اللجنة المشتركة تشيد بتقدم «فيلا الحجر» والشراكة مع جامعة «بانتيون سوربون»    شمال غزة يستقبل القوافل الإغاثية السعودية    نفاد تذاكر مواجهة إندونيسيا والسعودية    منتخب هولندا يهزم المجر برباعية ويلحق بالمتأهلين لدور الثمانية في دوري أمم أوروبا    اليوم بدء الفصل الدراسي الثاني.. على الطريق 3 إجازات    20,124 مخالفاً في 7 أيام وإحالة 13,354 إلى بعثاتهم الدبلوماسية    «إعلان جدة» لمقاومة الميكروبات: ترجمة الإرادة الدولية إلى خطوات قابلة للتنفيذ    5 فوائد صحية للزنجبيل    اختلاف التقييم في الأنظمة التعليمية    مهرجان الزهور أيقونة الجمال والبيئة في قلب القصيم    المتشدقون المتفيهقون    الإستشراق والنص الشرعي    بيني وبين زوجي قاب قوسين أو أدنى    أهم باب للسعادة والتوفيق    الفرصة المؤكدة و مغامرة الريادة في كفتي ميزان    أغرب القوانين اليابانية    «مزحة برزحة».. هل تورط ترمب ب«إيلون ماسك» ؟    أكثر من 92 ألف طالب وطالبة في مدارس تعليم محايل    سعرها 48 مليون دولار.. امرأة تزين صدرها ب500 ماسة    «مَلَكية العلا»: منع المناورات والقيادة غير المنتظمة في الغطاء النباتي    منتخبنا فوق الجميع    في دوري الأمم الأوروبية.. قمة تجمع إيطاليا وفرنسا.. وإنجلترا تسعى لنقاط إيرلندا    شارك في الطاولة المستديرة بباكو..الجاسر: 16 مليار دولار تمويلات البنك الإسلامي للمناخ والأمن الغذائي    البيان المشترك الصادر عن الاجتماع الثاني للجنة الوزارية السعودية- الفرنسية بشأن العُلا    وزير الدفاع ونظيره البريطاني يستعرضان الشراكة الإستراتيجية    14% نموا في أعداد الحاويات الصادرة بالموانئ    أمن واستقرار المنطقة مرهون بإقامة دولة فلسطينية مستقلة    محافظ محايل يتفقد المستشفى العام بالمحافظة    ضبط أكثر من 20 ألف مخالف لأنظمة الإقامة والعمل وأمن الحدود خلال أسبوع    اكتشاف تاريخ البراكين على القمر    «واتساب»يتيح حفظ مسودات الرسائل    إطلاق النسخة الرابعة من «تحدي الإلقاء للأطفال»    السخرية    المؤتمر العالمي الثالث للموهبة.. عقول مبدعة بلا حدود    عروض ترفيهية    المملكة تستعرض إنجازاتها لاستدامة وكفاءة الطاقة    أشبال الأخضر يجتازون الكويت في البطولة العربية الثانية    ضمن منافسات الجولة ال11.. طرح تذاكر مباراة النصر والقادسية "دورياً"    الابتسام يتغلّب على النصر ويتصدّر دوري ممتاز الطائرة    دخول مكة المكرمة محطة الوحدة الكبرى    رحلة قراءة خاصة براعي غنم 2/2    الحكمة السعودية الصينية تحول الصراع إلى سلام    وطنٌ ينهمر فينا    المرتزق ليس له محل من الإعراب    ابنتي التي غيّبها الموت..    حكم بسجن فتوح لاعب الزمالك عاما واحدا في قضية القتل الخطأ    «الجودة» في عصر التقنيات المتقدمة !    ألوان الأرصفة ودلالاتها    وزير الرياضة يشهد ختام منافسات الجولة النهائية للجياد العربية    خطيب المسجد الحرام: احذروا أن تقع ألسنتكم في القيل والقال    أمير تبوك يطمئن على صحة الضيوفي    ختام مسابقة القرآن والسنة في غانا    المؤتمر الوزاري لمقاومة مضادات الميكروبات يتعهد بتحقيق أهدافه    الزفير يكشف سرطان الرئة    أمير الباحة يكلف " العضيلة" محافظاً لمحافظة الحجرة    تركيا.. طبيب «مزيف» يحول سيارة متنقلة ل«بوتوكس وفيلر» !    مركز عتود في الدرب يستعد لاستقبال زوار موسم جازان الشتوي    عبدالله بن بندر يبحث الاهتمامات المشتركة مع وزير الدفاع البريطاني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرئيس اللبناني السابق فتح دفاتر ذكرياته ل"الوسط" . شارل حلو : اتفاق القاهرة فرضه عبد الناصر والفلسطينيون باقون في لبنان ... للأسف 1
نشر في الحياة يوم 31 - 07 - 2000

لا تُكتب حروب السبعينات والثمانينات في لبنان، من دون قراءة مقدماتها في الستينات. فشرارة الصدام الفلسطيني - اللبناني في 23 نيسان ابريل 1969، صارت حريقاً كبيراً في 13 نيسان 1975. وازمة الحكم التي دامت سبعة شهور بين نيسان وخريف 1969، تعمّقت الى مأزق نظام ونهاية جمهورية سنة 1989، بعد تناسل الحروب سبعة عشر عاماً. اما العسكر الاسرائيلي الذي هبط من العتمة في مطار بيروت ذات مساء من كانون الاول ديسمبر 1968 وصل براً الى بيروت في حزيران يونيو 1982.
