يفتتح فيصل دراج كتابه "نظرية الرواية والرواية العربية" بملاحظات عامة عن الإطار الفلسفي لنظرية الرواية الأوروبية، وعن ميلها لقراءة الكتابة الروائية من جهة محمولها الفكري - التاريخي لا من جهة بنيتها الداخلية وعناصرها التكوينية، وعن خصوصية السياق الثقافي لظهور الرواية العربية وتطورها. والحال أن هذا الكتاب، الصادر أخيراً عن "المركز الثقافي العربي" في بيروت، يغطي جوانب متشعبة من قضايا الإبداع الروائي والنظرية النقدية التي تواكبه بالفهم والتفسير والتقييم. وقدّم درّاج، في القسم الأوّل من كتابه، خمس دراسات تناقش نظريات بعض أبرز المفكرين الأوروبيين في القرن العشرين: جورج لوكاتش، لوسيان غولدمان ، ميخائيل باختين ، سيغموند فرويد ورينيه جيرار. ولكل واحد من هؤلاء منظوره الخاص لماهية الرواية، فالأول درسها في علاقتها والملحمة بفلسفة التاريخ، والثاني دخل إليها من باب علم اجتماع، والثالث تناولها كظاهرة أسلوبية ضمن سياق لغوي حواري، والرابع أرجعها إلى زمن الطفولة بأحلامه وممنوعاته، أما الخامس فأتخذ منها مؤشرا للرغبة التي تتخذ من المحاكاة وسيطاً لتجليها. أما في القسم الثاني المخصص للنقد التطبيقي، فيقدّم الناقد الفلسطيني ست دراسات لتجارب روائية عربية تغطي كتابات محمد المويلحي ومحمد حسين هيكل التي تعود إلى بداية القرن الماضي، وكتابات أميل حبيبي وأدوار الخراط وجمال الغيطاني وصنع الله إبراهيم التي تمثل جيل روائيي نهاية القرن. مرآة مكسورة لعوالم البشر والرواية، بالنسبة إلى فيصل درّاج، جنس أدبي يتلازم مع اقتصاد المجتمع الرأسمالي الحديث وثقافته وسياسته، مجتمع المدينة والفرد، الحقائق النسبية والاغتراب الاجتماعي والاقتصادي، الحرية الذاتية والنزوع إلى الحوار مع الآخر، العزلة الإنسانية وممكنات التعددية. إنها، أي الرواية، "مرآة مكسورة لعوالم البشر"، وبوصلة لتاريخ مسكون بالتحولات والأزمات والقلق والاحتمالات الناقصة. وفي مقاربة كهذه تبدو واضحة بصمات جورج لوكاتش الذي استلهم منه دراج أفكاراً أساسية، وعارضه في أخرى. فلئن يذهب لوكاتش إلى أن البطل الروائي ظلّ للطبقة الاجتماعية التي ينحدر منها، وامتداد لقوى التاريخ الموضوعية، يرد عليه درّاج بأن تحليله يقصي اللغة ويهمّش دورها في صنع العالم الروائي. ولئن تخيل لوكاتش قوة الرواية في سبرها لجوهر قار خلف المظاهر الزائفة، فإن دراج يذكّره بأن الرهان على جوهر ثابت للوجود وعلى حقيقة كلية للتاريخ، لا يدق فقط على وتر المثالية الإفلاطونية، وإنما أيضا يفضي إلى حصر تناقضات الحياة في بؤرة ضيقة وباهتة. ومع ذلك، يبقى الناقد وفياً لمبدأ لوكاتش في استنطاق المحمول الاجتماعي للنص الروائي، وتعيين دلالته التاريخية، مع الانتباه إلى محاذير التفسير الميكانيكي لنظرية الانعكاس. هذا بالنسبة إلى تحقيب النص تاريخياً. أما بالنسبة إلى عالمه الداخلي أو شكله الذي لا يعدّ مسألة شكلية زائدة، فيستعين درّاج بالناقد الروسي باختين صاحب مبدأ العلاقة الحوارية المتعددة الطبقات والأصوات التي تنسج عمارة الرواية في مبناها ومعناها، في شخصياتها وأزمنتها، في خيال كاتبها وحساسية متلقيها. ومن منطلق المزاوجة بين تاريخية الحقيقة وتعدد مستويات الأداء