نائب أمير الرياض يعزي في وفاة عبدالرحمن الحماد    ترامب: سأوجه وزارة العدل إلى السعي بقوة لتطبيق عقوبة الإعدام    المرصد العالمي للجوع يحذر من اتساع نطاق المجاعة في السودان    عُمان تنتفض وتهزم قطر وترتقي لصدارة المجموعة الأولى    عبدالعزيز بن سعود يكرم الفائزين بجوائز مهرجان الملك عبدالعزيز للصقور 2024م    خادم الحرمين وولي العهد يهنئان رئيس المجلس الرئاسي الليبي بذكرى استقلال بلاده    وزير الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية يلتقي قطاع الأعمال بغرفة الشرقية    مكتبة الملك عبدالعزيز العامة وجامعة الأميرة نورة تطلقان معرضًا فنيًا عن الإبل    استعراض خطط رفع الجاهزية والخطط التشغيلية لحج 1446    إطلاق "عيادات التمكين" لمستفيدي الضمان الاجتماعي بالشرقية    الأمين العام لجامعة الدول العربية يلتقي وزير الشؤون الخارجية الصومالي    مدرب المنتخب السعودي: طموحنا مستمر وسنعمل لتصحيح المسار أمام اليمن غدًا في خليجي 26    مجلس الوزراء يقر الإستراتيجية التحولية لمعهد الإدارة العامة    زراعة 153 ألف شجرة لتعزيز استدامة البيئة بالمدينة    إجراءات تركية جديدة لتسهيل عودة اللاجئين السوريين    عبد العزيز بن سعد يشهد الحفل السنوي لجمعية الأطفال ذوي الإعاقة بحائل 2024    انطلاق منافسات سباقات الخيل في ميدان الفروسية بالدمام الجمعة المقبل    المملكة تُطلق الحوافز المعيارية لتعزيز الصناعة واستقطاب الاستثمارات    خطة تقسيم غزة تعود إلى الواجهة    «ليوان» تشارك بفعالية في معرض الأمانة العامة لمجلس التعاون (استثمار وتمكين)    فريق علمي لدراسة مشكلة البسر بالتمور    تشريعات وغرامات حمايةً وانتصاراً للغة العربية    "الوعلان للتجارة" تحتفل بإطلاق "لوتس إمييا" 2025 كهربائية بقدرات فائقة        "البروتون" ينقذ أدمغة الأطفال.. دقة تستهدف الورم فقط    جسر النعمان في خميس مشيط بلا وسائل سلامة    "موسم الرياض" يعلن عن النزالات الكبرى ضمن "UFC"    وزير داخلية الكويت يطلع على أحدث تقنيات مركز عمليات 911 بالرياض    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان    تيسير النجار تروي حكاية نجع في «بثينة»    زينة.. أول ممثلة مصرية تشارك في إنتاج تركي !    تحت رعاية خادم الحرمين.. «سلمان للإغاثة» ينظم منتدى الرياض الدولي الإنساني الرابع    قبل عطلات رأس السنة.. أسعار الحديد ترتفع    الجيلي يحتفي بقدوم محمد    "الصحي السعودي" يعتمد حوكمة البيانات الصحية    مستشفى إيراني يصيب 9 أشخاص بالعمى في يوم واحد    5 طرق لحماية أجسامنا من غزو البلاستيك    محمد بن سلمان... القائد الملهم    "فُلك البحرية " تبني 5600 حاوية بحرية مزود بتقنية GPS    قدرات عالية وخدمات إنسانية ناصعة.. "الداخلية".. أمن وارف وأعلى مؤشر ثقة    "الداخلية" تواصل تعزيز الأمن والثقة بالخدمات الأمنية وخفض معدلات الجريمة    تنمية مهارات الكتابه الابداعية لدى الطلاب    منصة لاستكشاف الرؤى الإبداعية.. «فنون العلا».. إبداعات محلية وعالمية    محافظ جدة يطلع على برامج "قمم الشبابية"    آبل تطور جرس باب بتقنية تعرف الوجه    استدامة الحياة الفطرية    سيكلوجية السماح    عبد المطلب    زاروا معرض ومتحف السيرة النبوية.. ضيوف «برنامج خادم الحرمين» يشكرون القيادة    وتقاعدت قائدة التعليم في أملج.. نوال سنيور    «بعثرة النفايات» تهدد طفلة بريطانية بالسجن    رشا مسعود.. طموح وصل القمة    احترم تاريخ الأخضر يا رينارد    التشريعات المناسبة توفر للجميع خيارات أفضل في الحياة    تجويد خدمات "المنافذ الحدودية" في الشرقية    الأمير سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف.    استشهاد العشرات في غزة.. قوات الاحتلال تستهدف المستشفيات والمنازل    ولادة المها العربي ال15 في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



زوجة قائد "الجيش الشعبي لتحرير السودان" تروي سيرتها ل "الوسط" . روبيكا قرنق : وطننا دياسبورا في أفريقيا والثورة مستمرة حتى تحرير السودان
نشر في الحياة يوم 01 - 11 - 1993

زوار وأقارب واصدقاء ورفاق يدخلون ويخرجون. وفي الداخل غرفة استقبال تضيق بالضيوف، وروائح طهي العدس والخضر تنبعث من المطبخ. لقد تحول المنزل الخاص بالعقيد جون قرنق في نيروبي الى "منزل عام" نادراً ما نأكل لوحدنا"، قالت روبيكا زوجة زعيم "الجيش الشعبي لتحرير السودان" فالمائدة دائماً مليئة بالضيوف، وخارج مواعيد الطعام تدور اكواب الشاي الممزوج بحب الهال.
