خَدعت الحيل السينمائية المتقنة التي عجّ بها شريط "هاري بوتر وحجر الفيلسوف" ملايين المشاهدين الذين تهافتوا على عروضه، وأخفت عنهم المغازي السياسية التي أرادت الكاتبة جي كي رولنغ ولدت العام 1965، وبدأت الكتابة وهي في الخامسة العشرين من العمر ان تمررها بدءا من لعبة الفوارق الطبقية والقابها التي يشغف بها البريطانيون حتى اليوم وانتهاء بتفوق الانموذج الاوروبي وقدرته على صنع تواريخ وابطال وظواهر.. وخوارق، مرورا بتوريات أمجاد القوة وتوابعها من التقنيات التي ستنتصر لاعلاء مثله وقيمه، وفوق هذا كله النصر التجاري الذي سيصل بحكاياته الى كل وجدان ويرصف دربه بملايين الدولارات بيع من حكاياته حتى الآن 124 مليون نسخة في ارجاء العالم، وحقق الفيلم 220 مليون دولار منذ بدء عروضه وحتى الثاني من الشهر الجاري ويحوله رمزاً للعولمة الثقافية : تقول عنه نائبة مدير مدرسة السحرة المعروفة باسم هوغورت البروفيسورة مانيرفا ماك كونكال: "سيكون مشهورا اسطورة لن أُدهش اذا عُرف اليوم بيوم هاري بوتر في المستقبل ستُكتب عن هاري بوتر الكتب كل طفل في عالمنا سيلهج باسمه" وبعدها يعلن العملاق روبيوس هاغريد للصبي ذي الاعوام الحادية عشرة وهو فاغر فاه "انت مشهور" قبل ان يسلمه رسالة الالتحاق بمدرسة القوى الخارقة، وفي ختام مغامراته سيذكره رفيقه الحميم رون "إبق مشهورا". ولد هذا اليتيم الذي فقد والديه الساحرين اثر معركة مع الشيطان اللورد فولديمورت الذي سيواجهه هاري لاحقا عندما يصارعه للحفاظ على حجر الفيلسوف في فصل "الرجل ذو الوجهين" في العام 1996 تاريخ انجاز رولنغ كتابة النص الذي نشر في تموز يوليو 1997، ليُصنع منه بطل جديد للامثولة الغربية المعاصرة، تتقاطع مغامراته مع سابقيه من أقرانه بكثير من التفاصيل حتى يخال المرء ان حكاية هاري بوتر وتفاصيلها ما هي الا مجموعة أوصال جمعت علي طريقة الوحش المعملي فرانكستاين: فمناكدة الازعر دودلي وعائلته لهاري ستذكرنا بما لاقته سندريلا، ومرآة آريسيد التي ستمده بوجهي والديه او قرائن أصله العائلي قريبة الشبه بمرآة بياض الثلج سنو وايت، والرحلة العجائبية في الجدار الفاصل بين حياتيه عند الرصيف 9 وثلاثة ارباع!، هي تنويع آخر على رحلة البطلة الصغيرة دوروثي في "ساحرة أوز" او العجائب التي مرت بها "أليس في بلاد الخيال"، وعباءة الاخفاء لن ينطلي مصدرها على النبيه، والعملاق هاغرد ليس سوى صنو الجرادة جيميني كريكت التي تمثل الضمير الحامي للبطل الخشبي "بينوكيو"، وما طيرانه بمساعدة المكنسة السحرية سوى تنويع على طيران بيتر بان، والمباراة الطائرة بين فريقي المدرسة تجد صداها في نظيرتها لدى جورج لوكاس في "حروب النجم"، كما ان رحلته في الغابة ستستعيد بعضا من تشويق الرحلة القصيرة للبطل الصغير في شريط ستيفن سبيلبيرغ "اي تي"، ومثلها مغامرات الاميرة الصغيرة في حكاية "الحديقة السرية" لفرانسيس هودغسون بارنيت وغيرها. من الصعب ادراج كل التشبيهات في كتاب هاري الاول، اذ أفلحت رولنغ في اعتماد اسلوب شديد السهولة ماهت فيه مواقع تلك الاستعارات، الامر الذي يجعل سقوط القارىء في فخ لعبة تخيل العوالم العجائبية التي وجد هاري نفسه وسطها، بارادة المؤلفة، مدعاة لمتعة لا تضاهى عند القراءة، لكنها اي المتعة ستتحول الى كم هائل من الانبهار الذي تفجره المشهديات الباذخة. فما من مشهد في هذا الشريط الاّ واحتوى صنعة كومبيوتر تردد صدى دهشتها جدران صالات العرض الفيلم بالنهاية مصنوع حسب مقاييس هوليوود وهو حجر الاساس للكارتل المؤثر وورنر أي أو أل الاميركيتين، وعلي يد أحد أشهر تقنييها المخرج كريس كولومبس