1.7 مليون ريال متوسط أسعار الفلل بالمملكة والرياض تتجاوز المتوسط    موديز ترفع التصنيف الائتماني للمملكة إلى Aa3    قوة المملكة الاقتصادية ورفع التصنيف    موسم الرياض.. رؤية لسياحة مستدامة    مطار الملك فهد: 15 مليون مسافر سنوياً    الأساس الفلسفي للنظم السياسية الحديثة.. !    إسرائيل تستهدف قياديًا في «حزب الله»    بوتين: الحرب في أوكرانيا اتخذت "طابعًا عالميًا"    الرائد يتغلب على العروبة بثلاثية في دوري روشن للمحترفين    سالم والشبان الزرق    الجمعان ل«عكاظ»: فوجئت بعرض النصر    الحريق والفتح يتصدران دوري البلياردو    مد الخليج يغرق الهلال    الاتحاد في صدارة ممتاز الطائرة    القبض على مقيم في الرياض لاعتدائه بسلاح أبيض على آخر    المدى السعودي بلا مدى    غادة عبود: أمثل حتى أثري تجربتي الأدبية    معتمر فيتنامي: برنامج خادم الحرمين حقّق حلمي    إبر التنحيف وأثرها على الاقتصاد    «الرياض» تفصلهم وتجمعهم    «سلمان للإغاثة» ينظم زيارة للتوائم الملتصقة وذويهم لمعرض ترشح المملكة لاستضافة كأس العالم 2034    جمعية تآلف تحتفل باليوم العالمي للطفل بفعاليات ترفيهية وبرامج توعوية    فيصل بن مشعل يستقبل وفداً شورياً.. ويفتتح مؤتمر القصيم الدولي للجراحة    وزير التعليم يزور جامعة الأمير محمد بن فهد ويشيد بمنجزاتها الأكاديمية والبحثية    ضبط شخص في عسير لترويجه الحشيش عبر مواقع التواصل    تعليق الدراسة الحضورية غداً بمدارس محايل عسير ورجال ألمع    اختتام المؤتمر العربي لرؤساء أجهزة مكافحة المخدرات    بمبادرة سعودية.. الاحتفاء باليوم العالمي للتوائم الملتصقة    هل تعاقب دول غربية إسرائيل بحظر السلاح ؟    الطقس يهدد الولايات المتحدة    عبدالله آل سالم يتوهج في دوري روشن    قرار التعليم رسم البسمة على محيا المعلمين والمعلمات    تأثير الذكاء الصناعي .. دفعت العائلة فدية لكنهم اكتشفوا أن ابنتهم لم تختطف    عن الدراما المسرحية والتجاهل الأكاديمي أتحدث    «حلاه يشدف» أحدث أغاني إبراهيم فضل بالتعاون مع محمد الخولاني    1850 متدربا ومتدربة على المانجا في اليابان    فنانو المدينة يستعرضون أعمالهم في جولتهم بجدة    "العوسق".. من أكثر أنواع الصقور شيوعًا في المملكة    الانسانية تحتضر    وزير السياحة يدشن شركة رملة للرحلات السياحية والمنتجعات البرية في حائل    الطاقم الطبي يحدد موقف محترف الأهلي من مواجهة العين    سيارة جايكو 8 تبدأ رحلة جديدة في السوق الإقليمي بمظهرها الفاخر للطرق الوعرة    المنتدى السعودي للإعلام يفتح باب التسجيل في جائزته السنوية    ترمب يرشح سكوت بيسنت وزيراً للخزانة    «الغذاء والدواء»: حظر الإتلاف ومنع السفر لحالات التسمم الغذائي    معتمر فيتنامي: أسلمت وحقق برنامج خادم الحرمين حلمي    سعود بن نايف يرعى الأحد ملتقى الممارسات الوقفية 2024    ضبط 19696 مخالفاً لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود خلال أسبوع    استمرار هطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    مشروع العمليات الجراحية خارج أوقات العمل بمستشفى الملك سلمان يحقق إنجازات نوعية    جمعية البر في جدة تنظم زيارة إلى "منشآت" لتعزيز تمكين المستفيدات    وفاة الملحن محمد رحيم عن عمر 45 عاما    مصر.. القبض على «هاكر» اخترق مؤسسات وباع بياناتها !    الأمر بالمعروف في عسير تفعِّل المصلى المتنقل بالواجهة البحرية    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    «الحياة الفطرية» تطلق 26 كائناً مهدداً بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



كردستان العراق : نهضة اقتصادية في ظل حصارين والفساد يستشري وأزمة اللاجئين بلا حلول
نشر في الحياة يوم 16 - 04 - 2001

بعد عشر سنوات على اقامة الدول الكبرى "منطقة آمنة" للاكراد في شمال العراق، تشهد "المنطقة الكردية" نهوضا اقتصاديا لا سابق له، لكن تشوبه بعض الظلال : فالجفاف يضرب والفساد يزدهر والقادة الاكراد لم يحلوا مشكلات الذين نزحوا بسبب نزاعاتهم الداخلية. غير ان المنطقة الكردية الخارجة عن سلطة صدام حسين تقدم مشهدا مختلفا تماما عن باقي العراق: لا سكان جائعين ولا اطفال يموتون في المستشفيات.
