1.7 مليون ريال متوسط أسعار الفلل بالمملكة والرياض تتجاوز المتوسط    موديز ترفع التصنيف الائتماني للمملكة إلى Aa3    قوة المملكة الاقتصادية ورفع التصنيف    موسم الرياض.. رؤية لسياحة مستدامة    مطار الملك فهد: 15 مليون مسافر سنوياً    الأساس الفلسفي للنظم السياسية الحديثة.. !    إسرائيل تستهدف قياديًا في «حزب الله»    بوتين: الحرب في أوكرانيا اتخذت "طابعًا عالميًا"    الرائد يتغلب على العروبة بثلاثية في دوري روشن للمحترفين    سالم والشبان الزرق    الجمعان ل«عكاظ»: فوجئت بعرض النصر    الحريق والفتح يتصدران دوري البلياردو    مد الخليج يغرق الهلال    الاتحاد في صدارة ممتاز الطائرة    القبض على مقيم في الرياض لاعتدائه بسلاح أبيض على آخر    المدى السعودي بلا مدى    غادة عبود: أمثل حتى أثري تجربتي الأدبية    معتمر فيتنامي: برنامج خادم الحرمين حقّق حلمي    إبر التنحيف وأثرها على الاقتصاد    «الرياض» تفصلهم وتجمعهم    «سلمان للإغاثة» ينظم زيارة للتوائم الملتصقة وذويهم لمعرض ترشح المملكة لاستضافة كأس العالم 2034    جمعية تآلف تحتفل باليوم العالمي للطفل بفعاليات ترفيهية وبرامج توعوية    فيصل بن مشعل يستقبل وفداً شورياً.. ويفتتح مؤتمر القصيم الدولي للجراحة    وزير التعليم يزور جامعة الأمير محمد بن فهد ويشيد بمنجزاتها الأكاديمية والبحثية    ضبط شخص في عسير لترويجه الحشيش عبر مواقع التواصل    تعليق الدراسة الحضورية غداً بمدارس محايل عسير ورجال ألمع    اختتام المؤتمر العربي لرؤساء أجهزة مكافحة المخدرات    بمبادرة سعودية.. الاحتفاء باليوم العالمي للتوائم الملتصقة    هل تعاقب دول غربية إسرائيل بحظر السلاح ؟    الطقس يهدد الولايات المتحدة    عبدالله آل سالم يتوهج في دوري روشن    قرار التعليم رسم البسمة على محيا المعلمين والمعلمات    تأثير الذكاء الصناعي .. دفعت العائلة فدية لكنهم اكتشفوا أن ابنتهم لم تختطف    عن الدراما المسرحية والتجاهل الأكاديمي أتحدث    «حلاه يشدف» أحدث أغاني إبراهيم فضل بالتعاون مع محمد الخولاني    1850 متدربا ومتدربة على المانجا في اليابان    فنانو المدينة يستعرضون أعمالهم في جولتهم بجدة    "العوسق".. من أكثر أنواع الصقور شيوعًا في المملكة    الانسانية تحتضر    وزير السياحة يدشن شركة رملة للرحلات السياحية والمنتجعات البرية في حائل    الطاقم الطبي يحدد موقف محترف الأهلي من مواجهة العين    سيارة جايكو 8 تبدأ رحلة جديدة في السوق الإقليمي بمظهرها الفاخر للطرق الوعرة    المنتدى السعودي للإعلام يفتح باب التسجيل في جائزته السنوية    ترمب يرشح سكوت بيسنت وزيراً للخزانة    «الغذاء والدواء»: حظر الإتلاف ومنع السفر لحالات التسمم الغذائي    معتمر فيتنامي: أسلمت وحقق برنامج خادم الحرمين حلمي    سعود بن نايف يرعى الأحد ملتقى الممارسات الوقفية 2024    ضبط 19696 مخالفاً لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود خلال أسبوع    استمرار هطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    مشروع العمليات الجراحية خارج أوقات العمل بمستشفى الملك سلمان يحقق إنجازات نوعية    جمعية البر في جدة تنظم زيارة إلى "منشآت" لتعزيز تمكين المستفيدات    وفاة الملحن محمد رحيم عن عمر 45 عاما    مصر.. القبض على «هاكر» اخترق مؤسسات وباع بياناتها !    