اللغوي، يشخّص الكاتب الرواية العربية في سياقها واحتمالاتها، ملاحظاً أن فكرة التاريخ الشامل التي نادت بها الحداثة، وترجمتها الرأسمالية كعلاقات تبعية وإخضاع للآخر، أغلقت عملياً منافذ الحوار والتفاعل بين اللغات البشرية والهويات الثقافية والتمثيلات المعرفية. ولا يمكن لأي تواصل مثمر بين الثقافات والأفراد، أن يتحقق من دون استقلال الشعوب ومساواتها ببعضها. بعبارة أخرى، فإن الرواية التي حملت، في موطنها الأوربي الأول، تباشير تمركز الإنسان الحديث كقيمة بذاتها، وهواجس استقصاء قلقه المبدع وبحثه اللانهائي عن الحقيقة، انقلبت، في حالة المجتمعات التابعة، إلى مساءلة الماضي بمكنونات ذاكرة وشمتها التجربة الاستعمارية، أو إلى مجابهة الحاضر بوعي تهدده الهيمنة الامبريالية. وهذا يفسر سبب التقاء الكتاب العرب الأوائل كعبدالله النديم ومحمد المويلحي، مع المعاصرين كإميل حبيبي وجمال الغيطاني، في اعتبار اللغة العنصر المكِّون والملاذ الأخير لوعي الذات وصيانة الهوية ص89. ولتوضيح معالم تمايز الرواية التاريخي والمعرفي، يعمد دراج إلى تأشير مواطن القصور في نظريات المفكرين الخمسة الذين حاورهم في القسم الأول من كتابه. فنقرأ، مثلا، أن نظرية لوكاتش، على رغم ما أتاحته من تحليل خصب للظاهرة الروائية الأوربية، وقفت دون سبر خصوصية الرواية غير الأوروبية... وأن مقولات لوسيان غولدمان التي قرنت البنية الروائية بالبنية الاقتصادية للرأسمالية، عجزت عن فهم رواية الأطراف التي تجد مرجعها في "البنية الفوقية، المحددة بأيديولوجيا السلطة السياسية والأيديولوجيات..." ص58. أما تصوّرات رينيه جيرار عن الرغبة المحاكية والدوافع المتنازعة للشخصيات فلم تأخذ في الاعتبار الخلفية التاريخية لفكرة الرواية، ولا دور تقنيات الكتابة في إنتاجها. وأخيراً، فإن منهج التحليل النفسي الفرويدي يجرّد الغريزة واللاوعي من علاقات السيطرة الاجتماعية والهيمنة الفكرية، فيدمج النصوص والشخصيات والثقافات في أصل بيولوجي ميتافيزيقي ذي عقدة جوهرية واحدة. مساجلة طرابيشي وهكذا ينتقل درّاج إلى تقييم محاولة جورج طرابيشي التي ضمها كتابه النقدي "شرق وغرب"، المخصص لقراءة نماذج من الرواية العربية بمنهج التحليل النفسي. لقد فسّر طرابيشي العلاقة الحضارية مع الغرب وفق ثنائية الأنوثة - الذكورة، لكنه انطلق، كما يلاحظ دراج، من مسلمات أحادية الجانب أغفلت الأبعاد الموضوعية للعلاقة بين الغرب والشرق، فعجزت عن تقدير أسباب توهّم الرجل الشرقي أن انتصاره الجنسي يعادل انتصاره الحضاري. أما بالنسبة إلى النصوص الروائية التي أفلح طرابيشي في إضاءة بعض إشكالياتها، من دون أن يقترب منها كمحلل وكمحاور، فقد أُختزل نسيجها بأدوات تحليل جاهزة، وصودرت دلالتها بأحكام قيمة مسبقة. ويرى المؤلّف إن انهماك طرابيشي بتتبع تجليات الرغبة في تحققاتها الفعلية أو في تعويضاتها الممكنة، قاده إلى طرح مقاربة برانية وتعميمية، جاءت على حساب بنية النص ومحموله الدلالي. وفي حالتها الكلاسيكية، التي يمثلها العالم الأوروبي الحديث، ظهرت الرواية وازدهرت، كما يشخّص الكتاب، بفضل توافر شرطين، هما: تبلور ذات فردية حرة ومستقلة، ونشوء مجتمع تسوده علاقات مساواتية كبديل للعلاقات