هي ليست ايزابيلا ايبارهارد، مواطنتها التي ذهبت الى صحراء الجزائر مفتونة بالشرق والأساطير وحكايات "ألف ليلة وليلة" لترتدي البرنس البربري، وتركب الخيول العربية، وهي ليست ايضاً كارين بليكسن، تلك الدنماركية الارستقراطية التي ذهبت الى كينيا، لتشرف مع زوجها وابن عمها على مزرعة للقهوة. وانما هي امرأة عادية، سافرت الى كينيا بهدف قضاء اسبوعين هناك بصحبة رفيق حياتها. وحال وصولها الى المطار، احبت من النظرة الأولى محارباً كينياً من قبائل "المصّاي" البدائية. وبسبب ذلك الحب المفاجئ والجنوني، عاشت في الصحراء الكينية على مدى ثلاثة أعوام ونصف العام، محرومة من أدنى متطلبات الحياة، مقطوعة عن العالم. وعند عودتها الى بلادها، ألفت كتاباً عن تجربتها تلك، وعلى مدى العام 1999، ظل هذا الكتاب الذي ترجم الى العديد من اللغات الأوروبية، على رأس قائمة المبيعات في المانيا والنمسا وسويسرا الالمانية. وقد بيع منه الى الآن، في المانيا وحدها، نصف مليون نسخة. هذه المرأة تدعى كورين هوفمان. وهي سويسرية، تسكن بلدة صغيرة قريبة من مدينة زيوريخ، وخلال زيارتها الى ميونيخ، اتصلنا بها عارضين عليها ان تروي قصتها الى قراء "الوسط"، فاستجابت لذلك، وروت قصتها العجيبة من البداية الى النهاية. "فارس" أمام باب المطار تقول كورين هوفمان: "كان شتاء نهايات العام 1993 بارداً جداً في سويسرا. وكانت رغبتي ان أفرّ بعيداً، بصحبة صديقي الى بلد حار. ذهبت الى مكتب اسفار يقع في الشارع نفسه الذي يوجد فيه محل بيع الثياب الذي أملكه فاقترح علي صاحبه الذهاب الى كينيا. ولم أتردد في ذلك، كنت أرغب منذ فترة في الذهاب الى افريقيا. وقبل ذلك كنت قد سافرت الى تونس والمغرب، غير انني لم أذهب ابداً الى أي بلد من بلدان افريقيا السوداء. اشتريت وصديقي تذكرتي سفر وانطلقنا الى مومبازا كينيا، ولا بد ان أقول انني لم أكن أعاني من أية مشاكل مادية أو نفسية. فقد كان محل الثياب الذي كنت أملكه يدر عليّ أرباحاً هائلة. وكنت أملك سيارتين. وكانت علاقتي بصديقي رائعة ومتينة. باختصار، كنت امرأة سعيدة. ولا أشكو من شيء ابداً. ولم يكن يخطر ببالي على الإطلاق ان حياتي ستتغير رأساً على عقب حالما تطأ قدماي أرض كينيا. في مطار مومبازا، حال نزولي من الطائرة، شعرت انني لست غريبة عن ذلك البلد. لكأنني عشت فيه زمناً طويلاً. بل لكأنني ولدت هناك. وعندما كنت أخطو الخطوات الأولى باتجاه قاعة المطار، قلت في نفسي انه بإمكاني ان أبقى وأن أعيش في هذا البلد بقية حياتي. وعند خروجي من المطار، رأيت رجلاً كينياً، نصف عار، واقفاً، ينظر بفضول الى أفواج السياح البيض. واذا بي أحس ان ذلك الرجل، هو الفارس الذي كنت أحلم به. نعم هذا ما حدث. وكانت رغبتي ان أتحدث اليه، وان احتضنه واعترف له بمشاعر الحب الجنوني التي اجتاحت كياني في رمشة عين. كان صديقي الى جانبي. بل كان يمسك بيدي، ويتحدث الي. غير انني كنت بعيدة جداً عنه. وكان قلبي قد خلا منه تماماً، ليصبح ملكاً لذلك المحارب الكيني الواقف أمام المطار، يحدق بعينين مندهشتين إلى أفواج السياح البيض. بعدها ركبنا الباص متجهين الى الفندق. وكان حزني شديداً ذلك انني فكرت انني لن أرى ذلك الرجل