يبدو فيصل دراج في كتابه "نظرية الرواية والرواية العربية" المركز الثقافي العربي، 2000 منظِّراً بامتياز، أكثر منه ناقداً في المعنى الذي نعطيه اليوم للنقد الأدبي المرتكز الى تحليل نصوص معينة. من هنا يمركز استراتيجيته كلها حتى في معالجته بعض النصوص الروائية على استجلاء العلاقات النظرية التي تثيرها هذه النصوص، وهو ما يتسق مع اشكاليته الأساسية التي تنصب على العلاقة ما بين النظرية الروائية في شكلها الغربي وبين الرواية العربية. غير أننا نعرف قاعدة منهجية أساسية تتلخص في أنه من المستحيل وضع نظرية إلا على أساس دراسة نصوص معينة. وتحضر هذه القاعدة في عمل درَّاج في شكل البحث عن الرواية في الممارسة النظرية أي في نظرية الرواية التي هي جزء من نظرية الأدب العامة، والبحث عن النظرية في الممارسة الروائية، أي في النصوص الروائية العربية التي يختار دراج منها نصوصاً منمذجة تتصل بالمويلحي وهيكل وحبيبي والغيطاني والخراط وابراهيم. في بحثه عن النظرية في الممارسة الروائية يتوقف دراج في شكل معمق عند خمسة مواقف أو خمس نظريات أساسية هي نظرية لوكاتش في البطل الإشكالي والاغتراب والملحمية ونظرية غولدمان في البنيوية التكوينية التي تنطلق من إرث لوكاتش الشاب، ونظرية باختين في المبدأ الحواري، ومارتن روبير في الرواية الأسرية ورينيه جيرار في الرغبة المحاكية. ويلاحظ محقاً أن هذه النظريات باستثناء نظرية باختين لا تبني قولها على قراءة تبدأ بالنص الروائي وتنتهي به، بل تطبّق عليه قولاً نظرياً سابقاً، تقرأ فيه النظرية امكاناتها الذاتية. ويعني ذلك أن هذه النظريات كما يسمح لنا دراج نفسه بالاستخلاص، تنتمي الى حقل فلسفة الرواية وفلسفتها الجمالية خصوصاً، ويقع بعضها في اطار سوسيولوجيا الرواية. ان المنهج النظري الروائي هنا هو في درجة أساسية منهج فكري أو فلسفي أحياناً. وما هو مثير في تحليل درّاج لهذه النظريات أنه ينزع عنها بعدها الكوني، ويحدّد مركزيتها الأوروبية التي لا تسمح إلا على نطاقات محدودة أو ثانوية بإضاءة تكوّن الرواية العربية وتطورها. يتوقف دراج على وجه التحديد ليطلق رؤيته في اشتقاق نظرية الرواية العربية من نصوصها، فولادة هذه الرواية لم ترتبط لديه بطبقة محددة بل بجملة قيم حداثية حملها المثقفون، وحاولوا أن يجدوا في الشكل الروائي اطاراً مرناً يلائم تطلعاتهم وأفكارهم. وليست هذه القيم عند دراج إلا قيم الحداثة الاجتماعية. فالعلاقة ما بين الرواية والحداثة هي علاقة محايثة أو معارضة في شكل تتضمن فيه كل واحدة الأخرى، وتحيل عليها. غير أن دراج ينشغل هنا فعلياً في درجة من درجات سوسيولوجيا النوع الروائي بوصفه نوعاً دنيوياً خالصاً، يمثل طريقة المجتمع الذاتي المرجع في الحوار ما بين أفراده. ان التحرر من المراجع الميتافيزيقية يجعل الإنسان في مواجهة مباشرة مع عالمٍ تم نزع السحر والقدسية عنه. وهذا هو الأساس السوسيولوجي للنوع الروائي بوصفه يقوم على انحلال الأشكال السردية ما قبل الروائية. تحتاج هذه الرؤية السوسيولوجية الى وقفة معينة، إذ أن درَّاج الذي لا يخفي في كل ما يكتبه، احتفاءه بنظرية باختين، يقترب من تبني الرواية كنوع أدبي مفتوح في طور التكون وليس بوصفه نوعاً مكوَّناً. وفي هذا النوع كما يدلنا باختين تستعاد الأشكال السردية السابقة القروسطية ما قبل الروائية، ويحضر القاع الاجتماعي السفلي في تعددية لغاته ولهجاته