عندما نعقت الغربان للمرة الاولى في سماء سهل الحولة في أعالي الجليل، ظن اسماعيل العبدالله انه في كابوس. فطمر رأسه تحت اللحاف. لكن النعيق ألح عليه بشدة. فاستيقظ ونهض من فراشه وخرج الى باحة البيت وراح يفتش عن مصدر الصوت. كان الظلام دامساً والامطار الخيرة تهطل بغزارة، فلم يعرف ما الذي يجري. وعندما اخبر معارفه في اليوم التالي بما سمع، راح كل منهم يجتهد في تفسير الظاهرة على هواه. والقصة التي استبعدها تماما قالها أحد الشبان "المودرن" الذي كان من مشاهدي افلام السينما القليلين، اذ اعلن بثقة: "الغربان تنعق عندما تكون هناك جثة انسان او جيفة حيوان، ينقض عليها وحش مفترس او طائر جارح". وزاد من استبعاد الفكرة ان قائلها تكلم عما شاهده في افلام سينمائية. ولكن بعد تكرار الحادثة في الأيام التالية بدأ الموضوع يشد انتباه اسماعيل، فراح يراقب الامر بمثابرة الى ان شاهد بعينيه ذلك المشهد المفزع. ولنتركه يروي ما رآه وقضّ مضاجعه ولا ينساه حتى اليوم على رغم مرور حوالي عشرين عاما: "كان ذلك طائر النيص الجارح. ينقض على قطعة ارض قريبة منا، ويعود الى السماء. يفعل ذلك مرات عدة في اليوم، ويعود في اليوم التالي. فتوجهت الى ذلك المكان فوجدته محاطاً بسياج، وفي الداخل تنتشر لوحات من الارقام المغروسة بواسطة قطع حديدية في الارض. وعندما وصل النيص انقض على الارض قرب احدى اللوحات، وراح ينبش في الارض. وفجأة لاحظت يد بشرية من تحت التراب، ومنقار النيص ينغرس فيها...". يصمت اسماعيل قليلا ويقول: "انه منظر مرعب. لم أنم بضع ليال بعد ان شاهدته". ولكن المشهد يتكرر مرات ومرات، ولا تعود المسألة تقتصر على النيص. فيأتي عدد من الجنود الاسرائيليين بعد ايام عدة وهم ينقلون المزيد من الجثث. وتتضح له المسألة. واذا بهذه الارض مقبرة عسكرية واقعة تحت سلطة الجيش، أقيمت في العام 1967 في منطقة جسر بنات يعقوب، على الطرف الغربي من هضبة الجولان السورية المحتلة. يدفن فيها عدد من القتلى الذين تبين فيما بعد انهم من اللبنانيينوالفلسطينيين والسوريين من ضحايا الحرب وباعتراف الجيش الاسرائيلي، معظمهم سقط أثناء عمليات عسكرية ضد اسرائيل. ولكن بعد الحرب لم يتوقف العمل في هذه المقبرة و"ازدهرت" بشكل خاص بعد الاجتياح الاسرائيلي الاول والثاني والثالث لحرب لبنان وفي فترة الانتفاضة الفلسطينية. وعادت لتزدهر فجأة في الفترة الاخيرة ايضاً بعد الانسحاب الاسرائيلي من جنوبلبنان. ونكتشف ان مقبرتين اخريين قائمتان في اماكن اخرى ايضاً بالمواصفات نفسها، احداهما في منطقة اريحا، وقد أُغلقت ولم يعد لها استعمال عندما تسلمت منظمة التحرير الفلسطينية السيادة على اريحا سنة 1995. والثانية في وادي الحمام غرب بحيرة طبريا. لكن المقبرة الكبرى والتي يجري تفعيلها حتى اليوم هي تلك القائمة في منطقة جسر بنات يعقوب. القبور هنا مقسمة إلى نوعين: الاول، في كل قبر جثة. وفوق ترابه مغروس رقم معيّن. والثاني، قبور جماعية لا تجد لها اية اشارة. الا ان الشيء المشترك بينها انها