الأمر بالمعروف في عسير تفعِّل المصلى المتنقل بالواجهة البحرية    وزير الدفاع يستعرض علاقات التعاون مع وزير الدولة بمكتب رئيس وزراء السويد    «الحياة الفطرية» تطلق 26 كائناً مهدداً بالانقراض في متنزه السودة    محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية تكتشف نوعاً جديداً من الخفافيش في السعودية    أمير منطقة تبوك يستقبل سفير جمهورية أوزبكستان لدى المملكة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"الوسط" في رحلة الى قلب كردستان العراق . "القنبلة الكردية" على مشارف نفط كركوك و "لعبة الامم" الاقليمية في المرصاد
نشر في الحياة يوم 01 - 11 - 1999

يجري المشهد في ثكنة سلام، وهي قلعة ضخمة من الاسمنت تضم اكثر من 186 حجرة، وهذه القلعة التي كانت مركز القيادة للفرقة الاولى في الجيش العراقي، غدت اليوم مركز القيادة لجلال طالباني.
منكبّاً على مجسّم لمنطقة كردستان الممتدة بين كركوك والسليمانية، يتأمل اللواء جبّار فرمان القائد المساعد للقوات العسكرية التابعة لحزب الاتحاد الوطني الكردستاني المسافة التي تفصل بين السليمانية وكركوك.
ثمة ثمانية مربعات صغيرة يبلغ طول كل واحدة منها 10 كيلومترات اي ما مجموعه 80 كيلومتراً اذا اتبعنا خطاً مستقيماً.
وعلى هذا المجسّم لا تبدو الجبال والاودية التي تفصل القوات الكردية عن قلب المنطقة البترولية في العراق حواجز يتعذر تخطيها، لكن الحلم الذي يرواد جلال طالباني في ليالي أرقه منذ اكثر من ثلاثين سنة، وهو الاستيلاء على كركوك وعلى آبار النفط فيها، هذا الحلم يخشى ان يظل سراباً ينأى عن الاكراد بمقدار ما يعتقدون بانهم اقتربوا منه، فالعقبات التي تحول دون تجسيد الاحلام الكردية اشد وعورة من جبال كردستان، فلا تركيا ولا ايران كي لا نذكر سواهما، تسمحان باستيلاء الاكراد على آبار النفط في كركوك لان ذلك يؤدي الى تجسيد استقلالهم الحقيقي.
وفي الانتظار، يعد جلال طالباني فرقه العسكرية بقيادة جبّار فرحان، وهو كردي شيعي من مواليد العام 1942 في خانقين، درس الفيزياء في بغداد.
لقد دخل البيشمركة الذين يعرفون بالمقاتلين من اجل الحرية مرحلة الاحتراف، فتحولوا من ثوار الى جنود، يرتدون بزات عسكرية، ويحملون شارات مماثلة لتلك التي يحملها الجيش العراقي، ويتوزعون على وحدات المشاة وافواج المدفعية ووحدات مضادة للدروع مزودة قذائف "آر. بي. جي 7" ومدافع من عيار 106 ملم، وعلى فرق الميني - كاتيوشا التي "اشتريناها بدولاراتنا" كما يؤكد ارسلان بايز احد قادة حزب الاتحاد الوطني الكردستاني رداً على الادعاءات التي تزعم بأن الكاتيوشا هدية ايرانية.
ومع ان جبّار فرحان فخور جداً بجيشه الجديد، فهو يدرك تمام الادراك ان ميزان القوى مع بغداد غير متكافئ "فكل البلدان التي تحيط بنا لا تسمح لنا باقتناء اسلحة جديدة كفيلة بتعديل الخلل".