عفوية روبيكا جون قرنق ازاحت عبئاً ثقيلاً، فانساب الكلام مع "الوسط" طبيعياً وطلقاً، عن رجل شغل افريقيا ولا يزال بثورة مسلحة كبيرة. من الخرطوم الى جوبا الى بور الى اميركا الى الادغال والغابات الاستوائية الى اثيوبيا والآن في كينيا ... مسيرة قطعها الزوجان وسط المخاطر، يأتي حديث روبيكا ليرسم صورة غير معروفة عنها.
في أي منطقة ولدت في جنوب السودان؟
- ولدت في مدينة بور، في ولاية اعالي النيل عام 1956، لا اعرف بالضبط يوم ولادتي في شهر تموز يوليو. كان والدي من كبار مزارعي قبيلة الدينكا، وفي الوقت نفسه عمل سائقاً لدى وزارة التربية السودانية واهتم بصيانة حافلات الوزارة. انتقلنا الى مدينة جوبا، في ولاية الاستوائية الجنوبية، عندما بدأ والدي العمل مع وزارة التربية.
درست في المدرسة الرسمية في جوبا، حيث انهيت المرحلة الابتدائية والاعدادية. وعندما تزوجت من جون قرنق انقطعت عن الدراسة بعض الوقت.
كيف التقيت جون قرنق؟
- كان جون، في الفترة الاولى لتعارفنا، يسكن في منزل خالتي في جوبا، وكان نقيباً في الجيش المرابط في ثكنة المدينة، وكادراً من كوادر ميليشيا "انيانيا - 1" التي نصت اتفاقية اديس ابابا عام 1973 على استيعاب كوادرها المقاتلة في صفوف القوات المسلحة. وكان زوج خالتي ايضاً من كوادر "انيانيا - 1" وكان النقيب قرنق يناديه "عمي". وذات مساء لبيت دعوة خالتي الى حفلة شاي فتعرفت الى جون وكلانا من قبيلة الدينكا. وخلال الحرب الاولى في جنوب السودان عمل زوجي مديراً لمكتب الكولونيل جوزيف لاقو، زعيم ميليشيا "انيانيا - 1"، برتبة ضابط صغير متمرن، واستحق في ما بعد ترقيات كبرى في حياته العسكرية.
بعد مضي فترة على تعارفنا زارنا النقيب قرنق في منزل الاسرة وطلب يدي من والدي. وحسب تقاليد الدينكا كان على والدي ان يستعلم عن العريس وعن اوضاع اسرته وسيرته واخلاقه. وجاءت النتائج طيبة، فوافق والدي. غير ان النقيب قرنق كان مضطراً الى السفر في بعثة تعليمية الى الولايات المتحدة، بعد فترة من مفاتحة اهلي برغبته في الزواج مني. وسافر زوجي الى الولايات المتحدة عام 1974 ولم يكن يجمعنا سوي رابط رمزي تشده مشاعر متوهجة ورغبة في العيش تحت سقف واحد.
حدثيني عن زوجك في هذه المرحلة من حياته؟
- استمرت الرسائل بيننا. كان شفافاً ورقيقاً وفي غاية الحرص كي ارافقه خطوة خطوة في غربته.