قبور قليلة العمق. ولهذا فإن الجثث تطفو على السطح مع أي هطول غزير للامطار او أي نبش للقبور من الحيوانات المفترسة والطيور الجارحة. "ذات مرة كنا نبقل في السهل ونقطف الخبيزة والعلت. فجاءت السيارات العسكرية وأمرنا الجنود بمغادرة المكان. فغادرنا، لكننا بدافع حب الاستطلاع، وبعد ان ارتعبنا من نعيق الغربان، قررنا الاختباء قريباً ومراقبة ما يفعلون. دخلت السيارات الى المقبرة. انزل الجنود ادوات حفر، وراحوا يحفرون القبور. فعلوا ذلك بسرعة، كمن يريد ان يتخلص من جمرة. لذلك لم تكن الحفر عميقة. ثم اخرجوا بضع جثث من السيارات. ودفنوها. ثم رشّوا عليها مادة بيضاء اللون. ثم غطّوها. وغادروا. ولم يمض يومان او ثلاثة حتى شاهدنا بأعيننا كيف تأتي الحيوانات المفترسة وتغرس أنيابها في اجساد الموتى، بعد ان تنبش القبور. وكيف تنقض عليها الطيور الجارحة. مشاهد.. تقشعر لها الأبدان". يقول ل"الوسط" اسماعيل عبدالله، الذي كان يسكن في منطقة قريبة من موقع مقبرة بنات يعقوب المقامة على مساحة حوالي اربعة دونمات. الوصول الى هذه المقبرة ليس بالامر السهل، فالاقتراب أو الدخول اليها ممنوع، وقد أُحيطت بالسياج وكتب عليها: "منطقة عسكرية ممنوع الدخول". وطبعاً كل مخالف للأوامر الاسرائيلية معرّض للتحقيق. في داخل المقبرة سياج قديم تظهر علامات تمزيقه. ويقول شهود عيان رافقونا الى هناك، ان الحيوانات المفترسة مزّقت السياج، لكن سياجاً جديداً وُضع اخيراً، وكان ذلك بعد الانسحاب الاسرائيلي من جنوبلبنان. أحمد حبيب الله، رئيس "جمعية اصدقاء المعتقل والسجين" الذي يتابع قضايا المعتقلين العرب داخل السجون الاسرائيلية ويزورهم بين الفينة والاخرى مع كل الصعوبات التي يواجهها مع ادارة السجون، يحرص دائما على زيارة المقبرة، ويبعثر الزهور من فوق السياج على القبور التي تحمل ارقاماً. وهو يؤكد ان هذه المجموعة من الارقام وُضعت كلها بعد الانسحاب الاسرائيلي من لبنان، والارقام هذه المكتوبة على قطع من الحديد، كُتبت بلون احمر مميز عن بقية الارقام المكتوبة بلون اسود، والقطع الحديثة تظهر جديدة جداً". عددها17 رقماً بالتسلسل من 235 حتى 242 و247 حتى 250 و256 و257 و259 و261 و262. لمن هذه الجثث؟ ولماذا رُقّمت بلون مختلف؟ ولماذا هذا التسلسل المتقطع؟ فاين الرقم 258 مثلاً او الرقم 244؟! اسئلة كثيرة قد تُطرح، لكن يبقى السؤال الاكبر في هذه المقبرة يتعلق بتلك المساحات الكبيرة داخل المقبرة والتي لا تحمل ارقاماً، فمن دفن فيها وكم عددهم. هل هم مدنيون أم مقاتلون؟ هل هم نساء واطفال ام رجال؟ المناطق المجاورة لهذه المقبرة كان يصلها رعاة كثيرون من القرى المجاورة وكانوا شهود عيان على عمليات الدفن الجماعية للبنانيين في سنوات الاحتلال، ومعظم الرعاة يخافون الحديث عن الموضوع، منهم من قال إن أشلاء جثث كانت ظاهرة في المكان بعد ان دفنها الجنود اثناء الاجتياح، وهناك ملابس ممرضات كانت مرمية جانباً، ولكن هؤلاء يخافون الكشف عن هويتهم والحديث الصريح عما حدث: "الله يعينهم... الله