حاجي مسعود رجل اعمال كردي سعيد ومرفه. مكتبه القائم في الطبقة الاولى من سوبرماركت "مازي" في دهوك يشكل جزيرة عصرية وفاخرة في كردستان التي يتآكلها البؤس. ففي هذا البلد الخاضع لحصار مزدوج -واحد فرضته الامم المتحدة على العراق بعد غزوه الكويت، وآخر يفرضه نظام بغداد على المنطقة الكردية الخارجة عن سيطرته- يثير سوبرماركت "مازي" الريبة والاعجاب في آن : فاقسامه البالغة مساحتها 18 الف متر مربع تعرض كل ما يمكن شراؤه من المنتجات الغذائية والثياب والالعاب والمجوهرات واجهزة التلفزة والموسيقى، وهو اكبر سوبرماركت في كل العراق، وبالتاكيد الافضل تموينا بالسلع. اما زبائنه من موظفي الامم المتحدة والمنظمات غير الحكومية، وكذلك الكثير من الاكراد، فيأتون من بعيد، من بغداد والموصل وحتى من تركيا، ويمكن مقارنته بالمتاجر الكبرى في تركيا او بسوبرماركت في احدى مدن الريف الاوروبي الكبيرة.
وفي الاجمال فان حاجي مسعود وشركاءه استثمروا 6،2 مليون دولار فيه. وجاء نصف هذا المبلغ من خزينة "حكومة" اربيل الكردية التي رغبت بذلك في تشجيع المستثمرين الخاصين الاكراد. ويمضي حاجي مسعود ايامه ولياليه في متجره -ولا يعرف كيف يجد الوقت ليرى زوجاته الثلاث- لكنه يفكر ايضا في اقامة حديقة ملاه ينوي بناءها خلف السوبرماركت، وفي المتجرين الكبيرين الاخرين اللذين يزمع تشييدهما في اربيل وزاخو.
وحاجي مسعود ليس رجل الاعمال الكردي الوحيد الذي يستثمر في كردستان العراقية، هذا الكيان الذي ليس له اي وضع قانوني دولي: ففي دهوك نفسها هناك نجيب ياقرير وعبد الله اصغر، وهما من اكراد تركيا، استثمرا مليون دولار في فندق "جيحان" الكبير كذلك بالمشاركة مع "حكومة" اربيل الكردية.
وفي اربيل استثمر اكراد مهاجرون الى السويد سبعة ملايين دولار في فندق "شوار شيرا" الضخم، ويفكر اكراد مهاجرون يعيشون في الولايات المتحدة او في اسبانيا بالاستثمار ايضا بمبالغ كبيرة في مزارع الدواجن والفنادق او مصانع الاحذية او الابواب والنوافذ. ولا يتردد احدهم بعد سهرة طويلة في حانة فندق "جيحان" بالاقرار بان الامر يشبه المقامرة "لكني مقتنع بان صدام حسين سيفكر عشرين مرة قبل ان يغزو كردستان مجددا".
وتشكل هذه الاستثمارات، والتفاؤل بالمستقبل الذي توحي به، ظاهرة جديدة في كردستان العراقية. لكنها استثمارات لا تمثل شيئا الى جانب الاستثمارات العامة الكثيفة التي جرت تطبيقا لقرار مجلس الامن الدولي رقم 986 : فمنذ ان سمحت الامم المتحدة لبغداد بضخ وتصدير النفط بمقدار ما تسمح به منشآتها النفطية وتحويل عائداته الى حسابات تشرف عليها المنظمة الدولية لشراء المؤن والادوية والمعدات التي تسمح بها لجنة العقوبات، حققت حصة "المنطقة الكردية" 13 في المئة في الاجمال قفزات كبيرة، جزئيا بسبب ارتفاع اسعار الخام: من 260 مليون دولار خلال الاشهر الستة الاولى من 1997 المرحلة الاولى الى 2،1 مليار دولارفي المرحلة السابعة من كانون الاول/ديسمبر 1999 الى حزيران/يونيو 2000" وقد ترتفع الى 3،1 مليار دولارللمرحلة التاسعة تنتهي في حزيران/يونيو 2001 التي وافقت عليها حكومة بغداد للتو.