هل ضمن رسائله شيئاً من الشعر؟
- لا، لم اعرف عنه انه ينظم الشعر، مع ان رسائله التي احتفظ بها حتى الآن اقرب الى الشعر. كنت في الثامنة عشرة وكانت الحياة تبدو لكلينا واعدة بكل ما هو جميل وطيب. وفي العام 1975 عاد جون من الولايات المتحدة وطلب يدي مرة اخرى، فرفض والدي فكرة زواجنا قبل ان انهي دراستي الثانوية غير ان جون وعده بأنه سيتيح لي فرصة الدراسة بعد زواجنا. وفي 19 كانون الاول ديسمبر 1975 عقدنا زواجنا في مدينة بور، مسقط رأس زوجي. وحسب تقاليد الدينكا كان على العريس ان يقدم عدداً من الابقار الى اهل العروس. ثم تنتقل العروس الى منطقة سكن العريس مع اسرتها فيبارك عقلاء قبيلة الدينكا العروسين.
ما المقاييس التي يتحدد على اساسها عدد الابقار؟ وهل يلعب جمال العروس وعمرها دوراً في ذلك؟
- الجمال وعمر العروس من الامور المهمة. لكن الاهم في مجتمع الدينكا هو عدد افراد اسرة العروس. عمي الاكبر وامه اي جدتي ينال كل منهما بقرتين. خال العروس ينال ثلاث بقرات، واحياناً اربع بقرات. الوالدان ينالان حصة متساوية، وفي الحالات العادية بقرة او بقرتين. وغالباً ما تكرم ام العروس فتأخذ ثلاث او اربع بقرات. وبقية افراد اسرة العروس من اخوة واخوات يأخذ كل واحد منهم بقرة واحدة.
ما الذي تفعله أسرة العروس بهذه الابقار؟
- تستخدم اسرة العروس هذه الابقار مهراً يدفعه ابناؤها الذكور عندما يحين دورهم. وتبقى الابقار ضمن ممتلكات الاسرة الواحدة التي يزيد عدد مقتنياتها من الابقار من خلال زواج بناتها. كنا في المنزل 3 بنات من ام واحدة، واخ نصف شقيق استخدم هذه الابقار لعقد زواجه.
ما هي أبرز تقاليد عرس الدينكا في جنوب السودان؟ وهل يتبع الزواج القبلي عقد زواج ديني؟
- بعد الحصول على موافقة اسرة العروس تنتقل العروس مع ذويها الى منطقة اقامة العريس. هناك يشارك عقلاء القبيلة الزوجين اللذين تعود اليهما مسألة استكمال الزواج القبلي بعقد زواج ديني. حسب انتمائهما الروحي.
هل اكتفيتما بالزواج على الطريقة القبلية؟ وهل تحتفظين بصور خاصة بالمناسبة؟
- كنت نحيلة جداً. التقطنا الكثير من الصور التي تركتها في السودان حين هربنا الى اثيوبيا عام 1983. بعد زواجنا حسب تقاليد الدينكا الذي استمر اسبوعاً كاملاً تواصل فيه الغناء والرقص ليلاً ونهاراً، عقدنا زواجا دينياً في كنيسة المدينة وعدنا الى بور مركز عمل زوجي.
وبعد فترة قصيرة حصل زوجي على ترقية واصبح المسؤول الاول عن ثكنة بور خصوصاً ادارة شؤون الكتيبة الشهيرة الرقم 105 وغالبيتها من كوادر "انيانيا - 1".
لم اتمكن من استئناف دراستي لانني حملت طفلي الاول مباشرة بعد الزواج. وفيما اضطر جون للعودة مجدداً الى الولايات المتحدة لاستئناف دراسته عدت انا الى منزل اسرتي في جوبا لاضع طفلي الاول عام 1977. مولودي كان صبياً وتحتم التقاليد القبلية ان ابقى في منزل اهلي حتى يبلغ المولود عامه الاول. غير ان زوجي عاد من الولايات المتحدة بعد 45 يوماً من ولادة طفلي وتوجه مباشرة الى بيت والدي لنعود معاً الى منزلنا في بور حيث كنا نملك مزرعة واسعة نزرع فيها انواع الخضر والفاكهة.
وهل اتسع وقتكما لاهتمامات اخرى غير الزراعة؟
- الزراعة هي الاصل والاهتمامات الاخرى تفاصيل. لم يكن ميلنا الى الزراعة مجرد هواية. زوجي فلاح قبل ان يكون زعيماً سياسياً وقائد ميليشيا. زرعنا الذرة والبطاطا الحلوة والبامية والباذنجان والطماطم. وبلغت مساحة المزرعة قرابة 11 هكتاراً. وخصصنا 10 هكتارات للفول السوداني الفستق وهكتاراً واحداً للخضر.
ما الذي دفع زوجك الى العمل في الزراعة وهو ذو منصب عسكري؟
- شعبنا في الجنوب يكره العمل في الزراعة ولا يحب اكل الخضر التي يفضل عليها مختلف انواع اللحوم ومشتقات الحليب والنشويات. عملنا في المزرعة كي نقدم نموذجاً الى ابناء الجنوب. العلاقة بالارض والتراب هدفنا الاول في تجربة الزراعة. ولا نستطيع ان نناضل لتحرير وطننا اذا لم تكن لدينا علاقة قوية مع ترابنا. صحيح ان الدينكا قبيلة تهتم برعاية المواشي، الا انها قبيلة عرفت الاستقرار فوق ارض محددة.
