بعد شيوع مفهوم التناص في النقد الأدبي الحديث، أضحت الرواية العربية متناً مناسباً لفحصه ودراسته، إذ تم إنجاز عدد من الدراسات النقدية التي ركزت على ذلك المتن للبحث في العلاقات التناصية بين الرواية المعاصرة والتراث العربي القديم، ولذلك سنحاول هنا مراجعة تلك الأعمال النقدية، والكشف عن إيجابياتها وسلبياتها، ويمكن تقسيم تلك الدراسات النقدية التي اهتمت بالمنجز الروائي في ضوء التناص إلى أربعة أقسام: الدراسات التطبيقية التي فحصت أكثر من رواية عربية، لكنها اقتصرت على التناص وعلاقاته، ومن أمثلة ذلك كتاب "الرواية والتراث السردي من أجل وعي جديد بالتراث" لسعيد يقطين، وكتاب "تداخل النصوص في الرواية العربية بحث في نماذج مختارة" لحسن حماد، وكتاب "توظيف التراث في الرواية العربية المعاصرة" لمحمد رياض وتار، وفي اللغة الإنجليزية هناك دراسات عدة مثل: "الكتاب العرب المعاصرون والتراث الأدبي" لعيسى بلاطة، ولسيزا قاسم "في تتبع أشكال السرد: المفارقة في أربعة أعمال روائية مصرية"، وبحث لنضال موسى "طبيعة توظيف العجائبي في عالم نجيب محفوظ الروائي"، وبحث لآنا سيسونا " إعادة كتابة ألف ليلة وليلة في أعمال إيميل حبيبي". أما الدراسات التي اقتصرت على دراسة عمل روائي واحد من منظور تناصي، فهي كثيرة، ومنها كتاب "شعرية النص السردي قراءة تناصية في كتاب التجليات" لبشير القمري، وبحث أحمد الزعبي "التناص التاريخي والديني: مقدمة نظرية ودراسة تطبيقية في رواية رؤيا لها لهاشم غرايبه"، وبحث غسان عبدالخالق "نجيب محفوظ واستدخال النص التراثي: ليالي ألف ليلة نموذجاً". وهناك دراسات تناولت أعمالاً روائية عدة موظفة بعض المداخل النقدية الحديثة، وكان التناص أحدها، وفي الإنجليزية هناك كتاب "رواية ما بعد الاستعمار العربية" لمحسن جاسم الموسوي، وكتاب ستيفن ماير الذي بعنوان "الرواية التجريبية العربية"، وأخيراً هناك النقد التطبيقي الذي تضمن رؤى نقدية حول التناص وغيره من المصطلحات، ومن أمثلة ذلك: كتاب روجر ألن عن الرواية العربية بالإنجليزية الموسوم " الرواية العربية: مدخل تاريخي ونقدي"، وكتاب صبري حافظ "أصول الخطاب السردي العربي: دراسة في سوسيولوجيا الأدب العربي، وبحث لساسون سوميخ "أصداء الإنجيل في الأدب العربي المعاصر". أولاً: الدراسات النقدية الفاحصة لأكثر من رواية عبر التناص، إذ نشرت دراسات عربية عدة في هذا الإطار، وحرصت هذه الدراسات على اختيار نماذج من الرواية العربية، وأن يتم نقد تلك الأعمال المختارة من خلال استثمار التناص بوصفه أداة نقدية، فقد كان من هذه الدراسات ما أنجزه الباحث المغربي سعيد يقطين في كتابه الموسوم "الرواية والتراث السردي: من أجل وعي جديد بالتراث"، ويتضمن كتاب يقطين مناقشات عدة حول التناص، إذ قام فيه بدراسة الأعمال الروائية التالية: "الزيني بركات" لجمال الغيطاني، "ليالي ألف ليلة" لنجيب محفوظ، و"نوار اللوز" لواسيني الأعرج، و"ليون الأفريقي" لأمين معلوف، معتمداً على جهود جيرار جينيت الذي أورد فيه مصطلحات عدة، وفصل القول في موضوع التناص، وذلك لاستكناه العلاقات التناصية بين تلك الأعمال والنصوص الكلاسيكية. وقد خصص الباحث ثلاثة فصول تميل إلى الدقة المنهجية، لكنها تنحو إلى التطبيق بالصورة الحرفية المباشرة، والمدرسية