أموال كثيرة
واذا استثنينا المبالغ المخصصة للمؤن والادوية يبقى هناك حوالي 900 مليون دولار لبرامج اعادة اعمار وتأهيل المدارس والمستشفيات والعيادات وخزانات المياه وشق الطرقات وبناء مساكن للنازحين، وهو مبلغ كبير لفترة ستة اشهر لسكان يبلغ عددهم 3،3 مليون نسمة. ويعترف "وزير" الشؤون الانسانية في "حكومة" اربيل الدكتور شفيق قزاز ان المنطقة "تشهد ارتفاعا كبيرا في المبالغ المخصصة لها في اطار القرار 986، لكن بعد الاجتياحات التي تعرضت لها كردستان منذ 1974 انهيار المقاومة الكردية بقيادة بارزاني نحن بحاجة الى مبالغ كبيرة لاعادة اعمار منطقتنا".
وقال "وزير" الشؤون الانسانية بالوكالة في حكومة السليمانية المنافسة خسرو مصطفى انه "في البداية اعتبر هذا البرنامج طارئا، ولم يكن احد يتصور انه سيستمر. ان حضور الامم المتحدة مهم جدا ماديا ونفسيا. انها المرة الاولى التي ننفق فيها الكثير من الاموال من اجل رفاه الشعب الكردي".
وتنشط جميع منظمات الامم المتحدة اليونيسيف واليونيسكو وبرنامج الاغذية العالمي وبرنامج التنمية لانجاز ما اعتبره قزاز "اكبر برنامج انساني في تاريخ المنظمة الدولية". ولا يصدق خبراء منظمات مثل الفاو التي تعاني من نقص مالي مزمن ما يجري، ويقول احد خبرائها طالبا عدم ذكر اسمه لانه ممنوع عليه نظريا التحدث الى صحافي دخل شمال العراق بصورة "غير مشروعة" انه "في المرحلة الاولى كان لدينا مليون دولار لكردستان كلها، اليوم سنحصل على موازنة من 475 مليون دولار. هذا يفوق التصور".
وكانت النتيجة تحول كردستان الى ورشة عمل هائلة، حيث يتم ليس فقط بناء المدارس والعيادات بل ايضا قرى جديدة بدلا من تلك التي اجتثتها قوات صدام حسين.
بنية تحتية
يشير نيشيرفان احمد، حاكم بادينان النشيط، بفخر في مكتبه في دهوك الى مخططات القرى الجديدة التي ستبنيها شركة "آبيتا" والتي سيكون في كل منها عيادة بيطرية ومحطة زراعية ومدرستان ابتدائية وثانوية. وتكلف كل من هذه القرى التي تتسع لمئتي عائلة 5،2 مليون دولار، ويوضح ان "الامم المتحدة اعطت الضوء الاخضر للبدء ببناء عشر من هذه القرى"، معددا المشاريع الاخرى التي سيبدأ العمل فيها خلال الاشهر المقبلة : مشروع لجر مياه نهر الخابور الى دهوك مع بناء قناة بطول خمسين كيلومترا عبر الجبل بكلفة خمسين مليون دولار، وشق طريق تصل بين العمادية وكاني-مازي عبر سلسلة جبال ماتين التي يصل ارتفاعها الى حوالي ثلاثة الاف متر والتي يوشك العمل فيها على الانتهاء. وستسمح هذه الطريق التي انجز القسم الثاني منها بفك العزلة عن العمادية ووسط بادينان. وسيتم بناء مستشفيات تتسع لمئة سرير المشروع الاصلي كان يشمل 250 سريرا في اكرا ودهوك وزاخو.
كما ان العمل جار حاليا في مشاريع كبيرة لاعادة التشجير وتواصل الفاو برامج الري واعادة تربية الاسماك في بحيرات كردستان، كذلك اقيمت محطات كهربائية طاقتها 29 ميغاوات بكلفة 25 مليون دولار لكل منها تعمل بالبترول في السليمانية واربيل ودهوك. وستبدأ قريبا اقامة مجاري الصرف الصحي في السليمانية واربيل بكلفة 150 مليون دولار. وهناك في كل مكان برامج للتأهيل المهني، وتقوم منظمات الامم المتحدة خصوصا الفاو بشراء مكثف للمركبات الرباعية الدفع التي تحتاجها كردستان. وتحولت قرية ديانا الكبيرة على الطريق بين اربيل ورواندوز الى مدينة مع بناء مئات المنازل للنازحين الاكراد القادمين من ايران او المطرودين من كركوك.
