رئيس الجمهورية ليس الحاكم الفعلي، جاؤوا به ليحكموا من خلاله وزرعوا حوله من يحصي أنفاسه. الحاكم الفعلي ضابط شاب أخذ القرار الى عتمة الثكنة ومن هناك راح يحرك الخيوط لضمان استمرار نهج الرئيس السابق اللواء فؤاد شهاب. هذا ما قيل في تلك الأيام 1964 - 1970. كان اسم رئيس الجمهورية شارل حلو وكان اسم رئيس "الشعبة الثانية" في الجيش اللبناني غابي لحود. وذهبوا أبعد في المبالغة وقالوا ان شارل حلو تولى الرئاسة في عهد غابي لحود. في أواخر عهد حلو اندلعت في لبنان معركة حريات. حمل المعارضون بعنف على "المكتب الثاني" و"دولة الاشباح" و"العسكريتاريا" و"حكم الأجهزة" وترددت في البلاد اصداء مواقف صائب سلام وريمون اده ومقالات غسان تويني. وعندما حان موعد انتخابات الرئاسة تسلم لحود "كلمة السر" من فؤاد شهاب وقاد معركة المرشح الياس سركيس "لتنظيم انسحاب الجيش من السياسة في ظل رئيس شهابي". خان الحظ سركيس وفاز سليمان فرنجية بفارق صوت واحد وسيدفع لحود الثمن باهظاً. ابعاد ثم توقيف ثم حكم غيابي بالسجن مع الأشغال الشاقة. لكنه عاد وبرئ ليرجع الى منفاه في مدريد. في 1976 ابتسم الحظ متأخراً لسركيس فانتخب رئيساً لكن الظروف تغيرت ومعها قواعد اللعبة وسيكون اسم "الرجل القوي" في مديرية المخابرات العقيد جوني عبده. وفي أواخر عهد صديقه سركيس أعيد لحود الى الجيش برتبة عميد لكنه سيغادر الجيش والبلاد في 1983 في عهد الرئيس أمين الجميل ليعاود العيش في "منفاه" في مدريد. لا مبالغة في وصف غابي لحود بأنه خزنة الأسرار الشهابية. فمنذ انتقال الضابط الشاب اللامع في سلاح المدفعية في 1959 الى "الشعبة الثانية" حاز على ثقة الرئيس شهاب الذي لم يتردد في كشف بعض الأسرار له لثقته بقدرته على كتمانها. وفي عهد حلو كان لحود رجل الأسرار وفي عهد سركيس كان التشاور دورياً. قبل ستة أعوام اتصلت بالعميد لحود لاقناعه بالمشاركة في سلسلة "يتذكر". وجاء الجواب مهذباً وقاطعاً: "اعتقد أننا أدينا واجبنا. لا فائدة من فتح الملفات وأفضل ان تذهب بعض الأسرار معي الى القبر". بدا الرجل حزيناً لأن حلم شهاب بالدولة والمؤسسات والتوازن انهار على الطريق فاستبيحت مقومات الدولة والوطن وتشرذمت المؤسسات وغيّب التوازن. لم يكن أمامنا غير القبول لكن الصحافة لا تؤمن بالأسرار الذاهبة الى القبر، فكررنا المحاولة وها هو "غابي لحود يتذكر". كان الحوار الذي استلزم جلسات عدة متعباً للسائل والمجيب معاً. وبدا لحود كمن يتعذب في ايقاظ التفاصيل في ذاكرته وفي محاولته كشف الحقائق من دون الحاق الأذى بالآخرين. وكثيراً ما توقف ليكرر السؤال عن جدوى الكلام الآن والتفسيرات التي يمكن أن تعطى لخروجه عن صمته المزمن. وعلى مدى اللقاءات بدا ان شغف لحود بفؤاد شهاب ومدرسته لم يتراجع، الى درجة كدت أشعر معها ان الأمير اللواء يشارك في الجلسة مستمعاً. حكى لحود قصة استقالة فؤاد شهاب الشهيرة وكشف السر الذي طالبه بكتمانه. وروى كيف اختار شهاب حلو لخلافته وطلب منه أن يحكم. وتحدث عن عهد حلو وعقدة الخروج من ظل شهاب والتي