كيف كانت اقامتك في الولايات المتحدة عندما عدتما اليها؟
- اقمنا علاقات طيبة مع جيراننا في ولاية آيوا، وتابعت دراستي في المنزل. وبعد فترة صرت قادرة على التعاطي مع سكان البلدة وشراء حاجاتي من دون مساعدة زوجي. ثم التحقت بأحد المعاهد الدراسية في البلدة واستكملت المرحلة الثانوية من تعليمي فيما واصل زوجي دراسته العليا في الاقتصاد. وبعد انتهاء فترة دراسة زوجي وكانت اربع سنوات عدنا الى الخرطوم بعدما انهى شهادة الدكتوراه في كانون الاول ديسمبر 1981.
ولما وصلنا الى السودان توجهت مباشرة الى منز اسرتي. اذ كانت والدتي توفيت خلال وجودي في الولايات المتحدة. ومن جوبا، حيث يقيم اهلي توجهنا الى بور، وبعدها انتقل زوجي الى الخرطوم حيث تسلم منصب مساعد مدير الكلية العسكرية.
تمرد الكتيبة 105
خلال الفترة التي سبقت اندلاع الحرب الاهلية الثانية في جنوب السودان عام 1983، هل شعرت بأن زوجك على علاقة بما يجري في مدينة بور، من استعدادات واتصالات سياسية؟
- كنت اعرف ان زوجي على اطلاع شامل ومفصل على كل المشاكل التي تواجهها الكتيبة الجنوبية الرقم 105 داخل القوات المسلحة. لكنني لم اكن على بينة من نوعية العلاقة القائمة بينه وبين الخلايا التنظيمية للانتفاضة المسلحة وعمقها. في تلك الفترة كان زوجي يرغب في ان اعود الى الولايات المتحدة لمواصلة تعليمي بعد حصولي على منحة دراسية من احدى المؤسسات الكنسية لفترة سنة واحدة. وانتابني شعور بالقلق بسبب الحاحه علي بضرورة السفر. واختلقت ذرائع كثيرة كي لا اسافر وبصعوبة استطعت اقناعه بوجهة نظري. وغادرنا الخرطوم مع ولدنا البكر الى جوبا لزيارة الاهل. كان الوضع في غاية السوء وفي ذروة الغليان. وذهبنا الى مزرعتنا في بور التي ضاعفنا مساحتها بفضل عائدات محاصيلها الزراعية كما خططنا لزراعة السمسم والفستق بكميات كبيرة. بعد فترة شعرنا بأن الاوضاع ليست مستقرة وتتجه نحو التصعيد. فتوقفنا عن تنفيذ مشاريعنا المتعلقة بتطوير المزرعة.
وأثناء وجودنا في بور تمردت الكتيبة الشهيرة 105، وغالبيتها من قوات "انيانيا - 1. وقع التمرد في 16 ايار مايو 1983 عندما صدر قرار نقل هذه الكتيبة الى شمال السودان، اذ كانت غالبية كوادرها من المزارعين ومربي الابقار، لاضطررنا الى مغادرة السودان متجهين الى اثيوبيا.
امضينا يومين في مدينة كونفور. وفي 19 ايار مايو، وهو الشهر نفسه الذي اندلعت فيه الانتفاضة الاولى، توجهنا الى اثيوبيا. هربنا تاركين وراءنا كل شيء، لأن القوات السودانية بدأت تبحث عن زوجي لاعتقاله بتهمة الاعداد للثورة. استخدمنا سيارتنا الخاصة في الطريق طوال سبعة أيام وعندما تعطلت السيارة تابعنا رحلتنا سيراً على الاقدام.