صاحب "السيدة دوتفاير" و "وحيدا في البيت"، والآهات التي تطلقها الصدور المكلومة للكبار قبل الصغار بميلودراما أقدار وحظ اليتيم هاري الذي سيبزّ الجميع بحنكته وشجاعته وبطولاته التي ستشع على الشاشة بعد ضنك حياة على يد عائلة الخالة بيتونيا والصبي دودلي والخال فيرنون دورسلي وتعمدهم إهانته واستلاب شخصيته. هنا يأتي الفيلم بخطابه الاكثر اقناعا بفرادة هاري تمثيل دانيل رادكريف وعالميه المتناقضين، فهو الكائن البشري الذي يخفي خلف نظارتيه الدائريتين وابتسامته وتسريحة شعره التي تُقلد ما اشتهر به فريق "الخنافس" الموسيقي الشهير بطلا مضمرا سيحيل العطف وهي الاخت الصغرى للاحتقار؟ الذي سيسبغه الاخرون عليه كيتيم، الى بطولات تتوالى وهو يشحذ قدراته على استعمال ملكات السحر ضد الشرير اللورد فولديمورت وسعيه للحصول على كينونته الحجر، ولكي لا يبدو بطلنا أناني العزم أوجدت الكاتبة رولنغ الثنائي المتصادم على الدوام رون تمثيل روبرت غرنت وهرمايون أيما واطسون، لتجتمع اراداتهم في مقارعة "الاعداء" المفترضين: البروفيسوران كورييل الممثل ايان هارت ذو العمامة الشرقية، وسناب الممثل الآن ريكمان الذي ينقل ثأره من والد هاري الى الاخير، والثلاثي الفتي دراكو وكراب وغويل. وحينها تتوالى الانتصارات: هاري يصل الى المرآة، ويرث عباءة الاخفاء عن والده الراحل ينصحه برسالته: استخدمها بحكمة، ويكتشف مع صاحبيه المكتبة الخفية بعد المواجهة مع الكلب ذي الرؤوس الثلاثة، ومن ثم الى صالة الشطرنج التي تدب الحياة في أحجارها عند اعلان اللعب، قبل ان يفلحوا في الوصول الى الموقع السري حيث حجر الفيلسوف. سيكون السبيل ممهدا من اجل تأهيل هاري كساحر فريد من نوعه وتغلبه على الارواح الشريرة، ومن ثم اعداده لمغامرات سينمائية جديدة ستقتبس عن الكتب الاخرى التي تنوي الكاتبة رولنغ جعلها سبعة. حينما تنتهي السنة الدراسية سيقف الجميع في وداع يتيم مدرسة هوغارت الذي وجد اصدقاء وخلانا كثيرين، وهو هنا مثل صغيرة "ساحرة أوز" سيفضل العودة الى المنزل، لانه سيمضي اوقاتا سعيدة مع دودلي هذا الصيف، فافراد تلك العائلة "لا يعرفون اننا ممنوعون من استخدام السحر في منازلنا!!"ص223 في تورية عن عزمه تلقينه درسا لن ينساه بمواهبه الجديدة، غير ان ما يبقى من طعم المتعة في حكاية هاري المكتوبة سيحرض كثيرا على متابعة الكتب الاخرى، فيما يموت الشغف فور انتهاء الشريط السينمائي المقتبس عنها، وهنا مكمن العلة فيه. اذن ما السر في هذا النجاح المدوي؟: الجواب ان الفيلم مثل الرواية نزع نحو الوطنية، فالمفاخرة بالبطولة البريطانية وعلو محتدّها وعراقة تاريخها ورسوخ ثقافتها وتفرد نظمها الاجتماعية كلها توافرت في العملين بشكل لا يمكن المساومة عليه او الغاؤه اوالتلاعب فيه او على الاقل تغيير معالمه رفضت الكاتبة رولنغ مساعي المخرج سبيلبرغ لامركة الابطال والاحداث والمواقع، الامر الذي دفعه الى الاستغناء عن المشروع. انه مشروع بريطاني قح يهدف الى تسليع النموذج بعمومياته كل واحدة من الشخصيات ترتدي مثلا ملابس تعود الى حقبة تاريخية معينة، وزقاق دايغون الذي سيذهب اليه هاري كي يشتري ملابس المدرسة وعدة السحر، يستعيد ديكورات روايات تشارلز ديكنز لا ثقافته. هاري بوتر يتيم العولمة التي تبغي نشر صورته في اصقاع العالم ترجمت الرواية الى 42 لغة غير معني اطلاقا بتخفيف المبالغة في المباهاة بالقومية. والسؤال: هل سينبري البعض للكشف عن الدعاية الصفراء التي تُمرر تحت غطاء براءة ابتسامة البطل الصغيرالذي بزّ الديناصورات ووحوش الفضاء، حين تجد طريقها الى شاشات دور العرض العربية؟ .