لقاء على مستوى القمة
والواقع ان الذي لا يأتي على ذكره احد ان هذه الاسلحة الجديدة التي تتكدّس في كردستان معدّة للاستخدام في قتال كردي - كردي. ومنذ توقيع اتفاق واشنطن بين الحزب الديموقراطي الكردستاني وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني، لم يكن الوضع متوتراً بين الحزبين كما هو عليه الآن. فما من بند من بنود الاتفاق شق طريقه الى التنفيذ ولا سيما توزيع العائدات الجمركية، واجتماع البرلمان الكردي، وتشكيل حكومة جديدة تمهيداً لاجراء انتخابات تشريعية كان من المفترض ان تتم في اول تموز يوليو 1999 وهي انتخابات يتفق الجميع على استحالة اجرائها في الظروف الراهنة.
ولقاء القمة الذي تم في صلاح الدين في 8 كانون الثاني يناير ترك املاً في انفراج الازمة، او للمرة الاولى اذا استثنينا لقاء واشنطن في ايلول سبتمبر 1998، يلتقي الزعيمان الكرديان وجهاً لوجه منذ اربع سنوات. جرى اللقاء في اجواء مريحة نسبياً، وقد عاد جلال طالباني ووراءه شاحنتان محمّلتان بأوراق نقدية تبلغ قيمتها 60 مليون دينار عراقي بينها مليون دولار اميركي من فئة المئة دولار و40 مليون دولار من فئتي الخمسة والعشرة دنانير، وهذا المبلغ وفقاً لمصادر الحزب الديموقراطي الكردستاني هو حصة حزب الاتحاد الوطني من عائدات الجمارك عن اربعة اشهر بمعدل 15 مليون دينار في الشهر علماً ان الاتحاد الوطني يطالب بخمسين مليون دينار شهرياً.
هذا اللقاء بين الزعيمين ظل يتيماً وظل تطبيع العلاقة بين الحزبين يراوح مكانه فالمكتب الذي كان يفترض ان يفتحه كل حزب في منطقة الآخر، بقي حبراً على ورق. وفي كلتا المنطقتين ثمة ما يزيد على 70 ألف مهجّر يعيشون في اوضاع مزرية لانهم ضحايا "التطهير الايديولوجي" اذ صار يتعذر على عائلة ينتمي احد اعضائها الى الحزب الديموقراطي ان تعيش في منطقة يسيطر عليها الاتحاد الوطني والعكس صحيح. وقد تعرضت المنازل المهجورة في كلتا المنطقتين للنهب واحتلها في معظم الاحيان اعضاء من النخبة في الحزبين المتنافسين.
وخلال شهر ايار مايو المنصرم، اسهمت بعض الاحداث في جعل الاجواء بين الحزبين اشد توتراً، فقد خرق جلال طالباني الهدنة الاعلامية وهاجم الحزب الديموقراطي في مقابلة بثها التلفزيون الايراني. فردّت "برياني" الصحيفة الناطقة باسم الحزب الديموقراطي بمقال عنيف، اضف الى ذلك اعتقالات نفذها كلا الحزبين فضلاً عن تخلف الاتحاد الوطني عن حضور الاجتماع الاسبوعي ل"لجنة التنسيق العليا" التي يرأسها عزيز محمد الامين العام السابق للحزب الشيوعي العراقي. اما الحادث الخطير الذي كاد يفجّر الوضع في كردستان فقد وقع في 24 ايار، عندما قامت مجموعة من حزب العمال الكردستاني قوامها مئة مسلح بعبور المنطقة التي يسيطر عليها الاتحاد الوطني، ومهاجمة مواقع الحزب الديموقراطي حول خسرو جنوب شومان، وقد جاء على لسان حسن بيروت، وهو مقاتل كردي عراقي من حزب العمال 18 عاماً وقع اسيراً في يد الحزب الديموقراطي خلال الهجوم، ان قائد المجموعة عنّف رجاله قائلاً: "سنهاجم الحزب الديموقراطي لمعاقبته على اسهامه مع الاميركيين والاسرائيليين في اعتقال عبدالله اوجلان". وبعد اصابة القائد المساعد لقوات كومندوس حزب العمال بجروح بليغة بعد انطلاق الهجوم بفترة قصيرة، انكفأ رجال الكومندوس الى قاعدتهم الخلفية بعدما كبّدوا الحزب الديموقراطي خسائر فادحة.