تأخرت الحرب ست سنوات. اوقف زمنها زمناً، رجل اشترى الوقت بابتكار التسوية المرّة بين مثال الفكرة وقساوة الواقع انه الرئيس شارل حلو.
جاء حلو الى السلطة من سلطان الكلمة، وعاد من قمة الرئاسة الى هدأة الكتب والثقافة. هو الرئيس الرابع للجمهورية اللبنانية المستقلة 1964 - 1970 والحاكم الطالع من افتتاحية الجريدة، ومن صفحات الفلسفة والشعر، والصورة الباقية من ذلك اللبنان الذي صنعت سياسته في الصالون لا في الشارع، وبشجاعة الرأي، لا بمغامرات الشجعان.
لكن قدر الرئيس الهادئ ان يبدأ معه الزمن الهادر، ذلك ان هزيمة 5 حزيران يونيو 1967 قلبت غار الانظمة العربية الى عار، وودع لبنان بعدها عهد الاستقرار.
كاد عهد شارل الحلو ان يضيع بين محاولتي خطف: الاولى خطف مفاتيح الحكم على يد بارونات الشهابية الذين أرادوه رئيساً بالوكالة عن فؤاد شهاب الذي لم يرد ان يبقى ويجب ان يعود وفق حسابات مؤيديه.
والمحاولة الثانية خطف الدولة والسيادة على يد ياسر عرفات وباقي المنظمات، بعدما انتقلت عدة الثورة الفلسطينية الى لبنان، فانقسمت حولها البنادق والبيارق، وولد اتفاق القاهرة شراً ضرورياً من رحم الانقسام الوطني والضغط العربي.
قاوم شارل حلو على طريقته.
كانت الكلمة للرصاص ولا رصاص عنده سوى الكلمة. ولم يكن حكمه حكم الاصدقاء ولا كان معارضوه حكماً اعداء واختار على الدوام دور حكم التسوية، لا حاكم المغامرة والانتحار، لذلك خرج من الرئاسة ومعه اكثرية الموالاة والمعارضة، مثلما دخل بشبه اجماع، وبعضهم قال من دون اعداء وايضاً من دون اتباع ومحازبين.
عايش القمم العربية وصادق الزعماء القمم: جمال عبدالناصر وشارل ديغول، الملك فيصل وبولس السادس، وليوبولد سينغور وكل الكبار. وعندما ودّع القصر في ايلول سبتمبر 1970 كان العالم العربي يودّع عصر عبدالناصر، وكان لبنان يجمع عدة الحرب. ولأن قصة الجنوب التي طوت فصلاً آخر في 25 ايار مايو 2000 كانت بدأت في عرض اول في آخر ولاية شارل حلو، جئنا الىه في دارته الهادئة في الكسليك، حيث يواكب الاحداث متابعاً، ومرات كاتباً ومعلّقاً في الصفحة الاولى في "النهار" و"الاوريان لوجور" تماماً مثلا بدأ صحافياً قبل ستين عاماً رئيساً لتحرير "لوجور" Le Jour.
قيل عنه، انه كثير الذكاء، كثير التردد وكثير التحليل، قليل الحسم. انها صفات المثقف الذي يؤثر ندرة القرارات الصائبة، على سرعة الحسم القاسي والظالم احياناً - ألم يعرف عن شارل حلو انه صاحب شعار الضرب بيد من قطن؟
شارل حلو، الرئيس، الوزير، النائب، السفير، الفرانكوفوني المميز، السياسي المثقف، يفتح ل"الوسط" مساحات من ذاكرته كواحد من الحكام الانسانيين، وآخر لبناني من جيل الحنين.