وتتم جميع هذه المشاريع تحت اشراف الامم المتحدة بالتعاون مع "حكومتي" اربيل والسليمانية الكرديتين، ويشكل هذا المجال الوحيد عمليا الذي يتعاون فيه الخصمان الكرديان في اطار اجتماعات عمل شهرية مع وكالات الامم المتحدة يرأسها دوريا ممثلون عن الجانبين. وتتولى الامم المتحدة مسؤولية المشاريع وتقييم الصفقات، لكن الحكام الاكراد هم الذين يقدمون اليها اقتراحات المشاريع التي تتولى مؤسسات كردية تنفيذها. ويوضح مسؤول في احدى وكالات الامم المتحدة في كردستان العراقية "اذا كنا نعمل بهذا الشكل الجيد فبسبب حرص السلطات المحلية على الاستفادة الى اقصى حد من هذا البرنامج"..
وفي موازاة البناء المادي في كردستان، تلاحظ عملية بناء ادارية تعكس رغبة المسؤولين الاكراد في اقامة ادارة حقيقية عبر اللجوء الى التقنيات والاساليب الاكثر حداثة. ففي اربيل كما في السليمانية شكل الحكام الاكراد خلايا خاصة لادارة المشاريع. ويؤكد سامي عبد الرحمن نائب "الوزير" في حكومة اربيل: "انه عملي الرئيسي"، منتقدا بطء "الماكينة الادارية" للامم المتحدة، حيث يلقى برنامج الامم المتحدة للتنمية واليونسيكو انتقادات الاكراد في حين يجمع هؤلاء على امتداح عمل الفاو معتبرين انها الاكثر فاعلية وتعاونا.
وباتت المعلوماتية موجودة في جميع الادارات الكردية التي تستفيد من طاقاتها: فحكومتا اربيل والسليمانية تقومان حاليا بانشاء قاعدة معطيات ادارية مدنية بالتعاون مع جامعة درهام البريطانية، كما قامت حكومة اربيل بأتمتة ادارة مقاتليها البشمركة وبات بامكان مسؤولي الحزب الديموقراطي الكردستاني ان يعرفوا في دقائق كم رجلا لديهم في كل وحدة، كما يمكنهم الاطلاع في كل وقت على المعدات اسلحة وذخائر وملابس عسكرية الخاصة بكل مقاتل. وتسمح هذه المعطيات التي تشمل ايضا صورة لكل مجند بمنع اي فرد من تسجيل نفسه باسماء مختلفة في وحدات متعددة وقبض اكثر من راتب.
مدرسة عسكرية
وتشكل مدرسة القوات الخاصة في زاويتا قرب دهوك التي انشأها قبل ثلاث سنوات نيشيرفان بارزاني، ابن شقيق مسعود بارزاني و"رئيس حكومة" اربيل، مؤسسة فريدة تجمع بين برامج المدارس العسكرية التقليدية للجيش العراقي وبين الخبرة التي اكتسبها ميدانيا مقاتلو حزب العمال الكردستاني. وكان قائدها عزيز عويسي عضوا في اللجنة المركزية ل"حزب تحرير كردستان" الذي شكله عبد الله اوجلان في بداية التسعينات ليحل مكان الحزب الديموقراطي الكردستاني على ارضه. وبعض قادة الكتائب في هذه القوات الخاصة هم من المقاتلين السابقين في حزب العمال الكردستاني، مثل ارارات قائد كتيبة عطروش الذي امضى سبع سنوات مع مقاتلي حزب العمال. اما اللواءان حسن وعبد الرحمن والعقيد حسين، الضباط الكبار السابقون في الجيش العراقي، اي الاعضاء في حزب البعث، فقد شاركوا في الحرب ضد ايران ثم في غزو الكويت. واليوم يدرسون المجندين في مدرسة زاويتا فنون التكتيك والاستطلاع الجغرافي والمعارك الليلية وتصويب اطلاق المدفعية واساليب الحماية من الاسلحة الكيماوية والجرثومية. ويعلم عزيز عويسي ورفاقه السابقون في حزب العمال فنون التمويه والتخفي وجميع تقنيات حرب العصابات التي مهروا فيها. وتتألف هذه القوة الخاصة التي تضم فقط متطوعين يدرسون لفترة ثلاث سنوات ونصف السنة بضع كتائب يتراوح عديدها بين 500 و 600 رجل تخرجوا جميعا من مدرسة زاويتا.