يساعدهم... ماذا ينفع الحديث اليوم" قال احدهم واضاف آخر: "كلمة واحدة تدخلنا الى السجن. لا حاجة للحديث. على أي حال هناك راع كان يذهب يومياً ويراقب ما يحدث و اذهبوا اسألوه". وطبعاً هذا الراعي كغيره يخاف هو الآخر الحديث. ولكن المهم في الامر ان الكل يجمع على ان قبوراً جماعية موجودة داخل هذه المقبرة. اسماعيل عبدالله الذي تردد بداية في التحدث معنا، حاول الاختصار في الموضوع قائلاً: "المنطقة المجاورة للمقبرة تعتبر من اجمل المناطق في الشمال، وفيها تكبر المزروعات للتبقيل، فكنا احياناً نصل الى هناك لجمع الخبيزة والعلت والزعتر وغيرها، ولدى عودتنا من العمل كنا نمر من جانبها، في حينه، وقت الاجتياح كنا نرى شاحنات كبيرة تصل الى المكان، فإذا وجدونا او لاحظوا اننا نشاهد ما يفعلونه يطردوننا ويصرخون بنا. ولكن في معظم الاحيان كنا ننجح في المشاهدة. إذ كان يقف احدهم داخل الشاحنة وآخر الى جانب القبر الكبير الذي حفر بعمق بسيط، ويناول احدهم الجثث، بعضها في اكياس والاخرى من دون اكياس والآخر يدفن". ويضيف محدثنا: "وبعد فترة كانت الجثث تظهر فوق التراب خصوصاً بعد عواصف وامطار غزيرة، في أحد الايام كانت ثلاث جثث خارج القبر وقد سحبتها الحيوانات. وفعلت ما فعلته. النيص كان أشرس الحيوانات التي تدخل الى المكان وتقوم بالحفر ثم تستخرج الجثة، كذلك طيور كثيرة كانت تحوم لفترات طويلة". ويضيف قائلاً: "لدى وصولنا الى المقبرة، كان الهدوء يكتنف المنطقة، وكانت سيارات قليلة في الشارع البعيد عنها. لم يصل المنطقة أحد. السياج الجديد يلفّها والى جانب بعض القبور المرقمة وُضع صندوق يحمل في داخله كمية من الارقام، للجثث التي تم تسليمها لحزب الله وضمن الصفقة الأخيرة لتبادل الاسرى". مقبرة وادي الحمام مشكلة المفقودين لا تقتصر على الجثث التي دُفنت بشكل جماعي في مقبرة بنات جسر يعقوب، بل انها اوسع وأعقد من ذلك بكثير، فهناك مئات المقاتلين المفقودين منذ العام 1948 وبشكل خاص في العام 1967، حيث تشهد مقبرة وادي الحمام، التي يضم ترابها جثث اكثر من سبعين مقاتلاً غالبيتهم العظمى من دون ارقام. وهناك مجموعة دُفنت في يوم واحد من دون ان يعرف أي شيء عنها، واليوم يجد زائر هذه المقبرة الكثير من قطع الحديد التي تحمل الارقام وقد تآكلت من الصدى ولم يعد للرقم أي أثر. هؤلاء المقاتلون فلسطينيون في معظمهم، دُفنوا على أيدي فلسطينيين بعد ان أوصلهم الى المكان جنود الاحتلال الاسرائيلي: "لاحظنا وصول جنود يحملون اكياساً وينوون دفنها، فاقتربنا منهم واقترح احدهم علينا ان ندفنهم نحن مقابل المال. فقلنا له اننا لا نطلب سوى ان يُصلّى عليها. وصلّينا فعلاً ثم دفناها. يحدثنا طراد ابو عيد من وادي الحمام الذي دفن بيديه عشرات المقاتلين منذ العام 1976 وعلى مدار عشرات السنين، ويقول: "هناك من كان يرتدي الملابس المقاتلة المرقطة وهناك من ارتدى ملابس مدنية. بعض الجثث التي دفناها كانت مشوهة، وبدت عليها آثار التعذيب وبعض الجثث كانت رصاصة واحدة قد أصابت