فخامة الرئيس، قبل ثلاثين سنة بدأت قصة الجنوب والمقاومة والاحتلال، ومن بوابة الجنوب دخلت الحرب الى كل لبنان. كيف ترى الوضع الآن بعد الانسحاب الاسرائيلي؟
- بقدر ما عذّبتني السنوات التي قضيتها بعد الرئاسة في نقد الذات، وشرح كل ما اضطررت على السير به كرئيس للجمهورية مؤتمن على القسم والدستور لتجنيب الجنوب المأساة، بقدر ما عزّاني وصول معظم الفرقاء الى القناعات التي كانت منطلق عملي ولو بتأخير ثلاثين سنة، مما يثبت ما كنت اؤمن به دوماً مع الاسف بأن اقناع البشر مستحيل قبل ان يقرروا هم الاقتناع وان بعد دفع الثمن باهظاً، وبأن الاوضاع التاريخية المعقدة لا تستدعي عند نضجها سوى جهد بسيط جداً لحلها او، لا سمح الله، لتفجيرها. نحن اليوم امام ثلاثة احتمالات: اما العودة الى اتفاقية الهدنة لسنة 1949 اي العودة عملياً الى ما قبل العام 1969 في انتظار الحل الشامل. واما العودة الى ما قبل 1978، اي ترك المناطق الحدودية للمقاومة، او العودة الى الفترة التي اعقبت 1978 و1982 اي استمرار المقاومة مع وجود قوات دولية معزولة وغير فعّالة وهذا امر مستبعد جداً في الظروف الدولية الراهنة.
ماذا تعني "بالعودة الى ما قبل 1969"؟
- يعني العودة الى حال الهدنة التي لم يلغها القرار 425 زائد القوات الدولية التي جاء بها القراران 425 و426. بمعنى آخر العودة الى ما كنت اتمسك به، خصوصاً بعد العام 1967، من اجل عدم تعريض لبنان للعدوان الاسرائيلي وتجنيبه الانضمام الى نادي مشوّهي الحروب العربية - الاسرائيلية. لكن النفوس الثائرة والرؤوس الحامية آنذاك كانت تتهم لبنان والنظام والحكام بالتخاذل والخيانة ولا تقبل الا استخدام لغة السلاح مع العدو على الحدود او تنقل المتاريس من الحدود الى الداخل. بمجرد ما كان يطرح موضوع القوات الدولية او ما كان يسمى بالبوليس الدولي، تقوم القيامة والاتهامات بأن النظام الرجعي يريد عزل لبنان عن ساحة المعركة وتحييده عن الصراع، واذا منع الجيش عملية فدائية انطلاقاً من الحدود من دون التنسيق مع السلطة قامت التظاهرات والهتافات المنددة بالحكم والدولة في شوارع المدن اللبنانية والعربية. الآن سقط كل هذا، وصار ياسر عرفات مكسر عصا للجميع بعدما كان المرشد والملهم والآمر الناهي. فهل كنا بحاجة الى كل هذه المآسي والكوارث لنعود الى اتفاق الهدنة؟ ومن دون اغفال حجم التعقيدات التي رافقت الحرب اللبنانية اتساءل، هل كان الهدف من الاساس تغيير اسلوب الصراع مع اسرائيل او تغيير لبنان تحت ستار الحرب ضد العدو؟
تتحدث وكأن اسرائيل لم تكن لها مطامع في لبنان، ولم تكن تريد العدوان؟
- ابداً، ليس هذا المقصود، فاسرائيل قامت اساساً على العدوان وهي اغتصبت فلسطين بكاملها. وقد تعلّمت من استاذي الروحي ومعلمي في السياسة ميشال شيحا الحذر من الخطر الصهيوني، لكن مهمة المسؤول منع الحجج عن العدو وعدم اعطائه الذرائع للعدوان. ما حصل، هو الآتي: المقاومة الفلسطينية بعد العام 1968 اتت باجتياح 1978 ثم باحتلال 1982، والاحتلال انتج المقاومة الوطنية والاسلامية، وبين هذه وتلك اندلعت حروب بالوكالة وبالأصالة لبنانية وعربية وحتى دولية.
