حرب الجواسيس، ذلك ان تلك المديرية مارست تجنيد المخبرين من أبناء الاتحاد السوفياتي ثلاثين عاماً، فيما كان ايمز يعمل فيها سراً لمصلحة الروس. وبات اعتقاله قبل سبع سنوات فاتحة موجة جديدة من محاكمات جواسيس موسكو الأميركيين. والى ذلك فقد ظهرت في القوانين الأميركية للمرة الأولى، بعد الحكم عليه بالسجن المؤبد، تعديلات في شأن الحكم بالاعدام على من تثبت تهمته بفضح أسرار الدولة النووية وكشف اسماء الجواسيس إذا أدى ذلك الى موتهم. وطالما ان ايمز كان من منسوبي جهاز وكالة الاستخبارات نفسه فإن فضيحته لم تمس السلك الديبلوماسي كثيراً ولم تسفر عن طرد ديبلوماسيين روس من الولاياتالمتحدة، ما عدا الكسندر ليسينكو الذي اعلنت واشنطن في 26 شباط فبراير 1994 انه شخص غير مرغوب فيه. إلا ان روبرت هانسن الذي اعتقل أخيراً كان المسؤول الأول في مكتب التحقيقات الفيديرالي ومدير شعبة الممثليات الديبلوماسية الأجنبية في الولاياتالمتحدة. وتردد انه تجسس لمصلحة الاتحاد السوفياتي ثم روسيا منذ العام 1985، وان اثنين من الجواسيس الأميركيين كانا يعملان في ال"كي جي بي"، ولقيا مصرعهما بسببه، ما يجعله مرشحاً للحكم بالاعدام إذا لم يتمكن محاموه من الاتفاق مع القضاة على "صفقة مشرفة" يقدم هانسن بموجبها معلومات كاملة عن نشاطه التجسسي. ويميل المراقبون في روسيا الى الاعتقاد بأن طرد الديبلوماسيين الروس الأربعة والايعاز بترحيل 46 آخرين من الولاياتالمتحدة انما هو من اسقاطات "صفقة هانسن" ونتيجة لاعترافاته، على رغم الرأي القائل ان قضية هانسن قد تكون مفتعلة أصلاً من جانب المباحث الفيديرالية أو مبالغاً فيها من قبل الصحافيين الأميركيين الذين يتنافسون على "السبق الصحافي" في تغطية حرب الجواسيس. ويستغرب بعضهم ان يكون كاثوليكي متزمت مثل هانسن وله ستة أطفال جاسوساً لبلد اجنبي ملحد كالاتحاد السوفياتي أو ارثوذكسي كروسيا. والقضية غير محصورة في فضيحة هانسن. ففي الخريف الماضي اكتشفت وكالة الاستخبارات شبكة تجسسية روسية متشعبة في اميركا وتردد ان الجاسوس سيرغي تريتياكوف نائب رئيس البعثة الروسية في الأممالمتحدة ساعدها في كشف الشبكة. وكان طلب اللجوء السياسي في الولاياتالمتحدة. وكتبت صحف موسكو عن حملة تطهير واسعة النطاق تجري منذ سنوات في صفوف وكالة الاستخبارات المركزية ومكتب التحقيقات الفيديرالي في اطار هوس مكافحة الجاسوسية. وقالت ان الأميركيين حاولوا مراراً ايجاد سبيل للاتصال بقدامى منسوبي ال"كي جي بي" لاغرائهم باعطاء افادات عن جواسيس موسكو في اميركا. ونسبت جريدة "تيزافيسمايا" الى جاسوس روسي سابق زار واشنطن العام الماضي قوله ان اثنين من رجال مكتب التحقيقات وعدوه بمليون دولار في مقابل معلومات مكثفة عن جواسيس الاستخبارات السوفياتية والروسية، الا انه رفض. وتستنتج الجريدة ان اخفاقات من هذا النوع دفعت مكتب التحقيقات ووكالة الاستخبارات أخيراً الى توظيف قضية هانسن على رغم التساؤلات الكثيرة التي تدور حولها. ويرى المراقبون ان الادارة الأميركية الجديدة تفتقر الى حسن النية في معالجة أمر التجسس