وهذا الحادث الخطير يقدم دليلاً واضحاً على ان حزب الاتحاد الوطني بزعامة جلال طالباني، خلافاً لما تم الاتفاق عليه في واشنطن، يستمر في التعاون مع مقاتلي حزب العمال الكردستاني في المناطق الخاضعة لنفوذه. وقد ذكر احد كوادر الحزب الديموقراطي "اذا تكرر هذا الحادث فان الحرب ستندلع ثانية مع حزب الاتحاد الوطني".
ولأن الاتحاد الوطني لم يطبّق البند المتعلق بعزل حزب العمال الكردستاني، ولان الحزب الديموقراطي لم يطبّق البند المتعلق باقتسام العائدات الجمركية، ولان الجدال محتدم بين الحزبين حول النتائج الحقيقية لانتخابات 1992 التي سيجتمع البرلمان الكردي على اساسها، فان كلاً من الحزبين يلقي على عاتق الآخر مسؤولية الفشل في تطبيق اتفاق واشنطن الذي لم يعلن عن وفاته رسمياً وان كان في حكم المجمّد او المعلّق.
مليون دولار يومياً
بعد تحقيق مطوّل اجريناه في مختلف انحاء كردستان، يخرج المرء بالانطباع التالي وهو ان الوضع الراهن يصبّ في مصلحة الحزب الديموقراطي الذي يبسط سلطته على الجزء الاكبر من اراضي كردستان الحرة، بما فيها محافظة دهوك ومحافظة اربيل "العاصمة" ويبلغ عدد السكان في هذه المناطق 1.8 مليون نسمة، في حين ان الاتحاد الوطني لم يعد يسيطر منذ 31 آب اغسطس 1996 الا على محافظة السليمانية 1.5 مليون نسمة علماً ان الحزب الديموقراطي يسيطر على المنطقة الحدودية مع تركيا ويضع يده على العائدات الجمركية في مركز ابراهيم الخليل حوالي مليون دولار يومياً، ومما لا شك فيه ان "بارزاني لاند" اكثر رخاءً وازدهاراً من "طالباني لاند" كما ان شبكة الطرقات في منطقة الحزب الديموقراطي افضل بكثير من مثيلتها في منطقة الاتحاد الوطني، فضلاً عن ان حكومة اربيل تدفع رواتب موظفيها بانتظام، في حين ان المدرسين والمتقاعدين في السليمانية قاموا بتظاهرات عدة احتجاجاً على التأخير في دفع مستحقاتهم، ولا يخفي سكان السليمانية حسدهم من الرخاء النسبي الذي تنعم به اربيل ودهوك.
بعد جولات عدة من المعارك الطاحنة، يعمل الحزب الديموقراطي على تثبيت الوضع الراهن الذي يعزز موقعه والذي يذكّر بقيام "كانتونات" في لبنان خلال الحرب الاهلية.
ويشير سامي عبدالرحمن عضو المكتب السياسي في الحزب الديموقراطي ورئيس الوفد المفاوض في واشنطن صراحة الى هذا الواقع مؤكداً "ان الناس لا يريدون حكومة مركزية على غرار السابق، والوضع القائم في كردستان هو وضع فريد من نوعه. فأربيل هي العاصمة التاريخية والسليمانية هي العاصمة الثقافية ودهوك مدينة تتطور، ومن المستحسن قيام ادارة مرنة اذ لا احد يريد ادارة مركزية صارمة".
وثمة مسؤولون في الحزب الديموقراطي يشيرون من دون تحفظ الى قيام فيديرالية ضمن فيديرالية "اي فيديرالية المناطق الكردية ضمن عراق فيديرالي، فالعرب - على حد تعبير فيلق الدين احد مستشاري مسعود بارزاني - لديهم 22 حكومة، فلماذا لا يكون للأكراد حكومتان؟".
