كانت بلقيس، الفتاة الفلسطينية التي لم تتعد الرابعة عشرة من عمرها، تعيش اجمل لحظات حلمها، وهي تغط في نوم عميق، حين داهمها أزيز الرصاص وصفير الصواريخ وفرقعة القنابل ودوي الانفجارات، لتهز جسدها الغض وتزعزعه فتقفز من فراشها وهي لا تدري ان كانت في حلم ام في حقيقة. الظلام حالك والساعة لا تزال الثالثة فجراً، فأي اصوات يمكن ان تصدر في مثل هذا الوقت، لابد انه حلم، هكذا كان سيفكر كل شخص كان بمكانها، الا ان تعالي الصرخات وزخ الرصاص جعلها تنتفض من مكانها مرة اخرى. فهرولت بهلع نحو مصدر الصوت واذا بالصواريخ الاسرائيلية تقصف بيت شقيقها القريب منها، عندها استوعبت بلقيس ما يدور حولها. وأيقنت بأن هذا حقيقة وليس حلماً، لكنها لم تكن تدري ان هذه الصواريخ ستحرمها من الحلم مرة اخرى والى الابد. وبلقيس عارضة، الشهيدة الفلسطينية التي قتلت في أبشع عمليات للاحتلال مع شقيقها سفيان واصيب معظم افراد عائلتها، لم يعرف عنها اي مخلوق سوى أهل حيّها وبلدتها وسكان مدينة جنين الفلسطينية المحتلة. فدمها لم يكن في ذلك الوقت يعني لاحد شيئا، فدماء ضحايا الاعتداءات الارهابية على نيويورك وواشنطن كان يشغل العالم كله، ليترك لشارون اليد المطلقة ليفعل ما يشاء بالفلسطينيين، فيحتل ويقصف ويقتل ويعذب ويعتقل. وما حدث لبلقيس وشقيقها سفيان لم يكن بالحدث النادر، فخلال تسعة ايام من احتلال جنين استشهد 14 فلسطينياً وفلسطينية ووراء كل استشهاد كانت قصة معاناة مرعبة، عدا المصابين الذين تعدى تعدادهم المئة، ومنهم من فقد اطرافاً من جسده او عينيه جراء الرصاص والقصف. وحتى الانسحاب الذي اعلنت عنه اسرائيل من جنين لم يكن سوى تراجع بضعة امتار عن المواقع التي كانت تتمركز فيها الدبابات الاسرائيلية، فأهالي جنين لا يزالون يعانون الحصار الخانق، يضمّدون الجراح ويحصون آثار الجريمة، وما خلفه الاحتلال في هذه الفترة في جنين، من دمار وتخريب، يحتاج الى وقت طويل والى ملايين الدولارات لاعادة المدينة الى ما كانت عليه. لقد جاء احتلال عدد من احياء جنين، كما هو معروف، قبل حوادث التفجيرات في نيويورك وواشنطن. وكان ذلك ضمن مخطط شاروني مفضوح، بدأ في بيت جالا وقطاع غزة، واستهدف تصعيد الحرب الارهابية على المناطق الفلسطينية الخاضعة للسلطة الوطنية. فالاساليب السابقة التي استعملها شارون وجيشه، اي الحصار الاقتصادي والامني الخانق، والقصف بالطائرات والدبابات من بعيد والاغتيالات الشخصية للقادة الميدانيين، ومحاولة تأليب الفلسطينيين على رئيسهم عرفات ودق الأسافين بين الفصائل الفلسطينية، ومصادرة الاموال، ووقف اعمال ومشاريع التطوير، وحتى منع وصول المواد الغذائية والادوية، كل هذه لم تحقق لشارون ما وعد به الناخبين: السلام الآمن، او الامن والامان للمواطنين. لا بل ان امن المواطن الاسرائيلي تزعزع تماماً. ولم يعد يشعر بالامان ليس فقط في المناطق الحدودية، بل في مكتب قلب تل ابيب وحيفا. في المتاجر وفي البيوت. وكلما زادت سياسته قوة وبطشاً، زادت قوة ارادة المتطرفين الفلسطينيين وشدة مغامراتهم. وتحولت البلدات الفلسطينية عموماً، والفقيرة منها بشكل خاص، ومخيمات اللاجئين بالذات، تحولت الى مصانع لانتاج الانتحاريين. المعاناة التي مرت بها عائلة عارضة من عرابة جنين التي فقدت ابنتها بلقيس وابنها سفيان تعكس بشكل حقيقي بشاعة الارهاب