غير المبررة، التي ربما احتاجت إلى جانب إبداعي أثناء التعامل مع النصوص المدروسة. وقد قدمت دراسته بعض النصوص الكلاسيكية التي اعتمدت عليها تلك الروايات المختارة ومن تلك النصوص: كتاب "بدائع الزهور في وقائع الدهور" لابن إياس، و"تغريبة بني هلال"، وقد تمكن يقطين من تقديم تلك المصطلحات التناصية إلى قرائه بوضوح، وكانت مقاربته واضحة ومتماسكة وربما عاد ذلك التماسك إلى كونه قد درس عدداً قليلاً من الأعمال الروائية مستثمراًً مصطلحات جينيت النظرية في تطبيقه الذي يتبدى مبسطاً، ما أسهم في رواج الكتاب بوصفه كتاباً جامعياً. أما عيسى بلاطة فقدم دراسة مقارنة بين الشعراء والكتاب المعاصرين العرب اعتماداً على خلفيتهم التراثية، فهو يرى أن كل الشعراء والكتاب المعاصرين: من كان منهم تقليدياً أو ليبرالياً يقومون دائماً بانتاج إبداعهم الأدبي انطلاقاً من تراثهم، وللوصول إلى هذه الرؤية قام بلاطة بمراجعة عدد من الأعمال الإبداعية، مثل "الزيني بركات" للغيطاني، و"السد" لمحمود المسعدي، مقارنة ببدر شاكر السياب، وأدونيس. وتتجلى قيمة هذه الدراسة في كونها تراجع كيفية توظيف التراث الأدبي في نصوص هؤلاء المبدعين، ويرى الباحث أن قيمة استمرار ذلك التوظيف وأهميته تنبع من كون النصوص الجديدة تقوم بحفظ التراث القديم وصونه في بنياته الجديدة المعاصرة، ويرى بلاطة أن استمرار توظيف التقليد، يمكن أن يبقي هذا النوع من الأداء، إلى جانب محافظته على العلاقة بين السمات التقليدية في الأدب، ويتم ذلك من خلال استنساخ تلك الهياكل مماثلة في السرد أو الشعر الحديث. وعلى الرغم من أهمية هذا البحث القصير ودقته إلا أنه يؤخذ عليه كونه لا يعطي قدراً متساوياً في كل عمل إبداعي، إذ يصعب على الباحث أن يفحص كل هذه الأعمال الأدبية من أنواع مختلفة ، مثل الرواية والشعر في بضع صفحات. ومن الدراسات المشابهة ما قامت به الباحثة المصرية سيزا قاسم دراز في بحثها الذي راجع عدداً من الروايات المصرية من عام 1967-1979م، إذ ركزت في دراستها على توظيف عدد من الروائيين للمفارقة في أعمالهم، وتعرف قاسم المفارقة بكونها الاتجاه نحو التراث من خلال استراتيجية الإحباط وخيبة الأمل من جانب، وتوظيفها بوصفها آلة تفكيك نصي عبر السخرية التي تمهد طريقا عريضاً إلى القلق والتأثر العميقين، وذلك في ضوء مفهوم (العنصر المهيمن) الذي قصدت به كما أوردت في بحثها التركيز على ذلك العنصر المهيمن في العمل الفني الذي يتحكم ويحدد ويحول، وذلك لكونه الضمان لبنية العمل، ولتطبيق ذلك اختارت قاسم أربعة أعمال سردية: "الزيني بركات" رواية للغيطاني، و"حكايات للأمير حتى ينام" مجموعة قصصية ليحيى الطاهر عبدالله، و"الهؤلاء" رواية لمجيد طوبيا، ورواية "اللجنة" لصنع الله إبراهيم، وعلى الرغم من كون هذه الدراسة قد تناولت البنى السردية والسياقات الاجتماعية لهذه الأعمال المختارة، إلا أن الإصرار على توظيف عدد من المصطلحات النقدية قد جعل من الصعب الإلمام بهذه الأعمال والمفاهيم في بحث قصير، إلى جانب كون تلك الأعمال غير متوافقة، فالمتن المدروس من أشكال سردية منوعة تراوح بين القصة القصيرة والرواية، والأعمال مستقاة من مشارب متعددة، إذ ينتمي عمل الغيطاني إلى الرواية التاريخية، وينتمي عمل طوبيا إلى العجائبي (الفانتازيا). وفي بحث آخر يبدو أكثر تماسكاً قدم نضال الموسى قراءة لعملين روائيين لنجيب محفوظ "ليالي ألف ليلة" و"ملحمة الحرافيش" من خلال التركيز على شخصيتي (البلطي) في الأول و(عاشور) في الثاني، محاولاً أن يحلل العلاقة بين هاتين الشخصيتين والتراث الصوفي، إذ يرى الباحث أن استحضار نموذج (الخضر) هو توظيف له بوصفه نموذجاً تقليدياً للشخصية الرئيسة في الرواية (عاشور)، لقد أكد الباحث في نهاية بحثه على تحديد سبب هذا التوظيف فأشار في خاتمة بحثه إلى سبب توظيف محفوظ لهذه العوالم، إذ رآه عائداً إلى أن محفوظ أراد بذلك أن يكشف عن حالة الفرد والمجتمع المعاصرة، وأكد الباحث في دراسته على اعتماد عملي محفوظ السابقين على بعدين هما: كتاب "ألف ليلة وليلة"، والخطاب الصوفي. ويؤخذ على هذا العمل عدم إشارته إلى بعض الثيمات العجائبية الواردة في عالم محفوظ الروائي، وذلك مثل السفر والتنقل إلى عوالم متخيلة. قدم الباحث المصري حسن حماد كتاباً في هذا الموضوع بعنوان "تداخل النصوص في الرواية العربية بحث في نماذج مختارة"، وقد درس فيه ثلاثة أعمال روائية مصرية: "حديث عيسى بن هشام" لمحمد المويلحي، و"أحلام شهرزاد" لطه حسين، و"ذات" لصنع الله إبراهيم، واستهل بحثه بمدخل نظري نقدي معتمداً على الترجمات المتوفرة لأعمال كريستيفا وبارت وجينيت ودريدا، وركز قراءته النقدية على المويلحي من خلال مراجعة العوامل المؤثرة في ثقافته ومن ثم المنتجة نصه، وهو يرى ثقافة المويلحي معتمدة على عاملين اثنين: عربي وأجنبي، ويدرج في العامل العربي صداقات المويلحي لعدد من المفكرين المصريين مثل محمود سامي البارودي وأحمد فارس الشدياق، أما العنصر الأجنبي فهو اتصاله بالثقافة الأوروبية وغيرها وقراءته المنجز القصصي للأمم التي زارها أثناء رحلاته الخارجية التي ضمت فرنسا وإيطاليا وتركيا. راجع حماد النصوص الموازية في "حديث عيسى بن هشام"، مركزاً على العنوان الأصيل والمتغير، ويراه نوعاً من التوتر الداخلي وانعكاساً لتأثير عصره في هيمنة العنونة، ثم انتقل إلى نصوص موازية أخرى كالإهداء إلى أبيه إبراهيم المويلحي وجمال الدين الأفغاني، وكأنه أراد نفي تهمة كانت رائجة عن سوء الرواية، وقد رآه رغبة في تحديد الشكل الأدبي لهذا العمل. وفي قراءته لأحلام شهرزاد يشير حماد إلى أن طه حسين كتب هذا العمل أثناء فترة انتمائه إلى حزب الوفد، ولذلك كان تحت تأثير الحزب السياسي أثناء كتابته الرواية التي ولدت تحت ظل كتاب "ألف ليلة وليلة" الذي ولد هذا التأثير في عنوان الرواية وشخصيتها الرئيسة، يوظف الكاتب نظرية قلق التأثير لهارولد بلوم، وتظهر هذه الدراسة رد فعل الشاعر تجاه سلفه، بعده الابن ضد الأب في أدبيات التحليل النفسي الكلاسيكي، يحلل حماد رواية "ذات" في الجزء الأخير من بحثه ، ويصل العمل باتجاهات صنع الله إبراهيم السياسية، ولذللك يخضع درسه للسياقات المحيطة بالعمل، ولكنه لا يتناول الجانب النصي، إذا استثنينا تناولاته للنصوص الموازية للأعمال المدروسة، فهو يشير مثلاً إلى ان المؤلف حين اختار (ذات) عنواناً للعمل مرافقاً لكلمة (رواية) على الغلاف فإنما هو يختار ذاته، إنه تعبير عن سيرته الذاتية التي يمكن أن تكون سيرة لكل مصري، وبذلك تكون رواية كتبت بقلم صنع الله أولاً ومن