الاتفاق ورقة
هناك من يحمّل "اتفاق القاهرة" الذي وُقّع في عهدك مسؤولية الحروب اللاحقة؟
- غالباً ما يميل الناس عند صعوبة ادراكهم المنطقي للاحداث، او عند مواجهة المصاعب والشرور، الى رمي المسؤولية على اي كان والهروب من التفكير خوفاً من مواجهة الحقائق المرّة. واتفاق القاهرة في الاساس، مجرد ورقة، لا قيمة قانونية لها، لم ترسل الى المجلس النيابي ولم يبرمها رئيس الجمهورية، ولم يطلع احد على نصها الرسمي لغاية الآن، على رغم انها نشرت في صحف وكتب ودراسات، وهي استهدفت اجراء ترتيب عسكري موقت بين الجيش ومنظمة لم تكن لها صفة شرعية او حائزة على اعتراف دولي. وقد عقدت في ظروف قاهرة، اذ كان البديل الاكيد عنها حرباً اهلية وقطيعة مع العالم العربي وهو ما يزيد الى عيوبها عيب القوة القاهرة، ولو سلّمنا جدلاً بأن للاتفاقية قوة قانونية، فان التركيز على مبدأ السيادة اللبنانية الوارد في البند 13 خصوصاً والذي ينص على انه من المسلّم به ان السلطات اللبنانية تستمر بالقيام بمهامها في جميع الظروف، يفرغ الاتفاقية من مضمونها الجوهري ويجعل تنفيذ بنودها خاضعاً لاستنساب السلطات اللبنانية. زد على ذلك ان مجلس الوزراء اتخذ في 12 حزيران يونيو 1970 بناء على اقتراح وزير الداخلية كمال جنبلاط قراراً عطّل فيه عملياً "اتفاق القاهرة" حيث اعلن منع اطلاق الصواريخ من الاراضي اللبنانية ومنع وضع عبوات ناسفة قرب الحدود وتكليف وزارة الدفاع الوطني ملاحقة كل من يخالف ذلك.
واذا سلّمنا جدلاً ان "اتفاق القاهرة" كان السبب، فلماذا اعتمده الرئيس سليمان فرنجية سنة 1973 بعد اشتباكات الجيش والفلسطينيين واضاف اليه "اتفاقية ملكارت"، ولماذا تمسكت به احزاب "الجبهة اللبنانية" المسيحية سنة 1975 و1976 ودخل بنداً في الوثيقة الدستورية في شباط فبراير 1976، وصار مطلباً لجبهة الاتحاد الوطني التي اعلنت في 11 تموز يوليو 1976 في منزل ريمون ادة لمعارضة الدخول السوري في حضور صائب سلام وحسين الحسيني وكمال جنبلاط ورشيد كرامي ومخايل الضاهر والبير منصور وغيرهم؟
واقع الامر ان الاتفاقية كانت ذريعة ونتيجة "لا سبباً" لان الفلسطينيين كانوا اخذوا على الارض سنة 1969 اكثر بكثير مما اعطاهم "اتفاق القاهرة" الذي سقط فور توقيعه، لأن الفلسطينيين تجاوزوه، خصوصاً بعد خروجهم من الاردن ومجيئهم بسلاحهم الى لبنان في ايلول سبتمبر 1970.
ما هي قصة "اتفاق القاهرة
- يا سيدي القصة طويلة. بعد هزيمة الجيوش العربية في 5 حزيران 1967، اصبحت المقاومة الفلسطينية امل الشعوب العربية في ازالة العدوان والتحرير، وانطلقت العمليات الفدائية من الاردن اولاً ثم من لبنان بعدما اصبح اللاجئون فيه فدائيين، او نتيجة تسلل فدائيين بتسهيل سوري عبر جبل الشيخ الى منطقة العرقوب. وتعاطف مع هؤلاء الفدائيين شبان لبنانيون من مختلف الطوائف خصوصاً المذاهب الاسلامية والاحزاب اليسارية التي راحت ترسل مقاتليها للتدريب في معسكرات خاصة في سورية والاردن. ولم تكن جنازة الفدائي اللبناني خليل الجمل التي سارت في شوارع بيروت في 28 نيسان ابريل 1968 سوى عرض للقوة الفلسطينية ومظهر من تلك المظاهر المؤيدة من دون حدود للمقاومة الفلسطينية.
في تلك الاثناء كنا نطبّق اتفاقية الهدنة التي اكدت عليها خلال الحرب سنة 1967 رداً على سؤال اسرائيل عبر رئيس فريق ضباط لجنة الهدنة، وكنا نطبّق ايضاً قرارات القيادة العربية الموحدة التي كانت تمنع عمل مجموعات مسلحة غير منسقة عبر الحدود خوفاً من جرّ الدول العربية الى حرب مع العدو في غير أوانها.