وفي موازاة هذه المدرسة العسكرية الخاصة انشأت "حكومة" اربيل في 1997 في زاخو مدرسة كلاسيكية بقيادة اللواء شهاب احمد، وهو ايضا ضابط سابق في الجيش العراقي وبعثي سابق. وتخرج هذه "الكلية الحربية" التي تعمل على نسق المدارس العسكرية التقليدية دفعات من مئة ضابط يحصلون في غضون سنتين على رتبة ملازم، في تقليد امين لبرامج المدارس الحربية العراقية. اما جامعة اربيل فيديرها سعدي برزانجي، الجامعي الذي شغل عضوية الهيئات العليا في حزب البعث. ويعكس كل ذلك قدرة نيشيرفان بارزاني على الاستفادة من معرفة ومواهب الذين كانوا قبل فترة وجيزة في صفوف الاعداء، في عملية بناء على مراحل لمؤسسات "الدولة الكردية".
عاطلون وجفاف
لكن لهذه الاندفاعة غير المسبوقة في كردستان العراقية نكساتها ايضا : فالاعمار الذي يتم بفضل اموال القرار الرقم 986 ليس موازيا للتنمية، "ليس بعد على اي حال" مثلما يوضح كريم احمد الامين العام الجديد للحزب الشيوعي الكردستاني المنبثق من انشقاق عن الحزب الشيوعي العراقي، مضيفا انه "ليس هناك في كردستان نشاط اقتصادي، و90 في المئة من السكان القادرين على العمل عاطلون".
وقد تعرضت الزراعة التي تشكل النشاط الاقتصادي التقليدي في كردستان لجفاف خطير يضرب الشرق الاوسط بكامله منذ ثلاث سنوات. كما انها تعرضت للتاثيرات السلبية للقرار 986، اذ على رغم كل المساعي التي قام بها القادة الاكراد لدى مسؤولي الامم المتحدة لم توافق المنظمة الدولية على ان تشتري من السوق المحلية المنتجات الغذائية التي يوزعها شهريا برنامج الاغذية العالمي على 3،3 مليون كردي يعيشون في المنطقة الكردية الخارجة عن سيطرة بغداد. وكانت النتيجة المباشرة لهذه السياسة ان انتاج الفلاحين الاكراد لم يعد يجد من يشتريه محليا واضطروا الى عرضه باسعار بخسة، مما الحق بهم خسائر ودفع بمعظمهم الى التفتيش عن مجالات عمل اخرى.
واثر الجفاف ايضا على انتاج الطاقة الكهربائية، بعدما فرغت تقريبا خزانات السدود في دوكان ودربنديخان، ولم يعد يعمل سوى مولد واحد من بين تسعة. ولا تزود مدن كبرى مثل السليمانية ودهوك بالتيار سوى لمدة ساعتين او ثلاث ساعات في الليلة، اما في النهار فتؤمن الطاقة من المولدات الخاصة. وفي السليمانية مثلا 280 مولدا كبيرا يمكنها تزويد حي باكمله بالكهرباء من دون احتساب الاف المولدات المنزلية الصغيرة. اما اربيل فتعتمد تماما على المولدات الخاصة. ويلاحظ "وزير" الصناعة والطاقة في حكومة اربيل يعقوب يوسف قنة اشوري بمرارة ان هناك اكثر من 1500 مؤسسة صغيرة خاصة محكوم عليها بالتوقف بسبب نقص الكهرباء "اما تلك التي تعمل فقد لجأت الى المولدات. ولذا فان منتجاتنا اعلى كلفة من تلك المصنعة في ايران او تركيا في حين ان الاجور عندنا ادنى بكثير. انها كلفة الكهرباء المرتفعة التي تجعل منتجاتنا غير قادرة على المنافسة".
استقلال كهربائي
ويقترح بعض المسؤولين لحل مشكلة النقص في الكهرباء ربط الشبكة الكردية بالشبكة العراقية، خصوصا ربط اربيل بشبكة الموصل عبر اعادة وصل خطوط التوتر العالي التي دمرت اثناء الانتفاضة الكردية في 1991 بعض قادة القبائل الكردية باعوا الكابلات في ايران. لكن قادة اكراد آخرين، وبينهم سامي عبد الرحمن، يعارضون هذا الاقتراح مؤكدين ان كردستان يجب تنجز استقلالها في مجال الطاقة الحيوي، وهو استقلال يتطلب تحقيقه ست او سبع سنوات اخرى.