أبداً. وعند وصولنا الى الفندق، وبينما كنا منشغلين بسحب حقائبنا، رأيت، ويا للمفاجأة السارة، ذلك الرجل ثانية. وعندئذ تيقنت ان القدر يهيئ لي شيئاً خارقاً. ابتسمت له فابتسم لي. اقتربت منه، حييته، فتمتم بكلمات لم أفهمها وأظنه كان يحييني هو أيضاً. انزعج صديقي بسبب سلوكي ذاك، غير انني لم اهتم به. بل تمنيت لو ان الانزعاج يدفعه الى تركي نهائياً حتى أكون لذلك الرجل الكيني وحده. بعدها دخلنا الى الفندق. لكن رغبتي في التحدث الى الرجل الكيني كانت جامحة. وفي الحين عدت الى الشارع فوجدته هناك واقفاً، وعلى شفتيه طيف ابتسامة. تحدثت اليه ثانية، وبانكليزيتي الركيكة حاولت ان أفهمه انني مجنونة بحبه، غير انه اشار لي بما معناه انه لا يفهم لغة أخرى غير لغته الأم. حزنت لكنني لم أيأس. اشرت اليه بأنني راغبة في ان التقيه مرة اخرى، فوافق بحركة من رأسه ثم مضى. عدت الى بهو الفندق، فوجدت صديقي وقد خرج عن طوره، وراح يلعن ويسب. غير انني لم أهتم لا به ولا بغضبه. ذلك انه لم يعد يعنيني لا من قريب ولا من بعيد! مكثت في الفندق النهار بطوله، وأنا على يقين بأن ذلك الرجل الكيني الذي احببته سوف يعود. غير انه لم يأت لا في ذلك اليوم، ولا في اليوم التالي. خرجت أبحث عنه. عدت الى المطار آملة ان أجده في المكان نفسه الذي كان واقفاً فيه يوم وصولي غير أني لم أعثر له على أثر. ولم يفض بحثي عنه في مدينة مومبازا الى أية نتيجة. وكان حزني شديداً بسبب ذلك. بل ان النوم هجرني، وبت غير قادرة حتى على الأكل. وقبل أربعة أيام من سفري عائدة الى زيوريخ، عثرت عليه واقفاً أمام الفندق. وكانت فرحتي شديدة حتى أنني ارتميت في أحضانه أعانقه وأقبله. أخذت له صوراً. أعطيته عنواني وأعطاني هو عنوانه. وبما أنني لم أكن أفهم ما يقول، ولم يكن هو يفهم ما أقول، فإننا اعتمدنا على الاشارات لكي نتفاهم. وبالاشارات أفهمته انني سأسافر لكنني سأعود لأعيش معه. سوف يأتي بعد قليل... عدت الى سويسرا واذا بي اكتشف أني لم أعد تلك الفتاة التي كانت، إذ فقدت الرغبة في العمل وفي التحدث الى الناس وفي الذهاب الى المسرح أو الى السينما. الشيء الوحيد الذي كان يهمني هو معرفة افريقيا والأفارقة. وهكذا اقتنيت العديد من الكتب والأشرطة الموسيقية الافريقية، وكنت أظل في البيت طول النهار لا اخرج ولا أفعل شيئاً آخر غير القراءة والاستماع الى الموسيقى الافريقية. وكل اسبوع كنت أكتب رسائل ملتهبة الى ذلك الرجل الكيني الذي أحببته. أما هو فلم يكتب لي غير رسالة واحدة قال لي فيها بأنه أمي، وبأن صديقا هو الذي كتب له هذه الرسالة. بعد ستة أشهر، عدت الى مومبازا. وبصحبة ذلك الرجل، عشت ثلاثة أسابيع رائعة. وكانت الاشارات هي اللغة الوحيدة بيننا. ولأن ادارة الفنادق رفضت جميعها ان يسكن معي في الغرفة نفسها، بل وحتى في غرفة منفصلة، فاني استأجرت بيتاً متواضعاً في قرية صغيرة قرب مومبازا. ومع مرور الأيام اتضح لي ان الرجل يحبني هو أيضاً، ويتمنى أن أكون زوجته الشرعية. عدت الى سويسرا، وأنا مصممة على العودة بأقصى سرعة الى كينيا. بعت السيارتين والمحل التجاري وفساتيني الثمينة ومجوهراتي وكل ما أملك، ذلك ان عقلي وقلبي أصبحا لذلك الرجل