وهذا الحل من شأنه ان يضاعف المناصب والوظائف، وحالياً ثمة رئيسان للحكومة احدهما في اربيل والآخر في السليمانية، وكل المناصب الوزارية، والعسكرية والممثلين في الخارج، تضاعف عددهم مع ما يترتب على ذلك من منافع مادية، الا ان مسعود بارزاني صريح وجازم في ما يتعلق بوحدة كردستان، اذ يؤكد ان"من المستحيل القبول بتقسيم كردستان، فالوضع الحالي موقت، والمسألة ستجد حلاً".
قرار ثلاث دول
نظرياً من الصعب اتهام الاتحاد الوطني بأنه يرغب في المحافظة على الوضع الراهن، فبعد خسارة اربيل وسقوطها في ايدي الحزب الديموقراطي بالتعاون مع الجيش العراقي في 31 آب اغسطس 1996، اعتبر جلال طالباني وكسرى رسول رئيس حكومة الاتحاد الوطني الأمر اهانة شخصية لهما، ولدى مسؤولي الاتحاد الوطني، وفي طليعتهم جبار فرمان، اقتناع راسخ بأنه لولا الدعم الذي يتلقاه الحزب الديموقراطي من دولة اجنبية تركيا "لكان بوسعنا خلال عشرة أيام طردهم الى ما وراء نهر قنديل في منطقة بادينان" بعيداً عن أربيل.
ترى هل ادرك قادة الاتحاد الوطني ان الدول الاقليمية الثلاث التي تتدخل مباشرة في شؤون كردستان وهي ايران والعراق وتركيا لن تسمح لأي فريق بالسيطرة على كامل التراب الكردستاني، وبإقامة ادارة كردية حقيقية، مفضلة ان ترعى عدم استقرار لا يخرج عن سيطرتها؟
من الصعب تأكيد هذا الأمر فمسعود بارزاني وقادة الحزب الديموقراطي يتهمون جلال طالباني بتدبير مؤامرات بالتواطؤ مع الايرانيين ومع فيلق بدر المكون من عناصر شيعية تتواجد في ايران بقيادة محمد باقر الحكيم.
والواقع ان جلال طالباني الذي صادرت السلطات الايرانية جواز سفره قبل فترة، يدرك جيداً مدى المساعدة التي يمكن ان يتوقعها من الايرانيين فهي في حدها الأقصى تصل الى تكثيف التبادل التجاري، والى بعض التسهيلات في عمليات الترانزيت. وثمة انطباع ان طالباني يحوّل انظاره نحو بغداد معلقاً عليها الآمال ومراهناً في الوقت ذاته على سقوط نظام صدام حسين او على تسوية معه.
رسمياً يعبّر طالباني عن رضاه التام عن المبادرات الاميركية الاخيرة ولا سيما عن القانون الذي تبناه الكونغرس "قانون تحرير العراق" وصدّق عليه الرئيس كلينتون. لكن ضباطه لا يخفون شكوكهم بصدد المخططات الاميركية، والغريب في الامر ان هذه الشكوك تتقاطع مع شكوك الحزب الديموقراطي. وقد اعلن جبار فرحان "ان السماح للمعارضة العراقية بإقامة قاعدة في كردستان سيكون خطأ فادحاً. ان ما يجري في كوسوفو قد يتكرر هنا" ثم أضاف: "لا نريد ان نكرر هذا الخطأ. نحن جاهزون للمشاركة عندما يقدم لنا الاميركيون الدليل على ان لديهم خطة واضحة لاسقاط صدام حسين، وعندما يشرحون لنا خططهم للدفاع عن كردستان. وعلى الاميركيين امدادنا بأسلحة تتيح لنا الدفاع عن انفسنا، كالمضادات الأرضية للطيران وصواريخ سام - 7 او ستينغر، وصواريخ مضادة للدروع، وعليهم مضاعفة المساعدات المالية التي تسمح لنا بتجنيد عدد اكبر من مقاتلي البيشمركة. نحن لسنا بحاجة الى قوات برية بل بحاجة الى اسلحة عصرية".