والاحتلال، فاسرائيل التي تذرعت بحجة وجود شبان استشهاديين في جنين والحاجة الى تصفيتهم احتلت المدينة بكل هدوء ومن دون اي معارضة خارجية. آخر العنقود "لا ادري ما اقول لك. بلقيس كانت آخر العنقود وأغلى ما نملك وابني سفيان الذي كان "نوارة" هذا البيت وترك خلفه طفلاً ابن ثلاثة اشهر، ومع هذا لا يوجد ما نقوله سوى اننا نعتز بهذه الشهادة". راحت تحدثنا ام هيثم، والدة الشهيدين، محاولة ان تظهر قوة تلك المرأة الفلسطينية التي تدفن موتاها وتنهض. الا ان قلب الام التي تفقد في يوم واحد اثنين من فلذات كبدها لم تصمد لأكثر من دقائق فانهمرت دموعها واختنق صوتها ليمنع بقية الكلمات من ان تنطلق من حنجرتها فتختصر وتتساءل بين الفينة والاخرى: "لماذا بلقيس؟! لماذا سفيان؟ لقد قتلا بدم بارد. لقد كنت الى جانب سفيان عندما أصيب و قبل صعوده الى سيارة الاسعاف كان يتحدث بشكل طبيعي واصابته جاءت بسيطة في خصره، لكن الجنود الاسرائيليين، هؤلاء هم الارهابيون، نعم ليسمعني العالم كله، هؤلاء الذين قتلوا ابنتي الصغيرة وخطفوا ابني من سيارة الاسعاف وقتلوه هم الارهاب". تحدثنا ام هيثم ثم نحاول جاهدين معرفة التفاصيل من البداية والتي لم تعد تهمها اليوم. الساعة كانت لا تزال الثالثة فجراً، الهدوء والظلام الدامس يسيطران على جنين والمناطق من حولها، فحتى الاضواء لم تكن موجودة في الشوارع بعدما دمر الاسرائيليون شبكة الكهرباء. وباستثناء الدبابات واضواء الطائرات التي كانت تصل المكان بين فترة واخرى، ومجموعة من الشباب الذي يسهر لمواجهة اي طارئ، لم تشهد شوارع جنين حركة. سكانها في بيوتهم في عز النوم، كان الهدف بيت احمد عارضة "سمعت صوت الطائرات والصواريخ فخفت ونهضت من نومي مفزوعة، ولكنني لم اتحرك من فراشي، فقد اعتدنا على هذه الاصوات ولكن سرعان ما بدأ القصف بجوار بيتنا وكأنه داخل البيت، عندها اسرعت نحو النافذة واذ بالرصاص يخترق بيوت اولادي المجاورة لنا والتي تقع في ثلاثة طوابق. فصرخت... وفي الوقت نفسه استيقظت بلقيس، وهرعنا الى الخارج واذكر انني كنت اصرخ واقول ان اولادي ماتوا، وقد منعنا الجنود من الاقتراب نحو البيت وكذلك الجيران الذين خافوا علينا. اذكر انني وقعت على الارض وبكيت وصرخت وطلبت ان اشاهد اولادي، لكن احداً لم يستجب لصرخاتي ومرت ساعتان ولا من احد يخرج من البيت او يدخل اليه. عندها لم اعد احتمل، طلبت من بلقيس ان تدخل الى البيت لتستبدل ملابسها واحضرت بعض ما عندنا من ادوات اسعاف. وعادت بلقيس وقالت: تعالي. سأذهب انا لانقذ اخوتي، وتسللنا في الظلام حتى وصلنا الى البيت، وفي هذه الاثناء، وبعد اكثر من ساعتين تمكنت سيارة الاسعاف من الوصول، وبدأ الشباب في نقل ابني سفيان. عندها اقتربت منه وكان يتحدث بشكل عادي والدم ينزف من خاصرته، فاطمأنيت الى انه بخير وودعته وقلت له انني سألحق به الى المستشفى بعدما ارى شقيقه هيثم". تحدثنا ام هيثم وتضيف: "لم ار سفيان بعد ذلك. وتوجهت الى البيت وكان هيثم في حال صعبة، وينزف بشدة فساعدته بلقيس بتضميد جروحه، وجهزناه حتى تحضر سيارة الاسعاف الثانية لنقله. الحقيقة انني ارتحت قليلاً بعدما شاهدت اولادي جميعهم حولي يتنفسون. واحتضنت هيثم، عندها قالت بلقيس ان هناك حاجة لوضع غطاء على صدره ووجهه قبل ان يخرج حتى لا يراه جنود الاحتلال ينزف دما فعندنا يخبئون الجريح، لأنه اذا اكتشفه