وفئائه وطقوسه واحتفالاته ونكاته في الكلمة الروائية التي تتميز أسلوبيتها وفق باختين في أنها أسلوبية "الكلمة الحية". لعل اتجاهاً متواتراً في الممارسة الروائية في العالم الذي يسميه دراج بعالم الأطراف مستوحياً بذلك نظرية التبعية، يقدم مؤشرات دالة على أن طريق تطور النوع الروائي يسير نحو أشكال وطرق تختلف عن الشكل الروائي الغربي، بل ان بعض الممارسات الروائية العربية تشير الى أنها تقع في اطار انحلال الشكل الروائي كما أنتجه الغرب. وهو ما يعزز طبيعة الرواية كنوع مفتوح يتوسط في اطار "الكلمة الحية" ما بين المعارف التي تحتضن علم الأخلاق والجمال والميتافيزيقا والتاريخ والملحمة المعاصرة. لعل رهان دراج الذي يناقش هذه التعقدات كلها في بؤرة مكثفة واحدة، ينصبّ على اشتقاق نظرية النص الروائي العربي منه. وهذا الاشتقاق هو افتراض نظري. إلا أنه بالنسبة لدراج لا يمكن أن يتم إلا بمعزل عن النظريات الأوروبية "الجاهزة" التي تحكمت موسمية "المثاقفة" واحتكاك النخب بها لأسباب ودوافع متعددة، بطريقة تقديمها كنظريات "تامة". لا ينفي ذلك بالطبع ان هذه النظريات يمكن أن تضيء النصوص الروائية العربية، إلا أن هذه الإضاءة محدودة، وستكون دوماً عبر اعادة تأويل هذه النظريات وتفسيرها واضافة عناصر وأفكار أخرى لها، بحكم أن دراج ينطلق من أن نشوء الرواية العربية وتطورها يختلفان عن نشوء الرواية الأوروبية وتطوّرها. لكن نظرية الرواية العربية مثل أي نظرية في الرواية، لا يمكن أن تنشأ إلا في جوٍ ثقافي يتميز بنهج المعارف وتبادل الوظائف في ما بينها. إذ أن نظرية الرواية فعل يستجلب اليه بالضرورة جملة مقاربات منهجية ونظرية جمالية وفلسفية وسوسيولوجية ولغوية متعددة ومركبة. غير أن دراج يواصل من طرفٍ آخر فعلياً التقليد الغربي لنظرية الرواية الغربية أي التقليد النصي لكن مع كل التأكيد على هجنة النص الروائي وطبيعته المفتوحة. وهو هنا يبني هذا النسق على أساس اشتقاق ما يعادله من الرواية العربية نفسها، أي من هنا يتجنب دراج الممارسة العلموية الضيقة في الاقتراب النقدي من النصوص، ولا يكترث علمياً بالتطور العلموي لنظرية "الشعرية" الحديثة التي ليست إلا النظرية العامة للأدب. وهي اليوم موضع مساءلة وشك وتجاوز حتى عند بعض ممثليها. ان تأمل الشرط التاريخي للرواية العربية يحضر هنا في كل عمل دراج الذي يدور ما بين الشكل النظري للرواية والشكل النصي للنظرية كما يبدو في الرواية العربية. وبالنسبة لدراج فإن ذلك الشرط أعطى رواية عربية، إلا أنه لم يعط العلاقات النظرية المرتبطة بها. كأن ما يريد قوله هو أن صياغة هذه العلاقات النظرية متوقفة على الحداثة الاجتماعية بمعناها الشامل، أو ما نختصره اليوم تحت اسم المجتمع المدني المتحرر وفق فرضيات المفهوم من المراجع الميتافزيقية. هل يدل فقدان نظرية للرواية العربية على فقدان تلك الحداثة الاجتماعية التي يشكل المجتمع المدني أرضها الملموسة اجتماعياً؟ وهل يعني ذلك أن الرواية العربية نفسها تعويض عن غياب ذلك المجتمع؟ ومثل كل بحثٍ جسور وقلق ورائد، لا يمتثل دراج للقراءات والنظريات الجاهزة بل يخضعها للمراجعة واعادة النظر. ويبدو في ذلك وكأنه يسلِّم بأن أسئلة الرواية العربية تظل هي أسئلة المجتمع الذي ينتجها ويقمعها في آن. ويعني ذلك أننا لسنا أمام أجوبة بل أمام حزمة جديدة من الأسئلة تليق بالمجتمع المتسائل الطليق.