احلام وميليشيات
ولكن ماذا لو رفض الاميركيون تسليحكم كما هو الوضع حالياً، قبل ان يتصالح الحزبان الكرديان؟ يرد جبار فرمان: "سننتظر الفرصة السانحة لاسقاط صدام حسين، او ربما كان علينا ان نتفاوض مع الحكومة العراقية ونحاول الحصول على بعض التنازلات. نحن لن نقبل بأن نزج انفسنا في وضع حرج يُخشى ان يجعلنا نخسر كل شيء". وعندما نسأل القائد المساعد للقوات العسكرية التابعة لحزب الاتحاد الوطني كيف يمكنه في جملة واحدة ان يتحدث عن اسقاط صدام حسين بمساعدة الاميركيين، وعن التفاوض معه في شأن الوضع السياسي للأكراد، يجيب جبار فرمان من دون تردد: "الاميركيون لا يدعوننا نحقق احلامنا، وماذا تعمل عندما لا تستطيع الحصول على ما انت تقاتل من اجله؟".
من المفارقات الغريبة ان أفضل من يحلل الاستياء الذي يخيّم على كردستان كان من اكثر المقربين الى جلال طالباني والرجل الثاني في حزب الاتحاد الوطني لفترة طويلة. يقول نور شيروان وهو حالياً شبه متقاعد في انكلترا، ويقوم بزيارات الى كردستان بين حين وآخر: "عندما كنا في الجبال، كانت لنا احلام كثيرة، اما اليوم فلدينا ميليشيات متعددة، وليس لدينا احزاب. اننا نفتقر الى الديموقراطية. لقد قضيت حياتي في خدمة الحركة الكردية الوطنية، ولا يمكنني حالياً الذهاب الى اربيل".
وعندما يتحدث نور شيروان الذي نشر حديثاً كتاباً بعنوان "احلام ام كوابيس" عن الفساد المستشري في كردستان، يبدو متشائماً جداً حيال امكان اجراء الانتخابات "فثمة نهر من الدماء يفصل بيننا" ويختم الحوار بهذه الصراحة المذهلة: "لن تجري الانتخابات أبداً، ما لم يكن جلال طالباني قد ضمن الفوز فيها".
ترى من يضمن الفوز حالياً في انتخابات كردستان العراق؟ بكل تأكيد لن يكون طالباني الفائز، فهو لم يستطع ان يؤمن الرخاء للناس الذين يعيشون في مناطق نفوذه، علماً ان الناس تعبوا من الصراع الذي لا ينتهي بين القادة. وقد لا يكون بارزاني اوفر حظاً فالخطر يتهدده على اكثر من جبهة. جبهة حزب العمال الكردستاني وجبهة الاتحاد الوطني، وجبهة الحركة الاسلامية الصاعدة.
ولمواجهة خطر حزب العمال الكردستاني، يجد الحزب الديموقراطي نفسه مضطراً الى زرع منطقة البادينان بالمواقع العسكرية وبالحصون الصغيرة على امتداد محاور الطرق، والى استنفار آلاف مقاتلي البيشمركة بطريقة تعيد الى الأذهان التشكيلات القتالية التي كان يرسلها النظام العراقي قبل عشرين سنة لمقاتلة الثوار الأكراد التابعين للحزب الديموقراطي.
نضال مشرف
في البادينان يسيطر حزب العمال الكردستاني على جبلي مانان وغارا وهما يطلان على الوادي الذي تخترقه طريق يربط بين بارزان وأماديا ودهوك. وثمة مناطق عسكرية تخلى عنها الحزب الديموقراطي لحزب العمال كالطريق الذي يربط بين سرسنغ وبامارته، او الطريق الذي يمر في سفوح بارزان في اتجاه الحدود التركية. وما يدعو الى القلق ان نصف رجال الكوماندوس، من مقاتلي حزب العمال الكردستاني الذين هاجموا مواقع الحزب الديموقراطي في خسرو خلال ايار مايو الماضي، هم من كردستان العراق، وهؤلاء بدلاً من ان يلتحقوا بالاتحاد الوطني او بالحزب الديموقراطي اختاروا حزب العمال الكردستاني لأنه في نظرهم يخوض نضالاً مشرّفاً.