التراتبية للعصور الوسطى. فكانت الرواية لغة زمن دنيوي، تعددي الأصوات، منفتح الآفاق، مأخوذ بفضول ارتياد المجهول، ونابذ للكليات المغلقة واليقينات المطلقة. أما في حالتها العربية، فقد ولدت الرواية مكبلة بشرط ناقص أو عقيم ثقافياً واجتماعياً، وواكبت حداثة مبتورة ومشوهة، لتغدو في زمننا المعاصر "راسباً تراجيدياً من رواسب الزمن التنويري"، على حد قول درّاج. إن للرواية عندنا، برأيه، تاريخاً خاصاً "شكّلها في حقل مغلق، وطورها في حقل يبدو قد كسر انغلاقه، ثم ردها من جديد إلى حقل مغلق، لا تأتلف معه" ص163. لكنها، على رغم لحظتها غير المواتية نظرياً، راحت تشق طريقها لتراكم تجارب أثيرة وتؤسس تقاليد متواترة، مسخِّرة فضاءها التخيلي المرن، وخطابها المناور، لارتياد مناطق غير مصرح بها. إن الشرط الناقص للرواية العربية هو مصدر ضعفها وقوتها في آن واحد. ضمن هذا الإطار يؤشَّر كتاب "عيسى بن هشام" 1907 لمحمد المويلحي، بداية البحث عن نوع كتابي يخالف الأصول الحكائية والتقاليد البلاغية لفن المقامة، من دون أن تنطبق عليه معايير الرواية. إنه نوع انتقالي افتقد الشكل المناسب، على رغم امتلاكه رؤية حداثية أتاحت له تحسَّس تغيّر الأحوال الاجتماعية لمصر نهاية القرن التاسع عشر، وتأمّل مغزى التاريخ الكامن في صيرورة من التحول والتناقض والمغايرة. وبعد تجربة المويلحي، لم يتأخر أوان لحظة الكتابة الجديدة، إذ سرعان ما أُعلنت ولادتها على يد محمد حسين هيكل مؤلف "زينب" المنشورة في العقد الثاني من القرن العشرين. لقد اكتشف هيكل الرواية أثناء إقامته في باريس التي قصدها للدراسة، فتأثر بالتقدم الحضاري للغرب، وافتتن بقيمه المدنية التحررية. وغدت الرواية عند هيكل والمويلحي سجل زمن اجتماعي مختلف، ورافعة وعي إصلاحي ومشروعاً تنويرياً. غير أن مبررات فيصل دراج المعلنة للتوقف عند الدلالة الفنية والتاريخية لأعمال هذين الرائدين، تبدو أكثر إقناعا من مبرراته الضمنية للحديث عن روائيين متأخرين كأميل حبيبي وجمال الغيطاني وأدوار الخراط وصنع الله إبراهيم. والأمر هنا لا يتعلق بمكانة هذه الأسماء المهمة، وإنما بمدى تمثيلها لخريطة الرواية العربية المعاصرة التي يتوخى الناقد الإحاطة بشرطها الفعلي ومساراتها المتنوعة المشارب والآفاق. على أي حال، لم يكن اختيار الناقد للروائيين الأربعة اعتباطياً، فهم جميعاً طرقوا منحى تجريبياً أكيداً، ولا زالوا ، باستثناء حبيبي الذي وافاه الأجل، يتصدرون تجربة الكتابة الروائية لمرحلة ما بعد نجيب محفوظ. وإذ تتباين مجالات بحثهم الفني ومصادر وعيهم الجمالي والاجتماعي، تتفاوت، أيضاً، حظوظهم من النجاح. فأعمال أدوار الخراط التي تتجاوز امتلاك اللغة إلى الانبهار بها بوصفها الشرط الكافي والملاذ الوحيد للكتابة، لم تنتج - في نظر دراج - إلا نصاً منغلقاً على ذاته لا يشبه الرواية من حيث هي وسيط حواري يحفل بتعددية المنظورات، ونسبية التجارب، وملموسية الحالات. فلغته المنفلتة في مدارات صوفية، ترى إلى العالم الفعلي من زاوية حاضر مطلق مقطوع الصلة بالتاريخ الحي. ويستنتج درّاج إن تجربة الخراط بقدر ما نأت بنفسها عن عالم الرواية الرحب، اشتط بها نزوعها الشكلاني إلى موقع نقيض للرواية كفكرة