الرأس او الصدر". ابو عيد لم يكن وحيداً في هذه المهمة، فعندما كان الاهالي يشاهدون الجنود وقد اقتربوا يحملون الجثث، كانوا يتوافدون نحو المقبرة ويبكون ويرتعدون. "كنا كلما ندفن مقاتلاً نشعر بقطعة من جسدنا قد نقصت، كانت مشاهد مرعبة جداً". ووادي الحمام، قرية صغيرة محاذية لبحيرة طبرية اهلها الذين كانوا يُعدون بالمئات هربوا في العام 1948 من بيوتهم وتشتتوا في ارجاء المعمورة، بعد ذلك وعندما طالت الضربات الاسرائيلية جميع القرى والمدن العربية وتهجّر اهلها، وصل بعض الاشخاص الى وادي الحمام وبشكل خاص من منطقة الحولة والعبسية واليوم يسكن في القرية قرابة 1200 شخص. هذه العائلات سكنت لسنوات طويلة في الخيام حتى حصلت على قسائم اراضٍ في هذه القرية بديلاً عن المناطق التي تركتها. يقول ابو عيد: "الصحيح اننا لم ننتبه في حينه لتسجيل ولو التفاصيل القليلة عن كل جثة ندفنها، باستثناء بعض الشهداء الذين سمعنا عن استشهادهم من صوت فلسطين. لم نعرف احداً". قلة من هؤلاء، كان الجيش الاسرائيلي يضع رقماً على قبره ومعظمهم من دون أي رقم ولا يفصل ويميز بين قبر وآخر سوى شكل الحجارة التي تحيط بالمكان المدفونة فيه كل جثة، كما ان غالبية الارقام شبه مختفية عن قطعة الصفيح التي سجل عليها الرقم. حي أم ميت؟ الحديث عن المفقودين لا يعني فقط الجثث المدفونة، فهناك عشرات وربما مئات القصص عن شبان اختفت آثارهم من دون ان يعرف احد مصيرهم، فيما اهاليهم يعيشون منذ سنوات طويلة على أمل ان يطل احدهم من الباب ويلقي السلام على العائلة. احمد حبيب الله يقول "ان الكثيرين متأكدون من ان ابناءهم، اعتقلوا على أيدي جنود اسرائيليين وبعد البحث عنهم في جميع السجون لم يجدوا لهم اثراً، ربما هم في زنزانة ولا أحد يعرف عنهم شيئاً ولا يلتقون مع آخرين وربما ماتوا تعذيباً وقتلوا، ولا يعرف أحد مصيرهم". ويضيف حبيب الله: "الامر لا يقتصر على الشباب الفلسطينيين، فهناك عائلات من سورية ولبنان لا تعرف مصير أبنائها منهم يقضي خلف القضبان في السجون الاسرائيلية وهؤلاء ضبطوا أثناء محاولاتهم تنفيذ عمليات ضد اسرائيل، وهناك زملاء لهم قتلوا أثناء هذه العمليات ودفنوا في "مقبرة الأرقام". ونحن في الجمعية نعمل بشكل مكثف من اجل معرفة اية معلومة عنهم، ونجري الاتصالات المستمرة مع الاهالي ومع السلطات الاسرائيلية المسؤولة التي تنكر المعلومات ولا تعطينا التفاصيل واحياناً لا ترد علينا بأي جواب" رد الناطق الرسمي للجيش الاسرائيلي بعد اسبوعين من توجيه الاسئلة للناطق بلسان الجيش الاسرائيلي ران كدري رد بان "هناك جثثاً لشهداء العدو الذين قتلوا خلال عمليات ضد الجيش الاسرائيلي مدفونة في المقبرة المحاذية لجسر بنات يعقوب، وان عدد القبور واضح وأسماء الجثث سلمت الى الصليب الأحمر". ولم يرد الناطق على العديد من الاسئلة حول الموضوع، واما عن مقبرة وادي الحمام، فأجاب الناطق ان المسؤولين الاسرائيليين يدرسون الموضوع وان الاسئلة حولت الى كبار المسؤولين في الجيش ولكن لم ترد أجوبة بعد.