الروسي في ما لو صدقت رواية هانسن. فالعادة ان تعالج المسألة بأسلوب مهني ومن دون ضجيج، والا فإنها تكتسب طابعاً سياسياً فاضحاً. وهذا ما اختارته واشنطن بقرار طرد جواسيس موسكو الروس العاملين تحت تغطية ديبلوماسية. يقول جنرال ال "كي. جي. بي." المتقاعد أوليغ كالوغين المقيم في الولاياتالمتحدة ان رجال الاستخبارات في السبعينات والثمانينات كانوا يشكلون ما بين نصف وثلثي عدد موظفي الممثليات الديبلوماسية السوفياتية. وتلمست الصفوة السياسية الروسية الفارق بين الديموقراطيين والجمهوريين الأميركيين الميالين الى الواقعية والنفعية التي تميز المدرسة الريغانية. ففي عهد رونالد ريغان بالذات طردت أميركا وجبتين من الديبلوماسيين السوفيات 25 و55 شخصاً في العام 1986. صحيح ان الاجراء المذكور كان رداً على طرد 30 ديبلوماسياً أميركياً من الاتحاد السوفياتي، إلا أن هذا العدد 80 شخصاً هو أضخم طرد في تاريخ العلاقات الأميركية - الروسية. وجاء جورج بوش الابن ليعيد الكرة في ثاني أوسع فضيحة في تلك العلاقات بعد تقويم واقعي لإمكانات روسيا جعله يعتقد انها لا تستحق ان يعيرها كبير اهتمام، وانها يجب ألا تزعج واشنطن في مسائل شبكة الردع الصاروخي وايران والجاسوسية وما الى ذلك. ولفتت واشنطن ان نشاط موسكو التجسسي في أميركا تجاوز كل الحدود، وزعمت صحفها ان عدد الجواسيس المحترفين العاملين في الولاياتالمتحدة بلغ 450 جاسوساً، أي أكثر مما كان حتى في زمن "الحرب الباردة". ومن جهة أخرى أكد الجنرال يوري دروزدوف مدير سابق في الاستخبارات الخارجية الروسية ان عدد الأميركيين في روسيا يزيد عشرة أضعاف عن عدد الروس في اميركا، وتابع: "يحق لنا ان نجعل العدد متساوياً بترحيل الأميركيين العاملين في الشركات المختلطة وفي المكتب الاعلامي لحلف الأطلسي في موسكو، ذلك أن نشاط الدوائر الأمنية الأميركية يقوم أساساً على استخدام البنى غير الحكومية". وتوقع الكثيرون رداً عنيفاً من موسكو ترافقه "مراجل عنترية" انطلاقاً من لهجة نواب البرلمان اليساريين وتصريحات سيرغي ايفانوف أمين مجلس الأمن القومي الروسي، الذي أعلن عن وقف التعاون الأمني بين البلدين فوراً والغى زيارة كان مزمعاً ان يقوم بها ضابط الاستخبارات رسلان سلطاغانوف الى واشنطن. الا ان رد فعل الكرملين الرسمي ساق الدليل على بعد نظر موسكو في تدارك الموقف لدرجة توحي بأنها تكاد تعترف ضمناً بصحة قول مستشارة الرئيس الأميركي للشؤون الأمنية كوندوليزا رايس، بأن الولاياتالمتحدة تسعى الى ازالة آثار "الحرب الباردة". وخلافاً للعادة تلا وزير الخارجية الروسي بيان وزارته في الموضوع بأسف بالغ ومن دون انفعال، وجاء البيان نفسه بلهجة موزونة هادئة ما عدا الفقرة الأخيرة التي شددت على أن روسيا سترد بالمثل على "الخطوة العدائية". وحمّل البيان "أوساطاً معينة" مسؤولية الحادث من دون اشارة الى الرئيس بوش. ومن جانبه ناشد الرئيس بوتين الصحافيين ألا يهولوا الموقف ولا يبالغوا في نطاق الاحتكاكات الأميركية - الروسية كي لا تتوسع شقة الخلاف، ذلك ان التفريط بالعلاقة مع واشنطن