ألم تكن تحصل عمليات فدائية قبل حرب 1967؟
- بلى، ولكن بشكل محدود. وفي احدى هذه العمليات اعتقل ياسر عرفات مع 12 عنصراً عندما حاول الجيش منعهم من اجتياز الحدود سنة 1966 - ثم سلّمته الشعبة الثانية الى الاركان السورية التي كانت تؤمن له المأوى والدعم. لكن العمليات ازدادت اعتباراً من سنة 1968 فكانت تستتبع رداً عسكرياً من اسرائيل ضد لبنان حتى كان تشرين الاول اكتوبر سنة 1968 حين وقع الاصطدام الفعلي بين الجيش والفدائيين على اثر ذلك ظهر الانقسام اللبناني حول العمل الفدائي بين مؤيد بحماس ورافض خوفاً من انتقام اسرائيل. وظهر الانقسام في الحكومة الرباعية بين حسين العويني وعبدالله اليافي من جهة وبيار الجميل وريمون ادة من جهة ثانية. وامام احدى التظاهرات الضخمة صرخ الرئيس اليافي "كلنا فدائيون". فلما عاتبته على موقفه الذي يرتّب على لبنان مسؤوليات قال: "لقد تحمسنا". وازدادت العمليات الفدائية وتصاعدت ردّات فعل اسرائيل التي بلغت الذروة في تدمير الطائرات المدنية الثلاث عشرة في مطار بيروت في كانون الاول ديسمبر 1968، فانفجرت الحكومة الرباعية وارتفعت الاصوات المنددة بتقاعس الجيش وكان عليّ منع الانحدار الى الهاوية. واستمر الوضع قلقاً حتى وقع الصدام بين قوى الامن والمتظاهرين المؤيدين للعمل الفدائي في بيروت، في 23 نيسان ابريل 1969، فسقط قتلى وجرحى من الطرفين وانتقل التوتر الى جميع المناطق واستقال الرئيس رشيد كرامي والحكومة بعد جلسة صاخبة في المجلس.
انقسام نفسي وطائفي
لماذا دامت الازمة الوزارية سبعة اشهر؟
- لم تكن ازمة حكومية، بل كانت ازمة حكم، لا بل ازمة وطن منقسم نفسياً وطائفياً حول العمل الفدائي. والرئيس كرامي نفسه لم يكن يريد الاستقالة، لكنه تحت ضغط التنديد في الشارع الاسلامي، العربي واللبناني، بالحكم والجيش تنحى عن المسؤولية. ولما باشرت الاستشارات كنت ادرك عمق المأزق، وان اي شخصية سنية غير كرامي ستقع تحت تأثير الضغوط نفسها، لذلك كانت اسئلتي خلال الاستشارات مستوحاة من جوهر المشكلة، فركزت على مسألة اختيار موقف حيوي، بالنسبة الى العلاقة مع المقاومة الفلسطينية، وقلت صراحة ان تشكيل اي حكومة لا تنفجر عند اي خلاف مرتبط بالاتفاق مسبقاً على صيغة التعاطي مع العمل الفدائي، وعندما وجدت ان اجوبة النواب كانت منقسمة كانقسام الرأي العام اعتبرت ان الموقف لا يسمح بتشكيل حكومة جديدة.
لماذا لم تطرح صيغة معينة للاتفاق مع المقاومة؟
- الحقيقة كنا نتحرك في المعالجات بين سقفين افضلهما كارثة: فإما السماح للعمل الفدائي سراً وعلناً وستكون النتيجة احتلالاً اسرائيلياً مؤكداً، واما منع العمل الفدائي بالقوة، والنتيجة اصطدام بالفلسطينيين واضطرابات في الداخل وحصول التسلل على رغم مقاومتنا له، ثم تلقي ضربات اسرائيل بسبب عدم تمكنا من منع التسلل. لم يكن احد من القيادات العسكرية والسياسية يملك حلاً مقنعاً. والرئيس كرامي كان من الداعين الى التفاهم مع الفلسطينيين ويلاقي دعماً من قيادات اسلامية ويسارية ومن كمال جنبلاط بالذات الذي راح يهاجم الحكم ويهدد بانتفاضة شعبية. اما انا فكان جوابي الدائم ان اعتماد التفاهم مع الفدائيين اخطر من عدم التفاهم لأنه يفرض ارادة سوانا علىنا وينتقص من سيادتنا ويعرّض ارضنا للخطر والاحتلال.