عذابات الرحلة
عدد قليل من اصدقائكم المقربين يعرف انك تحملين رتبة رائد في قوات "الجيش الشعبي لتحرير السودان" الذي يتزعمه زوجك. هل تعتبرين اللجوء الى اثيوبيا بداية علاقتك بالجيش الشعبي؟ وهل تذكرين شيئاً عن هذه الرحلة التي حولتك الى اول امرأة افريقية تنخرط في حركة مسلحة تشن حرب عصابات؟
- بدأنا رحلتنا انا واطفالي وزوجي سيراً على الاقدام، بعد تعطل سيارتنا، امضينا ثلاثة ايام ونحن نقطع الغابات والسهول، وكل منا يحمل ولداً فوق كتفيه. كنا نتوقف عندما يهبط الليل. ونشعر بالتعب. حملت معي بعض البطانيات وناموسية مانعة للبعوض وبعض اواني الطبخ. في الطريق التقينا اخوة جنوبيين هاربين مثلنا وتقاسمنا الغذاء والهواجس، وساعدوني في حمل ولدي الثاني. وكان همي الاساسي ان اهرب بزوجي من السودان حيث كانت تلاحقه قوات الامن. وكنت واثقة من اننا نستطيع العيش في اي مكان خارج السودان، فلزوجي امكانات تؤهله لكسب معيشة اسرته الصغيرة بكرامة. وتضرعت في سري الى الله الا تعثر علينا شرطة الحدود.
اجتزنا الحدود في 27 ايار 1983 وفي 27 حزيران يونيو 1983 وصلنا الى ايتانغ داخل اثيوبيا. اذكر ذلك اليوم الشديد الحرارة. كنت متعبة في نهاية جلجلة الخوف والهرب من الوطن في سبيل الوطن وقضيته. ولأني احب زوجي وعائلتي تحملت عذاب الرحلة ومشاقها، فقد مشيت مسافات لم امشها طوال عمري، ولم استسلم للاحساس بالتعب والجوع.
دخلت صفوف "الجيش الشعبي لتحرير السودان" بعد وصولنا الى اثيوبيا، وكان هذا الامر الجديد بالنسبة الي خطوة اولى لتطوير نفسي حتى اكون زوجة زعيم حركة سياسية تخوض حرباً تحريرية مسلحة. وكان زوجي منصرفاً كلياً الى القضية التي تقاتل "الحركة الشعبية" من اجلها. ولا ادعي اني كنت على اطلاع كاف على تفاصيل الايديولوجية الخاصة بالحركة التي يتزعمها زوجي.
في الفترة الاولى لوجودنا في اثيوبيا امضيت وقتي في تأمين القوت لاطفالي، من الخضر البرية في السهوب والغابات في ايتانغ قرب الحدود السودانية - الاثيوبية. وبعد فترة قصيرة، وبسبب تدفق اللاجئين السودانيين من الجنوب، تحولت ايتانغ الى معسكر واسع للاجئين فبنيت بطيتين كوخين في المرحلة الاولى مستعينة بالقش والخشب في السهوب والغابات المجاورة. اقمت مع زوجي واطفالي في كوخ وخصصنا الآخر للضيوف. كان والدي مزارعا وأمي امرأة فاضلة تعلمت عليها طرق صنع البطيات الاخواخ وزراعة الحقول وتعلمت على جدتي وعجائز القبيلة طرق الافادة من النباتات البرية. فمنها ما يؤكل بعد طبخه، ومنها ما يستخدم كأدوية لعلاج بعض الامراض.
حملت معي مكعبات مرق الدجاج واستخدمتها في اعداد وجبات لذيذة لزوجي وأطفالي. كنت اشتري الحليب وأعد الجبنة منه مستعينة بالمزارعين قرب المعسكر، حيث اقمنا فترة ستة زشهر. وفي تشرين الثاني نوفمبر 1983 ذهبنا الى بلدة غامبيلا شمال غربي اديس اباب. وفي كانون الثاني يناير 1984 انتقلنا الى اديس ابابا وبقينا هناك حتى سقوط نظام العقيد منغيستو هايلي مريام في ايار 1991.
حببت العيش في اديس ابابا وكنت ممتلئة بالعافية انا وأطفالي. وخلال وجودي فيها رزقت بناتي الثلاث. البنت الكبرى ولدت في اسكوتلندا، والثانية في اديس ابابا والثالثة في نيروبي.
اثناء سقوط نظام منغيستو كنا في هراري عاصمة زيمبوبوي، حيث نمتلك منزلاً. وعلى رغم هذا فانا لا احب العيش في هراري لبعدها عن الوطن. تبقى نيروبي اقرب من هراري الى جنوب السودان مع هذا جئنا الى نيروبي في كانون الاول ديسمبر 1992 وسجلنا اطفالنا في مدارسها.