ومن المؤشرات المقلقة لحزب بارزاني، النتيجة التي اسفرت عنها انتخابات التنظيمات الطلابية في شهر كانون الثاني يناير الماضي. ففي دهوك فاز الاسلاميون بنسبة 60 في المئة من اصوات المقترعين في كليتي الطب والفقه، ومع انهم لم يحرزوا غالبية الاصوات في سائر الكليات، فقد حصلوا على نتائج لافتة.
وهذا الاقتراع كان بمثابة احتجاج من قبل انصار الاتحاد الوطني الذين لم يشكلوا لائحة، لكنهم صوتوا للاسلاميين نكاية بالحزب الديموقراطي. وقد اتاحت الانتخابات الطلابية الفرصة امام الكثيرين للتعبير عن اشمئزازهم من الثراء الفاحش الذي حققه بعض قادة الحزب الديموقراطي المحليين من عمليات التهريب الوقود والسجائر والكحول مع تركيا، في حين ان معظم الموظفين يواجهون شظف العيش لأن رواتبهم تتراوح بين 15 و20 دولاراً اميركياً في الشهر.
وبعض المستفيدين من هذا الوضع يعيش حياة مترفة للغاية ويبني قصوراً فخمة، ويقيم مخازن كبيرة لا تقع على ما يشبهها في سائر انحاء العراق.
وأفرزت الانتخابات اختراقاً اسلامياً في البادينان، ولئن كان بارزاني يلاحظ بارتياح قيام حركة اسلامية في كردستان تتمركز في حلبجة حيث كان للشيوعيين نفوذ كبير، وحيث الشيخ علي الذي خلف اخاه الشيخ عثمان يملك قوة عسكرية يتراوح عددها بين 1500 و2000 مقاتل، فهو لا يستطيع ان يشعر بالارتياح عندما تمد الحركة الاسلامية جذورها في المنطقة التي تعتبرها عائلة بارزاني معقلها.
الديموقراطية والعنف
يقول احد مستشاري بارزاني: "حتى الآن نحن لا نعرف كيف ستكون ردة فعلنا، فنحن جميعاً مسلمون، ومن الطبيعي ان يكون للاسلاميين نشاطهم، اما الآن فان الأمور اتضحت، وهم حزب يتلقى مساعدات مالية ضخمة من بعض دول المنطقة ويستميل انصاره بتوزيع المساعدات والأموال على الفقراء والمحتاجين. نحن لا نخشى مواجهة هؤلاء، والتعامل معهم كما نتعامل مع اي حزب سياسي آخر".
ولدى سؤاله عن ممارسات بعض الملالي في الشؤون العامة على غرار ما يقوم به الملا بشير في اربيل، يطلق بارزاني تحذيراً واضحاً فيقول: "طالما ان الاحزاب الاسلامية لا تلجأ الى السلاح والعنف، وطالما انها تمارس نشاطها بطريقة ديموقراطية، فنحن لن نمنعها من العمل شأنها في ذلك شأن سائر الاحزاب. ولكن اذا لجأت هذه الاحزاب الى العنف، وتحول اعضاؤها إرهابيين، فإن السكان والسلطة لن يسمحوا لهم بذلك".
ان الفترة التي قضاها بارزاني في دهوك كانت مقررة منذ امد طويل كما يؤكد المقربون منه، ولا علاقة لها من قريب او بعيد بالمكاسب التي حققها الاسلاميون في الانتخابات. وقد يكون الأمر صحيحاً، لكن صرف بعض الموظفين في الادارة المحلية وبعض الانتهازيين الذائعي الصيت لن يكفي لاستعادة الثقة. ولكي تستعيد الأحزاب التقليدية اعتبارها وهيبتها يجب ان تضع حداً نهائياً لنزاعاتها الانتحارية وان توحي للناس بأنها تعمل من اجل خير المجموعة العام، بدءاً بإزالة "جدار برلين" بين منطقتي نفوذ الحزب الديموقراطي والاتحاد الوطني. وعلى الزعماء الأكراد ان يدركوا ان "كردستان الحرة" اصبحت في نظر معظم اهاليها "سجناً كبيراً يملك مساجينه حرية الدوران في حلقة مفرغة" كما جاء على لسان جليل الجليلي، وهو كردي من ارمينيا جاء لزيارة ارض آبائه وأجداده.