يعني انك كنت ضد الاتفاق؟
- في البداية نعم. كان صعباً عليّ ان اقبل اتفاقاً يجبرنا على تقديم تنازلات من سيادتنا لأي كان. لذلك رفضت ورقة سرية اعدها قائد الجيش العماد اميل بستاني من دون تكليف من احد مع ياسر عرفات بتاريخ 9 ايار مايو في منزل احدى الشخصيات الفلسطينية في بيروت. وطار صوابي في اليوم التالي عندما علمت ان الشعبة الثانية توصلت الى اتفاق مع القيادة الفلسطينية في 11 ايار مايو لتجميد العمليات العسكرية المتبادلة، اذ كيف يعقل ان يقبل جيش شرعي ان يساوي نفسه بمنظمة عسكرية غير شرعية على ارض لبنانية، فتفقد القوى النظامية حرية المبادرة في وقت ما زال رئيس الجمهورية يرفض مبدأ التفاوض مع الفدائيين.
صواب اللبنانيين
على ماذا كنت تراهن للتشبث بمبدأ عدم التفاوض؟
- كنت اراهن اولاً على عودة اللبنانيين الى صوابهم، ثم كنت اعتقد ان مبادرة الوزير الاميركي روجرز للسلام قد تنجح خصوصاً بعدما وافق عليها الرئيس عبدالناصر والملك حسين فتنتفي الحاجة الى العمليات الفدائية. وفي حال فشل المبادرة كنت اعتقد بأن الحرب واقعة حتماً مما يلغي اسباب عمليات المقاومة.
اما خط الدفاع الاخير فكان الاستنجاد بصداقات لبنان الدولية خصوصاً عبدالناصر وديغول، لكن كل هذه الرهانات سقطت واصبحنا بعد سبعة اشهر وجهاً لوجه في صدام دموي مع الفدائيين.
ماذا جرى بالضبط حتى وصلتم الى "اتفاق القاهرة
- مرّ الصيف مضطرباً من دون حكومة فاعلة، ووسط حملات مؤذية بين المؤيدين للفدائيين والمعارضين كجماعة الحلف الثلاثي الماروني والبطريرك بولس المعوشي. وكان الفلسطينيون يتدفقون عبر الحدود السورية بالمئات حتى وصل عددهم الى اكثر من اربعة آلاف بكامل السلاح. وفي اب اغسطس جرت اشتباكات في مخيمات الشمال اي البارد والبدّاوي حيث احرق الفلسطينيون مخفر الدرك وطردوا قوى الامن ومخابرات الجيش مدعومين من قوى بعثية ويسارية في طرابلس وعكار. وفجأة جرى اصطدام في مجدل سلم في 21 تشرين الاول اكتوبر 1969 بين الجيش ومجموعة فدائية اوقع ضحايا، فامتدت الاشتباكات والتوتر فوراً الى جميع المناطق: احتلال المدينة القديمة في طرابلس، واقتحام مخافر الحدود في الشمال والمصنع وقتل الموظفين من قبل عناصر الصاعقة وجبهة التحرير العربية التابعة للعراق بالاضافة الى التوتر في بيروت وصيدا والجنوب والبقاع.
وأغلقت سورية الحدود معنا وفتحتها فقط للمسلحين. ولم تنفع اتصالاتي بالرئيس نور الدين الأتاسي في اعادة الامور الى نصابها. وسارت التظاهرات في جميع المدن العربية منددة بالحكم اللبناني. وزارني الرئيس كرامي واعلن اعتذاره عن عدم الاستمرار في تحمّل المسؤولية لانه لا يستطيع ان يتحمل مسؤولية ما يختلف مع رأيه وتفكيره ومعتقده، وتضامن مع كرامي الزعماء المسلمون من جميع الطوائف حيث عقدت ثلاث قمم اسلامية في دار المفتي حسن خالد في عرمون اكدت ان لا اشتراك في الحكم الا على اساس اطلاق حرية العمل الفدائي.