دفعت الرئيس الى نوع من التعاطف مع قيام "الحلف الثلاثي". روى قصة اعتقال أبو عمار قبل حرب 1967 وملابسات توقيع "اتفاق القاهرة" مع منظمة التحرير الفلسطينية في 1969 مشيراً الى أن الطموحات الرئاسية لقائد الجيش آنذاك العماد اميل البستاني دفعته الى الاسراع في توقيع الاتفاق. وكشف ان البستاني اقترح في اليوم الأول من حرب 1967 مهاجمة موقع اسرائيلي واحتلاله خوفاً من أن لا تكون للبنان حصة في كعكة الانتصار. كما تحدث لحود عن محاولة ال "كي. جي. بي" خطف طائرة "ميراج" من سلاح الجو اللبناني وكيف تحول النجاح في احباطها بفضل ولاء الضابط محمود مطر الى كارثة، وتساءل من تدخل ال "سي. اي. اي" أم "الموساد" أم الصدفة؟ ويتضح من الرواية ان البيانات الرسمية اللبنانية التي صدرت آنذاك لم تكن صحيحة وأن الديبلوماسيين السوفيات لم يكن بحوزتهما سلاح. وتحدث لحود عن تدخل الجيش في السياسة وتدخل "الشعبة الثانية" في الانتخابات وعن ظروف انتخاب فرنجية. وروى قصة الصفعة التي فتحت باب الطلاق بين ريمون اده والشهابية. وتطرق الى جوهر نهج شهاب في الحكم وترسيخ مؤسسات الدولة وحمايتها بالتوازن واشراك الممثلين الفعليين لمختلف العائلات الروحية. يسلط كلام لحود الضوء على المحاولة اليتيمة التي عرفها لبنان بعد الاستقلال لبناء دولة ومؤسسات ويعيد الى الأذهان مرحلة كانت الدولة فيها تحاول ان تكون دولة وكان باستطاعتها العثور على رجال دولة. وهنا نص الحلقة الأولى: في 1964 انتخب شارل حلو رئيساً للجمهورية، من جاء به؟ - الرئيس فؤاد شهاب هو الذي اختار شارل حلو. كان الأمير عبدالعزيز شهاب يتطلع هو أيضاً إلى تولي هذا المنصب، لكن انتماءه إلى العائلة نفسها لم يكن، في تقديري، عنصراً مساعداً. بعد انتخاب فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية 1958 بدا اختيار اللواء عادل شهاب قائداً للجيش خلفاً له أمراً طبيعياً. فقد كان الأرفع والأقدم بين الضباط الموارنة، باستثناء جميل لحود الذي كان عمره لا يسمح باسناد هذه المسؤولية إليه، لا بل بدا من غير الطبيعي حرمان عادل شهاب من منصب يستحقه. اعتقد بأن فؤاد شهاب شعر بأن مجيء شخص من العائلة نفسها إلى رئاسة الجمهورية أيضاً لا بد أن يحمل على غير محمل، حتى ولو توافرت فيه كل المواصفات اللازمة. وربما تخوف فؤاد شهاب من أن يتحمل لاحقاً، أمام الناس والتاريخ، مسؤولية أي خطأ قد يرتكبه عبدالعزيز شهاب لأن الفصل بين الرجلين في ذهن الناس سيكون صعباً جداً. وكان هناك في التداول أيضاً اسم فؤاد عمون لكن خيار الرئيس شهاب وقع على شارل حلو. هل كان ينظر إلى شارل حلو كشهابي حقيقي؟ - كانت المدرسة الدستورية هي القياس في تقويم الرؤية السياسية، فالشهابية تستند أصلاً إلى رؤية الشيخ بشارة الخوري وتصوره، وبغض النظر عما يمكن أن يكون رافق عهد بشارة الخوري من ممارسات. انتماء شارل حلو إلى تلك المدرسة وانتماؤه الفكري إلى ميشال شيحا اعطى الانطباع بأنه سيكون قادراً على التزام الثوابت الوطنية العامة والدفاع عن منطق الدولة وانتهاج سياسة تقوم على التوازن والاعتدال وتدعيم المؤسسات فضلاً عن أن شارل حلو كان يتمتع بطاقة فكرية وثقافية مميزة. حكم كما أراد قيل إن الشهابيين جاؤوا برئيس ضعيف ليحكموا من خلاله، فهل هذا صحيح؟ - كل هذه المحطات صارت ملكاً للتاريخ. وواجبنا أن نتحدث عنها بأمانة كاملة. إذا كنت تحاول من خلال سؤالك الايحاء بوجود خطة من هذا النوع، فأنا اعتبر ذلك تجنياً. ما أقول في هذا الموضوع هو نتيجة لمعايشتي للرجلين وقد ربطتني بهما علاقة قوية. لقد حكم شارل حلو كما أراد وكما اعتبر ذلك مناسباً له. لحظة خروجه من قصر الرئاسة اعتبر فؤاد شهاب أنه صار رئيساً سابقاً وأن القرار الآن يجب أن يكون في يد الرئيس الجديد. أكثر من ذلك، أقول إن شهاب اعتبر أن من الطبيعي أن يعين حلو مديراً عاماً لرئاسة الجمهورية خلفاً لالياس سركيس، وأن يأتي بالفريق الذي يختاره للمواقع ذات العلاقة بالرئاسة. لكن شارل حلو هو الذي تمسك ببقاء سركيس. هل تجزم بأن شهاب لم يطلب من حلو ابقاء سركيس في موقعه؟ - نعم، ومن دون تردد. جاءت المبادرة من حلو نفسه، إذ قال إنه لا يسلّم بالانتقادات التي وجهت إلى عهد شهاب ويريد أن تستمر الأمور كما هي باستثناء بعض التجاوزات المعدودة. قال أيضاً إنه يريد استمرار "الشعبة الثانية" في عملها على النمط نفسه وأنه إذا أراد تغيير رئيس هذه الشعبة العقيد انطون سعد فذلك لا يعني تعديلاً في مهماتها. وكان إلى ذلك يحرص على اطلاع الرئيس شهاب، شخصياً، وعلى الهاتف، على كل شاردة وواردة ويتصارح معه الرأي بصددها فتستغرق المكالمة وقتاً مستفيضاً ولافتاً ويجاهر هو بهذا الأمر أمام زواره. هل عمل سعد لوصول حلو؟ - لم تكن ثمة حاجة لمثل هذا العمل. رفض فؤاد شهاب التجديد وحين اعطى كلمة السر أي اسم شارل حلو إلى الرئيسين صبري حماده ورشيد كرامي ورينيه معوض أيد المجلس النيابي هذا الخيار وانتخب حلو. لم تكن ثمة حاجة لأي نوع من التدخل. كان انطون سعد بدأ قبل فترة بإعدادي لخلافته في منصبه وكان ينوه بانضباطي وواقعيتي أمام المسؤولين، وحين ظهرت رغبة حلو في استمرار عمل "الشعبة الثانية" كما هي عليه، اقترحني سعد ووافق حلو وهنأني على تعييني. وفي قيادة الجيش؟ - استمر اللواء عادل شهاب إلى حين بلوغه السن القانونية للتقاعد. لم تكن هناك ظروف استثنائية تفرض خرق القاعدة والتمديد له، وبديهي أن لا يتدخل فؤاد شهاب للتمديد لعادل شهاب. وانطلاقاً من معايير الأقدمية عين العميد اميل بستاني قائداً للجيش ولم يتدخل أحد لدعم العميد عبدالقادر شهاب الذي كان أقدم عميد ماروني يليه مباشرة في سلم الأقدمية. هل تدخلتم كشعبة ثانية في تعيين بستاني؟ - كان يمكن أن نتدخل لو اعتبرنا أن تعيينه يلحق أذى بالمؤسسة. لم تكن هناك ملاحظات على كفاءاته ولم يكن بعيداً عن الخط العام للشهابية وكان يتردد على العقيد سعد في منزله. الملاحظات على بستاني ظهرت لاحقاً حين افرط في الاهتمام بالمظاهر وحلم برئاسة الجمهورية وتجاوز التراتبية في بعض تصرفاته. من كان المطبخ الرئاسي في عهد شارل حلو؟ - في الحلقة الأقرب الياس سركيس وغابي لحود. حتى عندما عُيّن سركيس حاكماً للبنك المركزي، كان حلو يستدعيه ويشركه. أنا بحكم موقعي كانت علاقتي معه منتظمة ودورية. وفي وقت لاحق كان حلو يشرك الشيخ ميشال الخوري. والأكيد أن حلو كان يتمنى أن يخلفه الخوري في الرئاسة. من دعم وصول حلو خارجياً، مصر والفاتيكان وفرنسا؟ - لا استبعد ذلك، إنما ليست لديّ معلومات تؤكد أو تنفي. الأمر الأساسي هو أنه لم تكن هناك اعتراضات من أحد على شخص حلو، ورجحت كفته داخلياً منذ صدور "كلمة السر". حلو وعقدة شهاب في 1965 أُجريت انتخابات فرعية في جبيل تواجه فيها العميد ريمون اده ونهاد سعيد أرملة النائب المتوفى انطون سعيد، ماذا كان موقف شارل حلو؟ - كان لدى شارل حلو ميل أكيد إلى تأييد انتخاب اده خلافاً لما كان يشيّع عن نفسه من خصومة تجاه آل اده بشكل عام، وريمون اده بشكل خاص. وما حصل لاحقاً يساعد على التفسير. طبعاً كان لدى حلو قدر كبير من العرفان بالجميل للرئيس شهاب الذي أوصله إلى الرئاسة. وكان شهاب طلب من حلو أن يحكم، أي أن يمارس الرئاسة كاملة. لكن الإنسان هو الإنسان ورصيد شهاب واسع في الدولة والجيش والبرلمان. وفي مثل هذه الحال يشعر الخلف برغبة في الخروج من ظل السلف كي لا يقال عنه إنه مجرد صدى. اعتقد بأن حلو تمنى عودة الزعماء الموارنة غير الشهابيين إلى البروز، معتبراً أن ذلك يساعده على الخروج من ظل شهاب أو يمنحه حرية في التحرك في ظل توازن جديد وقد يكون أجرى الحسابات نفسها حين حكي أن عقدة الخروج من ظل شهاب دفعته إلى التعاطف مع قيام "الحلف الثلاثي". ولكن "الشعبة الثانية" تدخلت ضد ريمون اده؟ - نعم، لأن حلو لم يفاتحنا صراحة برغبته بمساعدة اده، بل اعطى توجيهاته للأمن العام من وراء ظهرنا. ومن جهتنا نحن لم يكن هناك قرار بالعمل على إسقاط اده بالحدة نفسها التي حاربنا بها كميل شمعون من قبل، كان هناك قدر من التعاطف أو التأييد لنهاد سعيد امتداداً للصداقة التي كانت قائمة مع زوجها المتوفى ونتيجة للموقف العدائي الذي اتخذه اده من الشهابية و"الشعبة الثانية" بعد استقالته من "الحكومة الرباعية" في عهد فؤاد شهاب إثر حادثة فيليب خير. اكتفينا بالتوجيه كشعبة ثانية لمصلحة نهاد سعيد، بينما وجه الأمن العام لمصلحة ريمون اده، فانتصر الأخير. وغضب فؤاد شهاب على شارل حلو مرده أنه كذب عليه، إذ كان يشعره بأنه لا يريد نجاح اده، وهو لو صارحه بموقفه لما كان من شهاب إلا المباركة. ماذا كان رد فعل فؤاد شهاب على نجاح ريمون اده؟ - لم يكن سلبياً. قلت لك ان شهاب لم يكن مؤيداً لاسقاط كميل شمعون في 1964، لكن غضبه انصب على شارل حلو لأنه اخفى عنه حقيقية موقفه، كما أسلفت. شهاب واده والصفعة كيف كانت علاقة شهاب بريمون اده؟ - في البداية كانت جيدة. وذات يوم قال لانطون سعد: "ريمون اده رجل حرزان". وبسبب هذه النظرة اشركه في الحكومة الرباعية التي ضمت عن الموارنة اده وبيار الجميل على رغم ان اده ترشح ضد شهاب في انتخابات الرئاسة. لكن هذه العلاقة لم تدم طويلاً فبعد حادثة فيليب خير استقال اده وشن حملة تصاعدية ضد شهاب. هل ولد هذا الامر شيئاً من الكراهية لدى شهاب؟ - ربما ادى الى ذلك نعم اذ اعتبر شهاب ان اده ذهب بعيداً في الطرق المستمر على الجيش والشعبة الثانية بسبب وبدون سبب وان قصة فيليب خير لا تستحق الوصول الى هذه الدرجة. وقد يكون صعود نجم بيار الجميل ضاعف من رغبة اده في معاداة شهاب والشهابية. ما هي قصة فيليب خير؟ - انتخب فؤاد شهاب في الاجواء التي ولدتها ثورة 1958. وبعد وصوله اطلق مؤيدو شمعون جواً مفاده ان المسيحيين خسروا كل شيء وان السلطة الفعلية صارت في يد عبدالحميد غالب سفير مصر في بيروت وان اختيار شهاب سيرجح كفة المسلمين في البلاد. ذات يوم استقبل فيليب خير في مكتبه رجلاً من مؤيديه نظم ردة زجل شعر عامي يهجو فيها فؤاد شهاب ويجرّح برجولته بالمقارنة مع رجولة شمعون. استمع خير الى الردة وسرّ بها وكافأ ناظمها مالمياً، وقال له: "اكتبلي ياها بدي فرجيها للريس شمعون بينبسط فيها". كنتُ طري العود في "الشعبة الثانية" وصورة فؤاد شهاب عندي لا تعلو عليها صورة. جاؤوا بالنص وأطلعوني عليه. فيليب خير مسؤول في "الكتلة الوطنية" التي يتزعمها اده وهو حزبي وممول ورجل كبير في السن. ارسلت في طلب فيليب خير وكان المقصود تنبيهه الى عدم جواز استخدام عبارات تحقيرية في الكلام على رئيس الجمهورية وكنت على يقين ان مجرد الملاحظة سيفي بالغاية المرجوة. جاء فيليب خير الى مكتبنا في مبنى قيادة الجيش قرب المتحف. سألته عن الكلام وقلت له ان شهاب رئيس البلاد وهو رمز لا يجوز المس به بهذا الاسلوب. فوجئت به ينظر الي باستهزاء. لم أعد أذكر تحديداً ما قاله وأثار غضبي. علا صوتي وزاد هو من استهزائه وأنا على هذه الدرجة من الإثارة فصفعته. بدأت على الفور افكر في المعالجة. لكن العسكريين الذين كانوا ينتظرون خارج المكتب دخلوا لتوهم على سماع الصراخ وأمسكوا به وانهالوا عليه ضرباً فسارعت الى وقفهم لكن احدهم كان قد اصابه بلكمة في انفه فسال منه الدم ونزل على قميصه. بلغ الخبر ريمون اده فاحتج على توقيفه وطالب باخلاء سبيله فقلنا اننا سنفعل لكننا كنا نريد بعض الوقت لمعالجة مسألة قميصه. صرت افكر من اين سنأتي له بقميص على قياسه وهو كان ضخم الجثة ووقع خياري على صهري فؤاد لحود وهو غير النائب الذي يحمل الاسم نفسه. اتصلت بشقيقتي روز فقلت لها سأرسل السائق ليأتيني بأحد قمصان فؤاد. هنا شاءت الصدف ان تكون القميص التي ارسلتها لي آتية للتو من المصبغة التي وضعت عليها اسم صاحبها اي فؤاد لحود الامر الذي اوقعنا في مشكلة مع النائب فؤاد لحود الذي راح يقول: "المكتب الثاني يتآمر علي ولديه في ادراجه قمصان عليها اسمي لتوريطي". كان رد فعل ريمون اده عنيفاً وطالب برأس الضابط المسؤول. لم يكن يعرف ان المشكلة وقعت معي ولعله كان يعتقد بأنها مع انطون سعد. وطبيعي ان انطون سعد لم يذكر اسمي. طبعاً كان انطون سعد قال لي: "ابعث ورا فيليب خير وبهدله البهدلة اللازمة". لم يقل لي اضربه ولم يكن وارداً ان اضربه، انه انفعال الشباب. لكن النتيجة على صعيد اثبات هيبة السلطة والحكم كانت