في هذه اللوحة الحالكة السواد ثمة شعاع امل، فمنذ فترة، تشهد كردستان العراق ازدهاراً اقتصادياً لم تعرفه من قبل، وذلك بفضل قرار مجلس الأمن الرقم 986. فمن اصل كل مليار دولار من مبيعات النفط العراقي، تمنح كردستان مبلغ 130 مليون دولار، تنفق باشراف الامم المتحدة لتأمين المواد الغذائية والدواء وفي اطار برنامج خاص للتنمية. وسمح للعراق لاحقاً ان يضاعف حجم صادراته من البترول، ومع ان اسعار النفط الخام انخفضت بشكل حاد قبل ان ترتفع مجدداً، فان كردستان نالت في المراحل الرابعة والخامسة والسادسة حوالي 600 مليون دولار.
ورغم التوتر بين الحزب الديموقراطي والاتحاد الوطني، ورغم قيام حكومتين متنافستين في اربيل والسليمانية، فان الحزبين يتعاونان مع الأمم المتحدة لانفاق المبالغ المستحقة، وقد انشئت لجنة مشتركة لهذا الغرض في 15 آذار مارس 1998 يتناوب على رئاستها من الجانب الكردي وزيرا الشؤون الانسانية شفيق قزاز الحزب الديموقراطي وسعدي بيرا الاتحاد الوطني وتضم هذه اللجنة وكالات الأمم المتحدة الثماني المعنية بشؤون كردستان فضلاً عن الحكومتين الكرديتين.
يقول سعدي بيرا: "للمرة الاولى ينفق الاكراد اموال النفط الكردي على الأكراد، أما سابقاً فإن بغداد كانت تستخدم اموال النفط الكردي لشراء اسلحة تحارب بها الأكراد" وفي كل انحاء كردستان، حتى في القرى النائية يمكن ان نرى لافتات تشير الى بناء مدارس او مستوصفات، او الى مشروع جر المياه او بناء مولد كهربائي.
لقد ترك تطبيق القرار 986 انعكاسات ايجابية على السكان، فتوزيع المواد الغذائية، من خلال برنامج الغذاء العالمي، ترك ارتياحاً لدى المواطنين الذين يحصلون شهرياً على "سلة غذائية" قد لا تكون نموذجية، لكنها تكفي لتجعلهم في منأى عن الجوع، وتتيح لهم ان يكرسوا عائداتهم الضئيلة لمشاريع اخرى. لكن توزيع المواد الغذائية ولا سيما الطحين ترك انعكاساً سلبياً على الزراعة المحلية التي لم تعد تجد منافذ لتصريفها. ولا يكف الزعماء الأكراد عن لفت نظر مسؤولي الامم المتحدة الى هذه المشكلة التي تغري عدداً من القرويين الاكراد بالنزوح الى المدن. ولا بد من اقامة نظام آلية يسمح للأمم المتحدة بشراء القمح من المزارعين بواسطة حساب في الخارج كما ينص عليه القرار 986.
واذا تركنا جانباً هذا التفصيل المهم، فإن المبالغ التي يوفرها القرار 986 لا تموّل فقط برامج حيوية بالنسبة الى السكان، بل انها تساعد في تحقيق مشاريع كردية وفي خلق وظائف جديدة وتسهم في اقامة ادارة كردية عصرية وفاعلة. ان توظيف مئات ملايين الدولارات في منطقة يبلغ عدد سكانها 3.3 مليون نسمة من شأنه ان يغير وجه كردستان.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.