دورة عسكرية
تحاشيت الحديث عن تجربتك في "الجيش الشعبي" كيف تنظرين الآن الى هذه التجربة؟
- هل تلقيت دورات تدريبية عسكرية في اثيوبيا؟
- نعم لفترة ستة اشهر في اثيوبيا. ضباط الحراسة الخاصة بزوجي كانوا يتولون تدريبنا. في المرحلة الاولى تعرفت الى مختلف انواع الاسلحة واستخدامها. قبل ذلك كنت اخاف الاقتراب من مسدس زوجي واتحاشى ان المسه. تعلمت كيف افكك المسدس واعيد تركيبه وشحنه بالذخيرة. بعد ذلك بدأت دورة عسكرية مكثفة في بونغو، على بعد 43 كلم من ايتانغ، حيث معسكر "الجيش الشعبي". عهدت باطفالي الى شقيقتي، وبقيت في معسكر التدريب ستة اشهر. كانت تدريبات مكثفة. قسم من التدريبات ركز على الامن وحماية القيادات العسكرية. لم يكن تدريباً قاسياً، انما تطلب قدراً كبيراً من الاعمال النظرية الكتابية وبعض الدراسة. منذ ان غادرنا جنوب السودان احسست بأننا نعيش ثورة ستستمر سنوات طويلة. لذا انصرفت الى اهتمام بالتدريب العسكري، فلقد منح زوجي نفسه لهذه الثورة، ولم يعد معنا في المنزل الاب المسؤول العطوف الذي يهتم بكل فرد من الاسرة. كان لزاماً علي ان احمي بيتي ونفسي واطفالي. وبواسطة الدورة العسكرية تعلمت كيف اكون زوجة قائد ميليشيا مسلحة. كانت دورة التدريب العسكري احد ابرز المنعطفات الحادة في حياتي مع زوجي. فبعد انتهاء الدورة تحولت الى زوجة زعيم ميليشيا مسلحة وربة بيت في آن، وشعرت بأنني قادرة على العيش معه، العمر كله، داخل الغابة اذا اقتضى الامر.
عملية وراء خطوط العدو
هل خضت مع العقيد قرنق معركة عسكرية؟
- ارجو ان تعفيني من الاجابة، فالثورة مستمرة ولم تنته بعد. ذات يوم تقرر ارسال ذخيرة وتعزيزات عسكرية الى منطقة عمليات عسكرية داخل جنوب السودان على مقربة من جوبا خاضعة لأمرة القائد اكوال مانيانغ، وكلفني الاشراف على هذه العملية القائد ماريو مور الذي كنت احد مساعديه.
وضعت الذخيرة والتعزيزات في آليات عسكرية بلغ عددها 60 آلية، وقطعت القافلة حوالي 600 كلم داخل الاراضي السودانية. قال لي زوجي عشية تنفيذ المهمة: "انت الآن في موقع مسؤولية وعليك ان توصلي الاسلحة والتعزيزات العسكرية وفق الخطة". عرفت الخوف، من دون شك، وكنت على مقربة من الموت في كل لحظة. غير ان محبتي لاطفالي وزوجي ساعدتني على مقاومة الخوف. وقدت الآليات ونفذت التعليمات التي اعطيت لنا واوصلت الاسلحة الى المكان المقصود.
ومن هناك نظرت الى جوبا والى بور بعين اللهفة والشوق. نظرت الى بيتي واهلي ومزرعتي وابقاري، هل ما زالت هناك؟ كيف حال البئر في مزرعتنا؟ وكيف حال جدران البيت؟ كنت اسأل نفسي، وكاد الشوق ان يحولني من مقاتلة الى امرأة باكية مشتاقة الى وطنها، غير اني هربت بنفسي وصعدت الى سيارة الجيب العسكرية ورنوت ملياً الى ذاتي داخل الملابس العسكرية ووعدت نفسي بالا أضعف مرة أخرى.
احتفظ بملابسي العسكرية حتى الان في نيروبي. وكلما ذهبت الى "المناطق المحررة" في جنوب السودان ارتديها مجدداً فاشعر بأنني من كوادر "الجيش الشعبي". فأنا نذرت نفسي، من خلال العقيد قرنق، لهذه الثورة التي منحها نفسه. وحين اكون من جنودنا في جنوب السودان اشعر بحنان بالغ يغمرني عندما يتعاملون معي باحترام بالغ. لا اشارك في عمليات عسكرية داخل الوطن انما ارتدي ملابسي العسكرية كي اكون اكثر اقتراباً من اخوتي وابنائي المقاتلين وقياداتهم.