وقد تأثرت المصانع القليلة الموجودة في كردستان بتقسيم المنطقة الكردية بين الحزب الديموقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة جلال طالباني. وقال "وزير" الصناعة في حكومة السليمانية عماد احمد الاتحاد الوطني "لدينا اربعة او خمسة مصانع كبيرة على اراضينا، لكن منتجاتنا محظورة في مناطق الحزب الديموقراطي وفي سائر المناطق العراقية. لذا نستخدم الاسمنت الذي ننتجه في مشاريعنا المحلية، اما بالنسبة الى السجائر والمنتجات النسيجية فتكدس في المخازن او تعرض على وسطاء" يطرحونها في اسواق التهريب. واتهم احمد الحزب الديموقراطي ايضا بمنع مرور قطع الغيار اللازمة لصيانة المصانع عبر اراضيه.
وباستثناء محترفي "البشمركة" - هناك عشرات الالاف من الرجال المسلحين موزعين على ميليشيات الاحزاب السياسية الكردية المختلفة- ليس هناك عمليا في كردستان من مهنة سوى التهريب، سواء على نطاق ضيق، مثل مهربي السجاد والسجائر عند الحدود مع ايران، او على نطاق واسع. وبعض المهربين من الفتية الذين لم يتجاوزوا العاشرة من العمر.
ففي منطقة الحاج عمران يعبرون الحدود على بعد مئات الامتار من مركز رسمي وهم يتسلقون الجبال على متن البغال المحملة بالسجاد وبعض صناديق السجائر. ويصل ربحهم الى 25 الف دينار في اليوم 12 دولارا تقريبا، وهو مبلغ لا بأس به في كردستان، لكنه لن يحولهم الى اغنياء، كما قال احد سكان القرية، لانه غالبا ما تعترضهم دوريات الجيش الايراني وتصادر كل ما بحوزتهم.
مهنة محترمة!
اما لازغين آغا فقد تردد أنه كوّن ثروة من التهريب على نطاق واسع، وهي مهنة محترمة في كردستان. وزعيم قبيلة دوسكي الكبيرة هذا كان عضوا في البرلمان العراقي في الثمانينات : اي كان "متعاونا". وقد التحق في وقت متأخر بالمقاومة الكردية وتم تعويضه بتعيينه في منصب "مستشار للشؤون القبلية" لدى مسعود بارزاني. وبحصوله على جزء من عائدات سوق السجائر المجزية. وكان لازغين آغا يشتري سجائر بريطانية من نوع روثمانز من المنطقة الحرة في مرسين التركية وينقلها الى كردستان حيث يوزعها على تجار اصغر يعيدون بيعها في ايران والعراق واحيانا في تركيا نفسها. وكان يشتري كميات كبيرة تصل الى عشر حاويات في الشهر، تتسع كل منها لنحو عشرة ملايين سيجارة. وقد اعتقل في 1996 بسبب عمله في تهريب النفط العراقي الذي كان يشتريه بسعر 20 دولارا للطن من الموصل ثم يعيد بيعه في تركيا بسعر 22 دولارا، وقال انه باع 25 الف طن، اي حقق ربحا بقيمة 50 الف دولار لان كلفة النقل كانت على حساب الزبون التركي. وهو يفكر اليوم في الدخول في مجال العقود من الباطن في اطار القرار 986.
ولازغين الثري رب عائلة "مثالي"، وهو سيزوج قريبا ابنه ميتين 28 عاما المقيم في المانيا حيث يعمل "تحريا" في سوبرماركت، اي مراقب. وما الذي يفعله ابن زعيم قبيلة كبيرة في مثل ذلك المكان؟ انه يؤمن مستقبل العائلة كما يوضح لازغين آغا، "فهو سيحصل قريبا على الجنسية الالمانية. نحن لسنا واثقين من مستقبلنا لاننا محصورون بين اربعة جدران. فاذا اغلق اعداؤنا مركز الجمارك في ابراهيم الخليل ماذا سنأكل؟ واذا قرر الجيش العراقي احتلال دهوك فسيكون هناك خلال ساعتين.. من المهم لنا اذن ان يكون لدينا احد في اوروبا اذا حصل لنا شيء. الحياة اغلى من كل اموال الدنيا".