الكيني، ولم تعد لهما أية صلة لا بسويسرا أو بأهلها. وبحقيبة واحدة، عدت الى مومبازا. وكانت الصدمة الأولى انني لم أجد الرجل الذي أحبه في تلك القرية الصغيرة التي أقمنا فيها خلال زيارتي السابقة. وقالت لي امرأة تعرفت عليها قبل ذلك بأنها لا تعلم أين ذهب لكنه سيعود حتماً. افرحني ذلك غير أنه تبين لي انه لم يستلم أية رسالة من الرسائل التي كنت قد بعثت بها اليه. انتابني الحزن من جديد غير انني صممت على العثور عليه. رحت اطوف في مومبازا وفي القرى المجاورة لها، لكن من دون جدوى. وبعد أربعة اسابيع من الطواف والبحث عثرت على رجل يعرفه جيداً فقال لي انه عاد الى قريته في أقصى الشمال، وكان عليّ أن اقطع مسافة 1500 كيلومتر في حافلات قديمة، وفي شاحنات على اسوأ حال لكي أصل الى المنطقة التي تعيش فيها القبيلة التي ينتمي اليها ذلك الرجل. وقد استغرقت رحلتي اسبوعين كاملين. وكان علي أن أشرع في البحث من جديد، مستعينة بالصور التي أخذتها له في الزيارتين السابقتين. وعقب اسبوعين آخرين من البحث المضني قال لي صاحب مقهى بائس بأن الرجل الذي أبحث عنه يعيش بصحبة أمه وان الوصول الى قريته يتطلب مني سبع ساعات سيراً على الاقدام لعدم وجود طريق معبّد موصلة الى هناك. اشتريت سيارة "لاندروفر" قديمة جدا، وانطلقت عبر طرق وعرة، وفياف موحشة، غير عابئة بشيء. وعند وصولي الى القرية، فرّ الأطفال الذين كانوا يلعبون في العراء وهم يصرخون فزعين، ذلك انهم شاهدوا للمرة الأولى في حياتهم امرأة بيضاء. وخرج الناس من اكواخهم، ووقفوا ينظرون الي مدهوشين. أظهرت صورة الرجل الذي كنت أبحث عنه، فأشاروا الي بأنه سيأتي بعد قليل. ثم تقدمت مني امرأة عجوز، فارعة الطول، ومن الاشارات، فهمت انها أمه. رحت ابكي من الفرح والسعادة. وبعد نصف ساعة، جاء الرجل الذي أحب. لم أكن أتصور ان أوضاع أهل تلك القبيلة، يمكن أن تكون على تلك الصورة المرعبة من البؤس. فقد كانوا يسكنون أكواخاً مبنية من براز الدواب. وكانوا يكتفون غالب الأحيان بوجبة واحدة، هي عبارة عن حساء من الذرة. ولاقتناء ما يحتاجونه، من سكر وذرة وغير ذلك كان عليهم أن يقطعوا مسافات طويلة. وكان الأطفال والشيوخ يمرضون ويموتون من دون أن يكون باستطاعتهم الذهاب الى الطبيب. باختصار كانوا مقطوعين عن العالم. وكان عليّ أن أقبل بتلك الأوضاع بسبب حبي الجنوني لذلك الرجل، وأن أسكن معه، عقب زواجي منه حسب التقاليد المعمول بها هناك، كوخاً مبنياً من براز البقر، وأن اكتفي بوجبة واحدة هي حساء من الذرة وأن انسى حياتي السابقة. حياة الأوروبية الشقراء المتمدّنة. والشيء الذي اسعدني كثيراً هو أن أمه قبلتني واسكتت أفواه البعض من أهل القبيلة الذين عارضوا زواجي من الرجل الذي أحب. لكن شيئاً فشيئاً، غير هؤلاء رأيهم فيّ أيضاً، واحسست انني أصبحت مقبولة لديهم. اشتريت شاحنة قديمة، وأخذت أساعد الناس على قضاء حاجياتهم. كما أنني كنت أحمل المرضى منهم الى المستشفى. وبسبب رداءة الطرقات البرية، ووعورتها، كانت العجلات تنفجر بإستمرار. كما أنني كنت أحياناً مجبرة على الانتظار اسبوعين كاملين للحصول على البنزين. ومع مرور الزمن، تعلمت بعض الكلمات من لغتهم، وأصبحت أفهم قليلا مما