تتحدثين عن العقيد قرنق بطريقة تكشف جانباً غير معروف عن شخصيته. هل هو مزارع جيد؟
- زوجي يحب السودان ويعشق ترابه وهو مثلي شديد التعلق بارضنا. عندما كنا في الخرطوم، بعد عودتنا من الولايات المتحدة، لا اذكر انه ذهب الى النوم قبل الاولى صباحاً. كان يعود الى المنزل مساء، نتناول طعام العشاء ثم ينصرف الى ممارسة احدى هواياته المحببة وهو النجارة، في حين كنت اشغل وقتي في طلاء جدران البيت. اذكر ان جون صنع لنا خزانة خشبية. كما صنع طاولة اكل كبيرة ومكتبة ورفوفاً كثيرة، ومناضد خشبية. لم يتعلم زوجي مهنة النجارة انما اتقنها من خلال الكتب. في النهار كان يدرس في جامعة الخرطوم مادة الاقتصاد الزراعي، وفي الليل يمضي وقته بين النجارة والمطالعة. وفي صباح اليوم التالي عندما اذهب الى سوق الخضر في الخرطوم لابتاع حاجاتي كانت النسوة تسألنني بفضول غريب: "من هو النجار الذي يعمل طوال الليل في منزلكم؟" وعندما كنت اقول انه زوجي كن يصرخن مشدوهات: "العقيد قرنق نفسه، بالله؟ غير معقول!".
طباخ ماهر
ما الخصال الاخرى غير المعروفة عن زوجك؟
- في شبابه كان يحب الزراعة. بعد زواجنا كان الرائد قرنق في بور يوزع وقته بين عمله في الثكنة والمزرعة. وتعلم لاحقاً النجارة وهو يجيد كل اعمال الصيانة المنزلية، ولا يؤمن بالاختصاص بالنسبة الى الزوج رب البيت وصاحب الاسرة. في الوقت نفسه كان زوجي طباخاً ماهراً، ساعدني كثيراً عندما كنا ندرس في الولايات المتحدة واستطيع القول باعتزاز شديد انه كسر احد ابرز تقاليد الرجال في قبيلتنا الدينكا، فالزوج الدينكا لا يدخل المطبخ ولا يقترب من مواد الطبخ. في الولايات المتحدة كنت اذهب الى كلية واعود مساء لاجد الطعام جاهزاً. ساعدني زوجي في اكمال دراستي كي يفي بوعد قطعه على نفسه امام والدي. زوجي مخلص للغاية يحترم وعوده وينفذها وكثيراً ما ساعدني في تنظيف المنزل والعناية باولادنا الصغار
يتقن زوجي اعداد انواع عدة من الطعام، منها لفائف اللحم البقري الرقيقة المحشوة بالخضر والمطبوخة بصلصة الطماطم. كما يجيد طبخ البيتزا.
هل هو زوج غيور؟ انت امرأة جميلة وشابة.
- اطلاقاً. منحني زوجي حرية تامة. وهو زوج محاور وصريح. عندما يخطىء يعترف بخطأه وهو لا يتورع عن مصارحتي عندما اقوم بشيء ما غير مناسب.
ما الاشياء التي تحبينها في زوجك؟
- اكثر ما يعجبين في زوجي اخلاصه لوطنه وشعبه. كزوج تعجبني غياب مشاعر الغيرة لديه. انه كريم جداً ويحترم روابط العائلة ويسأل عن الاقارب ويهتم باحوالهم.
هل هو زوج مخلص؟
- زوجي في غاية الاخلاص والارتباط باسرته. عندما كنا في السودان كنت اقول بصوت مرتفع: انا اسعد امرأة في العالم.
هل تفتقدين الحياة العادية مع زوجك؟ وهل تخرجان معاً لتناول طعام العشاء في نيروبي؟
- خروج العقيد قرنق من المنزل يتطلب استعدادات امنية معقدة. لذا يصبح خروجه نادراً ومقتصراً على زيارات رسمية، او لأهداف تتعلق بطبيعة مشاغله.
في الايام الاولى لتجربتنا في "الجيش الشعبي" تألمت كثيراً لاني فقدت الحياة العادية التي يعيشها كل زوجين. ففي الخرطوم كنا نخرج كل مساء الى نادي الضباط، ونمضي عطلة نهاية الاسبوع مع اصدقائنا واطفالهم في النادي. ومع مرور الوقت اعتدت نمط الحياة الجديدة مع زوجي ولم تعد تهمني هذه الامور قدر حرصي على سلامة زوجي. ومع هذا نلبي دعوات اصدقاء حميمين يقيمون هنا في نيروبي.
هل تعرض العقيد قرنق لمحاولة اغتيال؟
- لا اعتقد. حين نعود الى المناطق المحررة في جنوب السودان استعيد حريتي مع زوجي واطفالي. نمضي معاً اوقاتاً طويلة وينصرف هو في اوقات فراغه الى ممارسة هوايته المحببة الزراعة. في منطقة بوما نزرع شجيرات الموز والمانغو والبرتقال والخضار والذرة. بوما منطقة خصبة تقع بين باشلا وكبوتيا.