مقاولون ووسطاء
وبعدما كانت المساواة تسود المجتمع الكردي العراقي، هزه بعنف ظهور طبقة جديدة من رجال الاعمال -مقاولون ووسطاء وحتى مهربون- يحققون في وقت قصير ثروات كبيرة، في حين يغرق معظم الناس في البؤس. الى ما قبل هذه السنوات الاخيرة كان زعماء القبائل بالتأكيد اكثر غنى بكثير من فلاحي قبائلهم لكنهم كانوا يعيشون مثلهم ويستخدمون ثرواتهم لتلبية الاحتياجات الاساسية لافراد القبيلة. وقد اختفى هذا التضامن اليوم وبات "حديثو النعمة" في كردستان يعرضون ثرواتهم بتباه يقارب الوقاحة: ففي زاخو ودهوك خصوصا، وفي اربيل ايضا، يتبختر هؤلاء بسياراتهم المرسيدس الجديدة ويبنون قصورا صغيرة فاخرة مزينة بالرخام المستورد من تركيا او مناطق اخرى. وتصدم هذه القصور المبنية على طول جادة العمادية الكثير من انصار مسعود بارزاني الذي يعترف احد المقربين منه بان "الوقت قد لا يكون مناسبا لبناء مثل هذه البيوت".
وقال مسؤول كبير في الحزب الديموقراطي الكردستاني متسائلا: "قد يظن الناس اني اكسب الكثير من المال، لكني لا امتلك البيت الذي اسكنه والسيارة التي اقودها ملك للحزب، لكن كيف يستطيع هؤلاء الناس شراء سيارات مرتفعة الاثمان وبناء منازل بهذه الفخامة؟".
يبدو الفساد، وهو موضوع مناقشته شبه محرمة، مستشريا. يقفز نيشيرفان احمد محافظ دهوك الذي عينه في منصبه نيشيرفان بارزاني لاعادة بعض النظام الى "البيت" لدى سماعه هذه الكلمة: "لا اقول انه ليس هناك فساد بالمرة، لكني اتدخل عندما اكتشف وجوده". وفي الواقع يصعب العمل مع وكالات الامم المتحدة او المنظمات غير الحكومية من دون "موافقة" الوزير المسؤول عن القطاع، والقليل من الصفقات يبرم من دون عمولة. حتى في الجامعة لا يمكن تسجيل طالب في قسم الكفاءات ما لم يكن عضوا في الحزب المسيطر على قطاع تخصصه.
مقاتلون على الورق
ويروى في السليمانية ان مسؤولا عسكريا كان يدفع رواتب الى ستين مقاتلا لم يكونوا موجودين سوى على الورق. وفي اربيل يحكى عن وزير اشترى لوزارته سيارة رباعية الدفع ثم باعها، لكي يشتريها "مستعملة" لنفسه ثم يؤجرها لاحدى المنظمات غير الحكومية بسعر عال. وفساد المسؤولين الحزبيين واعضاء البرلمان الكردي مستشر الى درجة انه يثير استياء شعبيا من الاحزاب الكردية الكبيرة. وقال موظف كردي لا ينتمي الى المعارضة: "بعض قياديينا يعيشون في منازل ضخمة ولديهم خدم كثيرون ويركبون سيارات كبيرة وينفقون الكثير من المال. ثم ان لديهم جوازات سفر اجنبية فاذا عاد صدام حسين يستطيعون المغادرة الى الخارج. لكن الناس يعرفون ذلك ولن يقاتلوا من اجلهم".
نازحون من التعريب
وفي كردستان ثلاث فئات من "النازحين" على الاقل. فالبعض كان ضحية "تطهير عرقي" في مناطق سيطرة الحزب الديموقراطي او الاتحاد الوطني حيث اضطرت عائلات يشتبه في تعاملها مع "العدو" الى النزوح مخلفة وراءها منازلها واراضيها ولجأت الى "الجانب الآخر"، سواء تلقائيا بدافع الخوف او بعد تلقيها تهديدات واعتقال بعض افرادها وتعرضهم لسوء المعاملة. ويبلغ عدد هؤلاء في الاجمال 150 الفا يعيشون في مخيمات عشوائية وفي ظروف توصف عادة بانها مخزية منذ العام 1996 او 1997 عندما نشبت المواجهات الكبيرة بين الحزبين الديموقراطي والاتحاد الوطني. وهناك نازحون آخرون هم عائلات كردية كانت تقيم اصلا في مناطق استراتيجية تسيطر عليها بغداد خصوصا في كركوك وخانقين وقرب جمجمال، لكن النظام العراقي طردها من بيوتها في اطار حملة "تعريب". وقد احتجت الامم المتحدة التي أربكها وصول هؤلاء النازحين 60 الفا في غضون سنتين لدى بغداد مؤخرا على تكثيف حملة التهجير هذه.