يقوله أهل تلك القبيلة. وعندما تنفد الذرة، أجد نفسي احياناً مجبرة على الاكتفاء بشرب الشاي طول النهار. والعمل الذي كان يرهقني اكثر من غيره هو البحث عن الحطب. وكان ذلك يتطلب مني ساعات طويلة أمضيها في العراء تحت الشمس الوهّاجة. واظنني كنت أفعل ذلك لكي اثبت لزوجي ولأهل قبيلته بأنني أصبحت فرداً منهم. اثناء ذلك أصبت بالملاريا مرتين بل انني أوشكت على الموت، خصوصاً عندما كنت حاملاً. ومحاولة مني للتخفيف عن متاعب الناس، قررت فتح دكان لبيع المواد الغذائية الى جانب السكر والشاي. وكانت السلع التي آتي بها بواسطة الشاحنة القديمة التي املكها تنفد بسرعة، الشيء الذي كان يجبرني على العودة من جديد عبر تلك الطرق الوعرة لاقتنائها مجدداً. وكان عملي في الدكان يستغرق مني أكثر من ست ساعات في اليوم الواحد. وعندما يهبط الليل، أكون مرهقة لا استطيع حراكاً. وازدادت متاعبي بعدما انجبت بنتاً هي الآن في العاشرة من عمرها، وتعيش معي في سويسرا. وعلى رغم ذلك ظللت صامدة، ذلك ان حبي لزوجي ظل ملتهباً. ثم اصبت بالملاريا مجددا، وترّدت حالي الصحية. وبعد عودتي من المستشفى الذي عولجت فيه في مومبازا، احسست ان زوجي تغيّر كثيراً. فقد أصبح يغضب لأتفه الأسباب. ولأن الناس شرعوا يحرضونه ضدي ويقولون له بأنه تزوج امرأة هي عرضة دائماً للأمراض، فإنه أخذ يعاملني بقسوة شديدة. والأفظع من ذلك انه أصبح يغار كثيراً. وعندما اتحدث الى رجل آخر في الدكان، أو انظر طويلا في وجهه لكي أفهم ما يريد، يخرج عن طوره، ويهدد بطردي حينا. وكان يقول لي بأنه محرم على الزوجة الشريفة ان تنظر الى رجل آخر غير زوجها، أو ان تتحدث اليه. ارعبتني تلك التحولات التي طرأت على زوجي، فسقطت مرة أخرى مريضة بالملاريا. التعويض بكتاب ناجح بعد مرور أربعة أشهر على شفائي من الملاريا، أصبت بالتهاب في الكبد وأخبرني الأطباء بأنه سيكون من العسير عليهم علاجي في المرة المقبلة اذا أنا واصلت العيش الطريقة نفسها. عدت الى القرية وأنا في أقصى درجات اليأس والاحباط، وكان عليّ أن أمضي أكثر من خمسة أسابيع لكي اقنع زوجي بمرافقتي بصحبة ابنتنا الى مومبازا. في مومبازا، اصبحت من جديد على صلة بالحياة الحديثة، وبات من السهل علي أن أعيش حياة شبيهة الى حد ما بالحياة التي كنت أعيشها في سويسرا. وكنت سعيدة جداً بذلك. ولأنه بدا لي أن باستطاعتي ان أواصل الحياة مع زوجي، فاني فتحت مكتباً لاستقبال السياح. وقد مكنني ذلك من التحدث بلغتي الأم للمرة الاولى منذ ثلاثة أعوام! غير أن غيرة زوجي التهبت من جديد، فأخذ يراقب تحركاتي وسكناتي، ويعيب عليّ التحدث الى رجال من بني جنسي. وأخيراً قال لي بأنه لم يعد يحبني وأنه قرر العودة الى قبيلته والى أمه. وهذا ما تم بالفعل. وذات صباح، وجدت نفسي وحيدة مع ابنتي. وبنفس تلك السرعة التي قررت بها القدوم الى كينيا، عدت الى بلادي بصحبة ابنتي. والآن أنا على اتصال دائم بزوجي القديم عبر الرسائل. وقد أبلغني انه تزوج امرأة من قبيلته. واعتقد بأنه سعيد. اما بالنسبة لي، فأعتقد بأنني سعيدة أيضاً، خصوصاً بعدما تمكنت من تأليف كتاب عن تجربتي الكينية هو الآن على رأس قائمة المبيعات في المانياوسويسرا والنمسا وهولندا