جنود الاحتلال سيعتقلونه ويعذبونه وربما يلعبون بجرحه حتى يزيد ألمه. فالجراح لا تحمي صاحبها عند هذا الاحتلال. وتوجهت بلقيس الى الغرفة لاحضار منشفة كبيرة، واذ بالصواريخ تضرب البيت مرة اخرى، وجاءت اولى الضربات على بلقيس قبل وصولها الى شقيقها فلم تتلفظ بكلمة واحدة، سوى صوت نزاعها الاخير. لم نسمع منها شيئاً... لم تبك... لم تصرخ... لم تنادني لانقاذها، الصاروخ قتلها قتلة قوية وقاضية". وهنا لم تعد ام هيثم قادرة على الحديث. آلام ام هيثم لا تقتصر على مشاهدتها قتل ابنتها: "آخر العنقود ودلوعة العائلة" كما قالت. فهي التي راحت الى المستشفى باحثة عن ابنها سفيان صدمت لعدم وجوده هناك. فقد تركته في سيارة الاسعاف يتحدث واصابته كانت خفيفة. وتساءلت ما الذي جرى، ولم يأتها الجواب الا بعد يومين فقد ابلغ جنود الاحتلال ان سفيان ميت في مستشفى العفولة مدينة يهودية بين جنين والناصرة في مرج بن عامر. وحسب ما علمنا من حديث احد اصدقاء سفيان فقد هاجمت مجموعة من الجنود سيارة الاسعاف عند نقلها سفيان وخطفته منها، ولم يتمكن احد من منعهم. وكان سفيان مصاباً اصابة في خاصرته والجميع يؤكد ان اصابته لم تكن قاتلة. وقد جرى الاستفسار عنه طوال يومين من دون ان يعرف احد مصيره، حتى جاء خبر وفاته الذي يخبئ خلفه قصة مأسوية لا يتوقع احد ان يتم الكشف عنها خصوصاً في هذه الظروف. "ابني جرت تصفيته ويجب معاقبة المجرم، فمن يدافع عن دم ابني سفيان؟!" تساءلت الام الثكلى. اين امي؟ جدي اين امي؟ تساءل الطفل هاشم ابن السنوات الاربع من دون ان يبالي بدموع جده التي لم تتوقف. - "يلا جدي قل لي اين امي". كرر الطفل سؤاله ملحاً على تلقي الجواب. - انها في الجنة. - ............... لم يفهم الطفل وبقي واقفاً ينتظر جواباً مفهوماً اكثر. - لقد قتلها اليهود انها في الجنة. - في الجنة، في الجنة، خذني اليها أريد امي. ويبكي هاشم وتبكي دموعه وكلماته الحضور الذين جلسوا بهدوء عاجزين عن الحديث. جاءوا لمواساة العائلة التي فقدت الشابة رجاء 24 عاماً والتي تركت خلفها ثلاثة اطفال اكبرهم هاشم ورهف 3 سنوات وسناء ابنة تسعة اشهر. وقريب العائلة فخري سليط. عم رجاء والد زوجها الذي تعدى الستين جلس يحتضن حفيده محاولاً، في مداعبته له، ان يتهرب من اسئلته الكثيرة حول امه وموعد عودتها واشتياقه للنوم في حضنها، فهو كان شاهداً على مقتل كنته في وقت كانت تحتضن اثنين من اطفالها. "في ساعات الفجر، استيقظنا على اصوات الصواريخ واطلاق الرصاص فتوجهنا نحو بيت ابني سمير وكان الرصاص ينزل كزخ المطر. وقد اصابت احدى القذائف فخري سليط، فتوجهنا لاسعافه وشاهدنا انه فارق الحياة وقد دب الرعب في الجميع من اصوات الصواريخ والرصاص، وخافت رجاء فامسكت بيدي اثنين من اطفالها وتوجهت نحو الباب الرئيسي للهروب من البيت حتى لا يصاب احد منهم بأذى، لكن ما ان وصلت فتحة الباب حتى اطلقت احدى الطائرات الرصاص مباشرة على البيت فعاد وهرب طفلاها الى البيت فيما اصابها الرصاص مباشرة وقتلها". دم رجاء الذي يملأ سقف البيت لا يزال شاهداً على الجريمة، وكذلك دم فخري ودماء 14 شهيداً من جنين قتلوا في معظمهم في وقت لم يحمل فيه احدهم حجراً ولا بندقية ولم يجهز نفسه لعملية استشهادية كما ادعى شارون في تبريره لاحتلال جنين، فهؤلاء قتلوا بدم بارد من دون ان يقترفوا اي ذنب، تماماً مثل ضحايا