ألم تحصل تدخلات ووساطات عربية ودولية؟
- الدول العربية كانت جميعها متضامنة مع الفدائيين خوفاً من غضب الجماهير. كانت هناك عروض كويتية وعراقية وليبية غير مقبولة. الفرنسيون كانوا يتخبطون بعد رحيل ديغول عن الحكم علماً ان ديغول كان ابلغ فؤاد بطرس قبل اشهر عندما قابله كممثل لي، بأنه مع لبنان الى حين ظهور الخلاف بين البسطة والجميّزة، اما الاميركيون فلم يكن تدخلهم وارداً لا عسكرياً ولا سياسياً بسبب الجو العربي المعادي لهم بعد هزيمة 1967، وفي لحظة معاناة فكّرت بحل على الطريقة القبرصية، وطلبت من الامين العام للخارجية السفير نجيب صدقة دراسة صيغة على هذا الاساس. لكنني تراجعت لان ذلك يتنافى مع تفكيري ومذهبي السياسي والوطني ولأن ذلك الحل ليس معقولاً ولا عملياً، لم يبق امامي سوى الاستجابة لنداء صديقي الرئيس جمال عبدالناصر الذي ارسل ثلاث رسائل يرجوني فيها حقن الدماء، فقبلت مكرهاً.
انتهى الأمر
قلت مراراً ان اشياء حدثت في القاهرة لم تكن موافقاً عليها؟
- بدأت القصة في بيروت عند تشكيل الوفد المفاوض. رئيس الاركان يوسف شميط القريب من فؤاد شهاب اعتذر من دون سبب مقنع، فاستعضنا عنه بالطلب من قائد الجيش تولي المهمة. وجاءت المفاجأة الثانية من الرئيس كرامي الذي كان عليه ترؤس الوفد، فتخلّف عن الذهاب من دون ان نعرف السبب حتى اليوم، فبقي العماد بستاني وحيداً في القاهرة مع السفير حليم ابو عز الدين والضابط سامي الخطيب وامين عام الخارجية نجيب صدقة، حتى نجيب صدقة عاد الى بيروت طالباً اعفاءه من المهمة بسبب مشاهدته اموراً لم يكن موافقاً عليها كما قال لي بعد عودته.
ما هي هذه الامور؟
- لا اريد ان افتح دفاتر الماضي. كل ما اريد ان اقوله ان العماد بستاني وجد في جو ضاغط منذ وصوله بسبب التظاهرات الساخطة والضغط المصري لانجاز الاتفاق، وقد تأخر ياسر عرفات للحضور الى القاهرة ثلاثة ايام حتى تأكد ان المصريين هيأوا له الاجواء. وكانت الاتصالات بين بعبدا وبيروت والوفد المفاوض قليلة لأسباب كثيرة. وعندما ادركت وعلمت بمدى الضغط على المفاوضين وانسياق بستاني في امور ليست من اختصاصه كعسكري، ارسلت الموظف في الخارجية توفيق شاتيلا الى القاهرة حاملاً تعديلات على النص الذي تم وضعه بصورة مبدئية، وعند وصوله الى مصر قال له البستاني ان الاتفاق وُقّع وانتهى الامر.
يعني انك قبلت الاتفاق كأمر واقع؟
- صحيح وقد فكّرت ان ألغي الاتفاق فور عودة البستاني الى بيروت. لكن الرئيس كرامي نصحني بعدم الاقدام على الخطوة لان ذلك سيفاقم المشكلة ويغضب عبدالناصر. لذلك اكتفيت برسالة الى قائد الجيش ابديت فيها ملاحظاتي وتحفظاتي على الاتفاق لحفظ حقي وحق لبنان امام المؤسسات الدستورية والمحافل الدولية.
قيل ان عبدالناصر لام البستاني على الاتفاق وهذا ليس منطقياً كما يبدو من خلال كلامك؟
- هذه من الاكاذيب التي فبركتها جماعة المخابرات وألسنة السوء. فعبد الناصر هو الذي ضغط من اجل الاتفاق وكلف وزيري الحربية والخارجية محمد فوزي ومحمود رياض ومدير المخابرات وسامي شرف انجاز الامر. ومعظم النصوص اقترحها الوفد المصري.
قيل ايضاً ان طموح العماد بستاني لخوض معركة الرئاسة سنة 1970 دفعه الى السرعة في توقيع الاتفاق للحصول على تأييد عبدالناصر والعرب والفلسطينيين. هل هذا صحيح؟
- لا استطيع الحكم على النوايا. ولكن علمت فيما بعد ان عبدالناصر هو الذي استقبل بستاني قبل توقيع الاتفاق بثلاثة ايام وأسمعه كلاماً طيباً ربما دغدغ طموحه.