هل زوجك رجل متدين؟
- اجل. الايمان بالوطن يرتبط بالايمان بالله خالق هذا الوطن بمن فيه وما فيه من شعوب وقبائل ومخلوقات، وان كان ايمان زوجي غير مقترن بممارسات طقوسية كالذهاب الى الكنيسة. صحيح اننا عقدنا زواجنا على الطريقة القبلية، الا اننا عقدنا ايضا زواجا دينياً. بعد زواجنا كنت اذهب الى الكنيسة يوم الاحد في حين كان هو يمضي اوقاته في المزرعة.
هل له كتابات خاصة، غير القضايا العسكرية؟
- حين انهى دراسته في الولايات المتحدة أحب بعد نيله شهادة الدكتوراه ان ينصرف الى الكتابة واعداد الدراسات الاكاديمية. غير ان الحياة فرضت عليه توجهات واهتمامات اخرى.
الكومبيوتر
لو توافر لدى العقيد قرنق بعض الوقت وهو معك بعيداً عن خط المواجهة في جنوب السودان، كيف يمضي هذا الوقت مع الاسرة؟ وما الامور التي يحب التركيز عليها؟
- هذه اطول فترة يمضيها زوجي معنا. كل مساء يعقد حلقة دراسية مع اطفالنا ويدرسهم الرياضيات والكومبيوتر، فلديه جهاز كومبيوتر يستعين به. نقرأ احياناً كتباً باللغة الانكليزية ونتناقش في مضمونها. روزنامة زوجي اليومية مليئة بالمواعيد مع ديبلوماسيين او سياسيين محليين او وافدين وقادة عسكريين، وما يتبقى من الوقت يمضيه امام جهاز الكومبيوتر. نحن معاً الآن وهو في الدور العلوي امام الكومبيوتر.
الا تشتاقين الى الوطن؟
- بالطبع كل انسان يشعر بالشوق الى وطنه. لكن الوطن هو حيث يقيم الاهل والاصحاب. وهؤلاء تحولوا الى دياسبورا متنقلة في دول الجوار الافريقي. جنوب السودان الذي عرفته هو المكان الجميل الهادئ الذي ينصرف فيه الناس الى زراعة حقولهم وتربية مواشيهم بسلام، وليس وطن السلاح والحديد والاقتتال الاهلي. جنوب السودان الذي عرفته وأحن اليه يختلف كثيراً عن جنوب السودان كما هو حالياً. قبل الثورة لم اعرف في الجنوب سوى مناطق انتشار قبيلتنا الدينكا. ومع زوجي ومن خلاله تعرفت على الوطن وعلى مواطن انتشار القبائل الاخرى.
هل تقلقك فكرة الثورة ستستمر سنوات اخرى ويبقى وطنك مليئاً بالحديد السلاح والنار والاقتتال؟
- بالطبع. انما اقول لك كمقاتلة وكضابط في "الجيش الشعبي لتحرير السودان"، لن تتوقف هذه الثورة حتى يتحرر الوطن ويعود السلام الى ربوعه ويرجع ابناؤه اليه من بلدان الشتات.
هل تعجبك فكرة ان تكوني "السيدة الاولى في السودان الجديد"؟
- هذا الأمر لم يرد في ذهني لحظة واحدة. وان كانت الاحلام رفيقة المناضلين.
هل اعجبك نمط العلاقة بين ويني ونيلسون مانديللا زعيم المؤتمر الوطني الافريقي؟
- تعجبني لديها قدرتها على الصمود، وكذلك غيرها من النساء المناضلات.
تعرفت عبر العقيد قرنق الى عدد من الزعماء الافارقة. ما الذي لفت نطرك لدى هؤلاء؟
- عرفت منغيستو هايلي مريام، وروبرت موغابي وكينيث كاواندا، وموبوتو سيسي سيكو، ودانييل آراب موي ويوري موسوفيني وغيرهم، ولا استطيع ان احدد بالضبط ما يلفت نظري فيهم.
ما الامور التي تثير في نفسك الحزن والخوف؟
- غياب زوجي عن الدار. عندما يكون معنا يملأ البيت حركة وحيوية ويضيق البيت بمن يدخله من الاصدقاء والزوار. لدى زوجي جاذبية آسرة وهو محدث لبق. ارنو الى يوم استطيع ان اعود مع زوجي وأسرتي الى مزرعتنا في بور فنزرع الفستق والخضر ويعود هو الى النجارة وممارسة هواياته الاخرى.
لو انتهت الحرب في جنوب السودان الى حل يرضى به العقيد قرنق، هل تنصحينه باعتزال العمل العسكري والسياسي والانصراف الى الكتابة وممارسة حياته العادية؟
- زوجي لم يعد ملكي انما هو ملك الوطن. وان كانت لدي الفرصة لا عطي رأيي فسأقوله له شخصياً وليس لك انت ... او للقراء.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.