نيويورك وواشنطن، لكن الفرق بسيط جداً ان الفلسطيني ليس اميركياً محافظ جنين : دمار شامل جنين التي ما زالت تبكي شهداءها تعيش أوضاعاً اجتماعية واقتصادية قاسية جراء ما خلفه الاحتلال الاسرائيلي الذي لا يزال يطوّق بدبابته ومدافعه المدينة وضواحيها. محافظ جنين، العقيد زهير مناصرة، ينظر بقلق شديد الى مستقبل سكان المدينة والأوضاع القاسية التي يعيشونها، ويقول: "كانت وما تزال ايامنا قاسية، فالأسلحة التي استعملتها اسرائيل من طائرات ودبابات وصواريخ وعزل بين المناطق وتدمير للبنية التحتية للمدينة وشبكات الكهرباء والتلفونات وغيرها اعاد جنين عشرات السنين الى الوراء". الحجّة التي تذرّع بها شارون هي وجود استشهاديين داخل جنين يصلون الى اسرائيل لتنفيذ العمليات. هل صحيح ان جنين المركز لاستيعاب الاستشهاديين، كونها قريبة من الحدود الاسرائيلية؟ - هذه واحدة من حجج كثيرة يستعملها شارون ضمن سياسته للتغطية على أعماله الارهابية. فإذا كان هذا الحديث صحيحاً لتعلن اسرائيل عن عدد الاستشهاديين الذين تمكنت من القاء القبض عليهم او اغتيالهم اثناء الايام التسعة. فاذا استعرضنا قائمة الشهداء نجدها تشمل فتياناً وفتيات وشابة وهناك رجل امن اغتالته اسرائيل بالصاروخ. ومن بين المصابين الكثير من النساء والاطفال والمسنين، فهناك 76 مصاباً في المستشفيات معظمهم ليسوا من الشباب، وهناك العشرات لم يتمكنوا من الوصول الى المستشفى للعلاج بسبب مضايقات جيش الاحتلال، وتلقوا العلاج في منازلهم. وهنا نقول لاسرائيل بصراحة اذا كانت صادقة بحججها فلتعلن عن اسم استشهادي واحد اغتالته او اعتقلته. اذاً، لماذا برأيك تم احتلال جنين بالذات؟ - اعتقد انها موقع استراتيجي مهم لاسرائيل، كما انها ليست الموقع الوحيد المستهدف من المناطق الفلسطينية فهي تأتي في قائمة طويلة لمناطق فلسطينية تريد اسرائيل احتلالها او احتلتها. فشارون الذي طلب امهاله مئة يوم تعدى هذه الفترة باكثر من مئة اضافية ولم يحقق شيئاً. كيف تمكنتم من الصمود امام العتاد العسكري الاسرائيلي في ايام الاحتلال التسعة؟ - ما نفذته اسرائيل خلال اليومين الاولين اضطر معظم الشباب الى تعلم كيفية صنع العبوات في وقت فقدنا فيه الاسلحة الدفاعية. فلم نكن نحمل سوى الرشاشات التي بحوزة رجال الامن والناس العاديين لا يملكون الا الحجارة التي لم تكن قادرة على مقاومة الطائرات والصواريخ والدبابات والاسلحة التي استعملتها اسرائيل. ففي اليوم الاول وصلت القوات الاسرائيلية معززة بحوالي سبعين دبابة وانتشرت في كل الاتجاهات، وبدأت الدبابات في التوغل بين البيوت الامر الذي ارعب الناس. عندها اضطر الشباب الى صنع العبوات ورميها على الدبابات مما خفف من تواجدها قرب البيوت. وخلال هذه الايام قصفت البيوت بالصواريخ واطلقت الرصاص من خلال الطائرات فدمرت اكثر من 200 بيت. كما دمرت كل الشوارع والطرقات والمزروعات والاراضي وشبكات الكهرباء والمياه والتلفونات. وكيف ستواجهون اليوم ما خلفه هذا الاحتلال؟ - قلت ان الاحتلال لا يزال موجوداً، ولكن عن بعد. وهذا الامر يساعدنا اكثر في اصلاح ما يمكننا من الدمار. وقد باشرت وزارة الاشغال والمسؤولون في وضع خطة عمل. فالامر ليس سهلاً وتقديراتنا بأن هذا الدمار يحتاج الى ملايين الدولارات لاعادة جنين كما كانت او على الاقل لضمان الحياة الاساسية لسكانها.