وكتقنيات. ثم ينتقل درّاج إلى أميل حبيبي مشيراً إلى أن أصالته تكمن "في المنهج الذي أخذ به، لا في ما أوصله المنهج إليه". فباستثناء رواية "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل"، لا تكتسب نصوصه الأخرى صفة الرواية، إلا من باب المجاز، وبحكم "مرونة الجنس الروائي الذي يضيق بالصيغ النهائية". فحبيبي في محاكاته للنصوص التراثية، "يقارب الحكاية بمنظور روائي... ويصادر الرواية بمنظور حكائي". وفي المقابل، لا يخفي الناقد الفلسطيني انجذابه إلى كتابات جمال الغيطاني وصنع الله إبراهيم التي يجد فيها تعبيراً خالصاً عن روح الرواية وحقيقتها. فيشخص في تجربة الغيطاني توفرها على حسّ تاريخي حاد، ووعي مسكون بأسئلة الهوية والثقافة، ومنظور حواري لعلاقة الحاضر بالماضي. ويعزو إلى صاحب "الزيني بركات" قدرته على تحويل الوثيقة التاريخية إلى وثيقة متخيلة. أما صنع الله إبراهيم، فيصفه درّاج بمؤرخ الحياة اليومية الذي يتابع تفاصيل مجتمع استهلاكي متشيء، شوهته الحداثة الوافدة وشوهها. فصاحب "تلك الرائحة"، ينسج عالمه الروائي من مقولات مثل: الإنسان- القناع، اليومي- التاريخي، السخرية السوداء واللغة التقريرية ص287 ، ويكسوه بمعطيات من علوم السياسة والاجتماع والاقتصاد، ويصوغه بأسلوب يحاكي لغة الصحافة، تارة، ولغة البحث، تارة أخرى. أما موضوعه فهو المدينة بوصفها مجازاً للتاريخ، ومسرحاً لاغتراب دائم لإنسانها الشاخص كشبح خاو في فضائها، والمعوّم كصدى خافت لإيقاعها الموحش. ولا تستمد روايات مثل "نجمة أغسطس"، و"اللجنة" قوتها من موضوعها أو من فكرتها، بل من معمارها الفني الذي يعكس رؤية حداثية تحثّ الكاتب على المفاضلة بين كيفيات التعبير، وعلى تجريب الممكنات اللامحدودة للشكل. إن كتاب "نظرية الرواية والرواية العربية" كان يستحق تصديره بمقدمة تشرح مقاصد مؤلفه، وتتبسط في عرض أسباب اختيار المفكرين الخمسة في القسم الأول منه، والروائيين الستة في قسمه الثاني، وأوجه العلاقة بين النظرية والتطبيق، ومعالم المنهج المتبع لدرس الرواية عموماً، والرواية العربية، على وجه التحديد. ومقدمة من هذا النمط ليست، برأينا، فرضاً أكاديمياً زائداً، لا سيّما أن ما ورد في المقدمة المقتضبة، تحت عنوان "بمثابة تقديم"، لا يأخذ بيد القاريء المتخصص أو غير المتخصص، نحو استشفاف مفاصل ومرتكزات عمل زاد على الثلاثمئة صفحة. وإذا عرفنا أن فيصل درّاج ناقد متمرس في مجاله، وافترضنا أن وراء عمله هذا مشروعاً يتعدى تجميع مقالات متفرقة إلى تقديم كتاب يضم بين دفتيه فكرة أو أفكاراً أساسية عن مفهوم الكتابة الروائية وتحققاتها، يغدو غياب المقدمة نقصا ينبغي التنويه إليه. لكن درّاج لا يترك قارئة تائهاً بين سطور دراساته المكتوبة بلغة توخت الكثافة والدقة، من دون أن تتفادى التكرار وإغراء البلاغة والتكلّف أحياناً. فعلى رغم المنطق التركيبي لأسلوبه الذي يتلازم فيه التشخيص بالتعميم، والملاحظة بالحكم، والتأمل بالسجال، يبقى قصده مفهوماً وحجته بينة، لمن لا يخذله الصبر على متابعة أفكاره المتدفقة بلا حدود. كأن تلك الأفكار المجتمعة والمنثورة في كل صفحة من صفحات الكتاب، أشبه بتنويعات تثري النص المقروء وتستعرض براعة القراءة