لكنك اقلت البستاني بعد اسابيع من قيادة الجيش. هل كان السبب "اتفاق القاهرة
- منذ عودته من مصر اختلف سلوك البستاني معي الى ان اصطدمنا كلامياً في اجتماع في قصر بعبدا بحضور كرامي وغابي لحود والياس سركيس وشميط وآخرين. فرفعت الاجتماع ولم يعد يهاتفني او يزورني طوال اكثر من شهر. وكانت جماعة فؤاد شهاب منزعجين من طموحه وسلوكه، فتفاهمت معهم على صيغة لاقصائه بموافقة شهاب ابلغني اياها كرامي، وانهينا خدماته في 7 كانون الثاني يناير 1970.
لماذا لم ترسل الاتفاقية الى المجلس النيابي؟ هل كنت تريد الغاءها؟
- استعملت حقي الذي تنص عليه المادة 52 من الدستور، ورأيت من الضروري عدم نشر الاتفاق واعلانه كي لا اعطي ذريعة لاسرائيل. وكنت اريد فعلاً الغاءه في الوقت المناسب وهذا ما لم يكن يفهمه المرحوم ريمون ادة على عكس الشيخ بيار الجميل وحتى الرئيس كميل شمعون. لقد ورد فقط ذكر الاتفاق عرضاً في البيان الوزاري لحكومة رشيد كرامي التي تألفت بعد اجتماع القاهرة من دون اعلان البنود وعلى سبيل العلم فقط. اكثر من ذلك طلبت من الوزراء وكذلك من ريمون ادة ان يوافوني الى مكتبي للاطلاع على الاتفاقية بصورة شخصية اذا أرادوا حتى لا نسجل على الدولة اعلان الورقة رسمياً ثم تحمّل العواقب. في مطلق الاحوال، لا نستطيع اعادة التاريخ الى الوراء، لكنني اؤكد وضميري مرتاح بأن مبدأ الاتفاق آنذاك كان اهون الشرور والبديل عنه حرب اهلية بالتأكيد.
في كانون الاول ديسمبر 1999 صدرت تصريحات لياسر عرفات قال فيها ان السلاح في المخيمات الفلسطينية في لبنان يجيزه "اتفاق القاهرة". ما رأيك؟
- يقول المثل الفرنسي: "هناك اموات يجب اعادة قتلهم". فالاتفاق ليس موجوداً. وكما ذكرت في البداية فان الاتفاق سقط عند توقيعه ولا قيمة قانونية له، وكل ما فعله الفلسطينيون منذ العام 1967 اتى خارج اي نص او اتفاق. لذلك قلت ان مجلس النواب عندما الغى اتفاق القاهرة في ايار مايو 1987 انما الغى شيئاً غير موجود خصوصاً في مجلس النواب. لكن الصفقة السياسية يومها قضت بالغاء "اتفاق القاهرة" ولو نظرياً في مقابل الغاء "اتفاق 17 ايار" مع اسرائيل الذي وافق عليه مجلس النواب اساساً ولم يبرمه رئيس الجمهورية. ولو سلّمنا جدلاً ان الاتفاق موجود فقد سقط عملياً سنة 1978 بالقرار 425 الذي يعيدنا الى اتفاق الهدنة ويمنع اي عمل مسلح عبر الحدود. وسقط ايضاً باتفاق 20 آب اغسطس 1982 الذي وقّعته حكومة الرئيس شفيق الوزّان والذي قضى بإخراج المسلحين الفلسطينيين من لبنان بموجب وساطة فيليب حبيب بعد الاجتياح الاسرائيلي.
ما هو مستقبل الوجود الفلسطيني في لبنان حسب اعتقادك؟
- حتى الآن، كل المؤشرات مع الاسف تدل على ان الفلسطينيين سيبقون في لبنان بشكل او بآخر. كل ما اتمناه ان لا تعود اللعبة الاقليمية والدولية الى استعمالهم وقوداً في سياسات تؤذيهم كبشر وتعرض لبنان للمخاطر. ومع ادراكي ان القرار ليس بكامله في يد السلطة اللبنانية، الا انني اتمنى ان يطبّق القرار 425 بحذافيره ومن دون اجتهاد، فينتشر الجيش في المنطقة الحدودية ويبسط الامن ومظاهر السيادة. وغير ذلك من التبريرات غير منطقي، وغير مقبول، اذ كيف تطبّق سياستان عربيتان على جبهة واحدة، اي تطبيق الالتزامات الدولية واتفاقات فصل القوى في الجولان، وتفسير مقلوب للقرارات الدولية في جنوب لبنان؟
الحلقة الثانية الاسبوع المقبل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.