ثم كل المصريين، ومع محاولته العودة إلى أعمال إبراهيم الأخرى مثل "اللجنة" و"تلك الرائحة" اإلا أن السؤال الذي يبرز هنا ما مدى قدرة هذا النوع من التحليل على سبر أغوار النص وتحليله، لكن هذا لا يلغي قيمة هذه الدراسة بوصفها واحدة من الدراسات المهمة في هذا الجانب في الثقافة العربية. وفي دراسة تبدو أكثر نضجاً قدم محمد وتار كتابه "توظيف التراث في الرواية العربية المعاصرة" الذي يستهله بتحديد سبب تأليف كتابه فيحصرها في سببين هما: النجاح الكبير الذي حققته الرواية العربية في آخر ثلاثة عقود في القون الماضي، وانتشار ظاهرة توظيف التراث فيها، وقد خلا مدخل المؤلف الذي يمكن أن يتضمن الدراسات السابقة، من جهود الباحثين السابقين باستثناء كتابي يقطين وحماد المشار إليهما سابقاً، واعتمد في تقسيمه للكتاب على ما فعله السابقون في التراث القديم وتحديداً في الأنواع التراثية السابقة، مثل توظيف الحكاية الشعبية، والسيرة الشعبية، والتاريخ، والنص الديني، إلى جانب التراث الأدبي، ثم نراه يحدد أسباب توظيف النص الديني وأنواعه في الرواية المعاصرة بقوله: "ثمة أشكال كثيرة للتناص الديني كالاستبدال، أي تغيير كلمة بكلمة أخرى، والمحافظة على سياق النص الديني أو عدم المحافظة عليه ونقله إلى سياق آخر، والقلب أي تغيير النص الديني، والاستشهاد حيث تكون العلاقة بين النص الحاضر والنص الديني علاقة مشابهة... وظف بعض الروائيين بنية النص الديني، وأقاموا عليها معمار رواياتهم التي تشربت النص الديني على مستوى الأحداث، وعلى مستوى السرد، وعلى مستوى الشخصيات". ومع أن تقسيم الدراسة يبدو مقنعاً وفاعلاً إلا أن امتداد المتن المدروس قد قلص نسب التحليل العميق لها في دراسته، فقد أقحم عدداً كبيراً من الأعمال الروائية التي قاربت أربعين عملاً معظمها من سورية، أما المأخذ الثاني فهو عدم اعتماد المؤلف على مفاهيم معاصرة مع كونه أورد مسرداً بتلك المفاهيم في آخر كتابه، لكن الكتاب يظل مرجعاً ومدخلاً مناسباً لمن أراد الخوض هذا في المجال. أما آنا سيسونا فقد فحصت العلاقات التناصية التي تصل التراث الأدبي بثلاثة أعمال للروائي الفلسطيني إيميل حبيبي: "الوقائع الغريبة في حياة سعيد أبي النحس المتشائل" (1974)، و"لكع بن لكع" (1980)، قسمت سيسونا بحثها إلى جزأين: ركزت في الأول على (اللعب على التناقض) كما يظهر في العنوان الداخلي، والثاني بعنوان (الخيال الشرقي)، قامت الباحثة بتحليل تناصي للعلاقة بين أعمال حبيبي وقصة (مدينة النحاس) إحدى قصص كتاب "ألف ليلة وليلة"، ثم مع حكايات الزير سالم الشعبية، مع أن الأخيرة لم تظهر في كتاب ألف ليلة وليلة ولكنها تحدد حصان البحر بوصفه أحد ملامح التشابه بين حكايات الزير سالم والحصان الذي يتجلى في الرحلة الأولى من حكايات السندباد، وحددت أن توظيف قصص "ألف ليلة وليلة" في رويات حبيبي كان نوعاً من التأكيد على الهوية إذ تتشابه حالة الفلسطيني حالياً بحالة العربي سابقاً، ووجدت علاقة تشابه كبيرة بين مدينة النحاس وقرية المتشائل سعيد أبي النحس، حيث يشعر سعيد وهو يدخل قريته بمشاعر تشبه مشاعر الأمير موسى وهو يلج إلى مدينة النحاس، وكان من الممكن أن تكون هذه الدراسة أكثر تماسكاً لو ركزت الباحثة على إحدى روايات حبيبي، ولاسيما (المتشائل).