اما الفئة الاخيرة فتضم الاف عائلات النازحين الاكراد من ايران التي تنتظر في مخيمات موقتة في ظروف سيئة للغاية: فمخيم "المكتب السياسي" في اربيل اقيم في المقر السابق للمكتب السياسي للاتحاد الوطني الديموقراطي الذي نهبه انصار الحزب الديموقراطي الكردستاني في اب اغسطس 1996 عندما ساعدهم الجيش العراقي في طرد مقاتلي الاتحاد من عاصمة كردستان. وكانت هذه المباني اصلا مقرا للجيش العراقي. وبعد نهبها مرتين باتت اليوم في وضع رث لا يوصف لكن 1400 عائلة تقيم فيها بعد نزوحها من السليمانية وكركوك.
علياء وزوجها المقاتل وبناتهما السبع وابنهما الوحيد يقيمون في غرفة واحدة كبيرة في هذه الثكنة السابقة، تشبه الكهف لانها من دون اي منفذ على الخارج. وعند مدخلها بنيت زاوية من الحجارة والخشب لتكون مطبخا. تعيش العائلة منذ العام 1996 بفضل المواد الغذائية التي توزع وراتب الزوج البالغ 600 دينار. البنات لا يذهبن الى المدرسة بل يساعدن أمهن في المنزل. وبالقرب منهم يعيش لطيف عبد الله 33 عاما وزوجته كردستان وابناؤهما الاربعة الصغار في غرفة صغيرة مغلقة ايضا، كانت بلا شك تستخدم محجرا صحيا للثكنة. وقد طرد الجيش العراقي لطيفا المتحدر من كركوك من منزله في العام 1991 اثر الانتفاضة الكردية. وبعدما انخرط في صفوف مقاتلي الحزب الديموقراطي صار يتقاضى راتبا من 600 دينار ويعيش هو ايضا بفضل المساعدات الغذائية التي توزعها الامم المتحدة على النازحين. ولا تذهب الابنتان الكبيرتان جيهان 15 عاما وريزان 13 عاما الى المدرسة لان الاب لا يملك مالا لشراء ملابس لهما. اما شقيقهما شروان تسع سنوات فيذهب الى المدرسة قبل الظهر ويبيع السكاكر في الشارع بعد الظهر فيكسب ما بين سبعة وثمانية دنانير في اليوم. ولا يبلغ الطفل الرابع من العمر سوى بضعة اشهر.
ومثل كل العائلات التي تعيش في مخيم "المكتب السياسي" يعتقد لطيف ان العالم كله تخلى عنه: "عندما يكون الرجل فقيرا لا احد يهتم به". وعندما نسأله اي مستقبل يعد لابنائه يجيب بكلمات مفزعة: "لا شيء.. لا استطيع ان اقدم لهم اي شيء". وعما اذا كان ينوي التوجه الى اوروبا للعمل يقول "لو كنت غنيا لحاولت ذلك ربما، فالاغنياء لا يعيشون هنا".
ساحة ميتران
وفي كل يوم يعبر خبراء الامم المتحدة والمسؤولون السياسيون ورجال الاعمال الاكراد بسياراتهم الرباعية الدفع او المرسيدس بسرعة كبيرة امام المخيم، لان الطريق الى اربيل وعين كاوة، الحي المسيحي في المدينة حيث تقيم الامم المتحدة والمنظمات غير الحكومية، تمر من هناك. لكن احدا لا يتوقف ليستمع الى شكاوى هؤلاء البائسين. انهم في كل مكان، في وسط اربيل وفي ساحة فرنسوا ميتران وكذلك على بعد بضعة كيلومترات من المدينة، في مخيم بن عسلاوة، وهو تجمع هائل من الاكواخ يعيش فيه اناس بلا عمل ولا امل. وكذلك في وسط السليمانية حيث تبدو عليهم معالم الشقاء من دون ان يكترث احد لامرهم. اكثر من 150 الفا من النازحين اخرجتهم من بيوتهم المعارك بين الحزبين الكرديين، مأساتهم يمكن حلها باتفاق بين الجانبين. لكن بعد ثلاث سنوات ونصف السنة على توقف القتال وبعد اكثر من خمسين اجتماعا ل"اللجنة العليا للسلام" لا يزال التوصل الى اتفاق امرا بعيد المنال


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.