والعودة الى "الحرب الباردة" ليسا في بال موسكو. وكانت هناك محاولات من المحللين ذوي التوجهات الغربية والصهيونية في روسيا لاقناع الرأي العام بمخاطر اتخاذ اجراءات جوابية مشددة ضد الولاياتالمتحدة. وعلى سبيل المثال قال معلق "اليوم"، جريدة فلاديمير غوسينسكي الهارب من وجه العدالة، ان روسيا لن تكسب الجولة الجديدة من حرب الجواسيس الباردة. وعلى رغم ذلك أبلغ الروس الأميركيين تدابيرهم "المماثلة" المتضمنة ترحيل العدد نفسه من منسوبي السفارة الأميركية في موسكو والقنصلية في بطرسبورغ 4 الآن و46 على أقل تقدير في ما بعد ومن نفس مستويات الديبلوماسيين المطرودين من السفارة الروسية في واشنطن والقنصلية في سان فرانسيسكو والأممالمتحدة في نيويورك. وتردد ان الروس قد يسددون ضربة موجعة، فيختارون من بين ألف ديبلوماسي أميركي يعملون في روسيا اكثرهم حساسية بالنسبة للولايات المتحدة، ويجردون السفير الأميركي جيمس كولنز من منزله الفاخر في موسكو بحجة الديون المتراكمة والمترتبة عن التضخم النقدي. ووردت اشارة إلى ان روسيا لن تسكت على الاهانة والإذلال جيرينوفسكي، وهي مضطرة للرد على التدابير التي أقدم عليها الأميركيون من دون مبرر. كما انها مستاءة من استقبال وزير الخارجية الشيشاني الياس أحمدوف على المستوى الرسمي في واشنطن ومن التلويح بالورقة الايرانية ومن تأليب جورجيا القوقازية على الروس، ومن تمادي البنتاغون في مسألة شبكة الردع الصاروخي وحتى من التمييز الذي يتعرض له الملاحون الفضائيون الروس العاملون مع الأميركيين وغيرهم على المحطة الفضائية الدولية، خصوصاً بعد أن أطاحت روسيا محطتها الفضائية "مير" ونزعت سلاحها العلمي والتقني والأمني طوعاً، وبات أبناؤها يلومونها على الاستسلام للضغوط الأميركية، معتبرين ان ما حدث لمحطة "مير" دسيسة الهدف منها استفراد الأميركيين بالفضاء. ودولياً يعتقد المحللون ان حرب الجواسيس التي أشعل الأميركيون هذه المرة فتيلها انما هي حلقة في المجهود الواسع الذي يمارسه بوش الابن "لشد الصواميل" في السياسة الخارجية الأميركية. ويدللون على هذا الرأي من خلال وقف المحادثات التي كان بدأها كلينتون مع كوريا الشمالية وشطب توجهاته نحو "التعامل الاستراتيجي" مع الصين. والى ذلك يلاحظ ان الرعيل الأقدم أو "الحرس الفولاذي" من أنصار ريغان وبوش الأب الذين عادوا الى الحكم في ظل بوش الابن يسعون الى استعادة الامجاد الضائعة. فهم قضوا على الشيوعية العالمية قبل عشر سنوات من دون ان يتمتعوا بثمار انتصارهم. وها هم اليوم عازمون على الثأر وبناء العالم بالشكل الذي كانوا يحلمون به في عصر المواجهة بين الشرق والغرب. ومن النتائج الدولية لتطور الأحداث احتمال ظهور تكتلات جديدة مبرقشة من الدول التي ارعبتها توجهات الادارة الأميركية الجديدة مثل الصين والهند وباكستان وروسيا التي لا تقوى بمفردها على مجابهة اميركا. وعندما تواجه الولاياتالمتحدة هذه التكتلات قد تنسى انها أرادت لشبكة الردع الصاروخي يومها أن تحمي العالم المتمدن من طلعات "القبضايات" العراقيين والكوريين على حد زعمها