مثمرة للغاية ودبّ الرعب في قلوب الذين كانوا يستخفون بها. استقال اده وبدأ معركة طويلة ضد شهاب. اختار المعركة ضد الشهابية وركب موجة المحتجين عليها، وهو برلماني لامع، واعتقد بأنه اعتبر ان تلك المعركة ستضمن له الرئاسة في 1964 لكن ذلك لم يحصل. والواقع ان ما حدث كان خلافاً للقاعدة. لم ينته عهد شهاب وسط مطالبة الشارع والرأي العام بنقيضه، كما تصور اده، بل وسط المطالبة باستمراره او متابعة نهجه. طبعاً كان كميل شمعون الخصم الكبير والاول لفؤاد شهاب لكنه "قطش قريعه" في حين قاد ريمون اده حملة المعارضة للشهابية ونجح في العزف على وتر العسكر و"الشعبة الثانية" و"الاجهزة" واتخذ من جريدة "النهار" قاعدة لهذه المعركة. معارض ومحاور هل التقيت ريمون اده؟ - هناك حادثة طريفة في هذا المجال وقعت في عهد الرئيس حلو. كانت "النهار" تشن حملة شعواء على عهد شارل حلو و"المكتب الثاني" لكن علاقاتي مع غسان تويني صاحب "النهار" لم تنقطع. كنت اقدر ذكاءه وبراعته وكنا نتحاور حتى وان عجز كل واحد عن اقناع الآخر. ذات يوم دخل اده مكتب تويني في "النهار" فوجدني مجتمعاً به. بدت المفاجأة على وجهه والتفت الى غسان قائلاً: "حتى في "النهار" غابي لحود موجود؟ ماذا يريد؟"، ونظر الى تويني نظرة استغراب وعتب شديد. قال له تويني: "بيننا وبين غابي علاقة، نتحدث ثم يتصرف كل واحد وفق قناعته، وأنا ارى ان من المفيد ان تستمع اليه". كان الموضوع الرئيسي للحوار يدور حول التجمع الاسلامي الذي دعا اليه في دارته الرئيس صائب سلام احتجاجاً على لجوء شارل حلو الى الدكتور عبدالله اليافي لتشكيل الحكومة. ولم نتمكن في حينه من ثني عثمان الدنا عن حضوره على ما كان لهذا الحضور من مدلول نتيجة ما كان معروفاً عن التزام الدنا الخط الشهابي. اتخذ المجتمعون موقفاً كانت خلفيته ان على رئيس الجمهورية ان يمثل الطائفة السنية بزعمائها الاقوياء اي رشيد كرامي او صائب سلام. ورد بيار الجميل على موقف سلام بكتاب مفتوح يدعم صلاحيات رئيس الجمهورية ولا يقبل بتقييدها، كما يطالب التجمع الاسلامي، ويذهب الى حد المطالبة بالتقسيم اذا كان التعايش غير ممكن …. ذهبت الى غسان تويني بعد صدور كتاب الجميل لاطلعه على رأيي وهو ضرورة ضبط المضاعفات قبل فوات الاوان ذلك ان حصول اصطفاف مسيحي في مواجهة الاصطفاف الاسلامي امر خطير، والمطلوب تبريد الاجواء واحتوائها. شرحت هذا الموضوع امام اده وبدا مقتنعاً لكنه بدا حائراً فان وقف مع بيار الجميل تعزز الاستقطاب وسيكون الدور القيادي لبيار الجميل، وان وقف ضده سيبدو بعيداً عن القاعدة. سألني اده: "ماذا تفعل لو كنت مكاني؟" فأجبت ممازحاً ومتفهماً المأزق: "انا اشكر الله كل يوم كذا انني لست مكانك. انا دخلت الجيش هرباً من السياسة. لكنها لاحقتني. بدك مني بهالحشرة حط حالي مطرحك؟..". بعدها سألني اده: ما هي مآخذكم علي؟ فقلت: "المأخذ هو انه حين تحبك النكتة معك تقولها حتى ولو الحقت اضراراً". وكنت اشير الى آخر نكتة حديثة له لم اعد اذكرها وكانت على فكاهتها وخفة دمها، مؤذية للرئيس حلو. هل عارضتم تعيين اده وزيراً في عهد شارل حلو؟ - لا وكنا نعتبر ان الظروف التي نشأت بعد 1967 كانت تحتم توسيع قاعدة الحكومة خصوصاً بعدما بدأت الصعوبات في ضبط نشاط المقاومة الفلسطينية تتعاظم تدريجياً وباضطراد. كنا نتولى ضبطها قبل حرب حزيران يونيو 1967 بحجة انها تسبب ارباكات للجيوش النظامية وكان هناك توجيه من القيادة العربية الموحدة يلزم المقاومة بالتنسيق وتفادي التسبب بهذا النوع من الارباكات. اما بعد حرب 67 فقد انقلبت المعادلة رأساً على عقب. هل كان حلو يحب اده؟ - كان مستعداً للتعامل معه لكن ليس الى درجة وصول اده الى الرئاسة. كان حلو يريد ميشال الخوري وعلى صعيد المدارس السياسية كان دستورياً ولا يرتاح تماماً الى خيارات الكتلة الوطنية واده. الجيش يعتقل عرفات في بداية عهد شارل حلو 1964 - 1970 بدأت مسألة المقاومة الفلسطينية تطرح نفسها كيف تعاملتم مع هذا الموضوع؟ - تواترت معلومات في البداية مفادها ان شباناً فلسطينيين بدأوا الاستعداد لشن عمليات مسلحة ضد اسرائيل انطلاقاً من الاردنولبنان. ولم تكن المعلومات واضحة. وحدثت بعض العمليات من نوع تفجير عبارة على بعد 500 متر من الحدود اللبنانية - الاسرائيلية وكانت اسرائيل ترد على هذه العمليات فتلحق اضراراً بالجانب اللبناني من الحدود. كانت لدينا قناعة ثابتة في "الشعبة الثانية" والدولة بصورة عامة ان اسرائيل ستسعى على الدوام وكلما تسنح لها الظروف لزعزعة النموذج اللبناني لأن قيام ديموقراطية عربية ترتكز على التعايش بين الاديان والطوائف على حدودها يشكل نوعاً من النقض للمنطق الذي قامت عليه. غياب المعلومات الدقيقة زاد مخاوفنا من ان تكون اسرائيل اخترقت هذه المجموعات الفلسطينية وان تكون الهجمات المسلحة من صنع اجهزة مخابراتها تستعملها كتبرير يمهد لعدوان خططت له مسبقاً. وكان الشارع اللبناني ينقسم بعد كل رد اسرائيلي بين مؤيد للمقاومة المسلمون عامة وبين مؤيد للرد الاسرائيلي المسيحيون في المقابل. حين بدأ يتردد اسم ابو عمار ياسر عرفات لم نكن نعلم من هو وتخوفنا ان تكون حركاته، هو نفسه، في خدمة التصعيد، فرحنا نحاول التحقق من هويته. ذات يوم تلقينا معلومات مفادها ان مجموعة تحمل معها مدفع هاون تستعد لشن عملية عبر الحدود اللبنانية تقصف خلالها مطار اللد وتنسحب عائدة على الفور الى داخل الاراضي اللبنانية… غني عن القول اهمية المضاعفات في ما لو تمكنت المجموعة من تنفيذ مهمتها، ان لجهة حجم الرد الاسرائيلي المنتظر ام لجهة البلبلة الداخلية التي ستنجم عنه لا محالة. اعطي الجيش التعليمات اللازمة وتمكن من ضبط المجموعة التي يبلغ عدد افرادها نحو 12 على ما اذكر. تولى النقيب فريد بو مرعي مسؤول قسم اللاجئين التحقيق. طلبت من ابو مرعي ان يحاول الاستفادة في التحقيق من هذا العدد الكبير من المشاركين لجمع معلومات اكثر دقة عن التنظيم الفدائي. ابلغني ان احد المشاركين قال له ان رئيس المجموعة كان يستشير باستمرار عنصراً مشاركاً فيها. طلبت احضار العنصر المذكور فجاؤوا به. قلت له: "نحن لا نشكك بوطنيتكم والدليل عليها اقدامكم على تعريض انفسكم للخطر بالمشاركة في عملية قد تودي بحياتكم. لكن ألا تخشون ان يكون هناك من يحرككم من دون علمكم وبما يخدم اسرائيل تحت ستار عمل فدائي عربي. ثم من يثبت لكم ان ابو عمار نفسه، الذي يتردد اسمه، ليس شخصاً تربطه علاقة مشبوهة باسرائيل او ان يكون هناك من يحركه من ضمن مخطط من هذا النوع؟ الا ترون ان الضرر الذي يلحق بالجانب العربي بعد هجماتكم يفوق الضرر الذي تلحقونه باسرائيل؟ هذا عدا ان القيادة العربية الموحدة شددت على ان يكون اي عمل من هذا النوع بالتنسيق مع القائد المحلي للجبهة في جيش البلد المعني وبعلمه كي لا تفاجأ قواته برد الفعل ولا شيء من هذا القبيل يحصل". هنا حصلت المفاجأة، اذ قال المعتقل: "انا ابو عمار". احتجت الى بعض الوقت لاعادة ترتيب افكاري. اعتذرت له عن تشكيكي بوطنيته، لكنني وقد تأكدت من خطأ تصوري لما خصه شخصياً طلبت اليه ان يشرح لي كيف يجيب هو على الواقع الذي اسلفت في عرضه؟ قال ابو عمار انه يعرف ان الاضرار التي تلحق باسرائيل ليست كبيرة لكنه يعتبر ما يحدث تدريباً للمقاتلين وانه لا يستطيع منذ البداية مهاجمة مقر القيادة العسكرية الاسرائيلية كي يلحق بها ضرراً يفوق ما تلحقه بالدولة العربية المضيفة. واضاف انه يشعر بالامتنان للدول العربية التي تتحمل نتائج العمليات مؤكداً ان كفاح الشعب الفلسطيني سيتصاعد. كانت المجموعة قيد الاعتقال في مركز تابع لپ"الشعبة الثانية" قرب المستشفى العسكري. سوينا المسألة وافرجنا عن المعتقلين. ومنذ تلك اللحظة بدأنا بالتعامل مع المقاومة الفلسطينية كحقيقة واقعة واخذنا بالتحسب لما يخبئه لنا المستقبل من مصاعب لا ريب آتية. هناك تهمة توجه الى "الشعبة الثانية" وهي الافراط في القسوة في التعامل مع سكان المخيمات الفلسطينية وذكر ان شخصاً من آل كعوش مات تحت التعذيب؟ - انك تسألني عن احداث وقعت من ثلاثين سنة او اكثر وليست بين يدي ملفات ارجع اليها. حادثة كعوش لم اعد اذكر تفاصيلها انما حتماً لم يمت تحت التعذيب. كان لدينا في كل مخيم عنصران من الشعبة الثانية بلباس عسكري او مدني ولم يكن وجودهما سرياً. نعم حصلت توقيفات. واحيانا كانت الاحداث تبرر تشدد "الشعبة الثانية". لا انكر ان تجاوزات حصلت لكنها اقل بكثير نوعاً وحجماً من الاتهامات التي اطلقت. بعد 1967 تغيرت صورة الوضع كلياً. صار كل فلسطيني يعتبر نفسه ابو عمار. وعندما بدأنا التنسيق صارت المقاومة تطالب بالسماح لها باعداد عناصرها لمواجهة الهجمات الاسرائيلية ضد المخيمات التي لم يكن الجيش اللبناني قادراً على ردها. هنا تغيّر وضع الشعب الفلسطيني وبدأ وضع المخيمات في التغير. هل بدأتم الاستعداد لمواجهة محتملة مع المقاومة؟ - طبعاً لكننا كنا نعتقد ان هذا الصدام يجب الا يحصل لانه خطير بكل ابعاده. راهنا على التنسيق والمعالجة المستمرة مع معرفتنا بصعوبة ضبط المسائل، واملنا ان يكون الاردن المسرح الرئيسي لانطلاق عمليات المقاومة ومتنفساً يسمح لنا بمطالبتها بتوفير لبنان مما لا مقدور له على تحمله… وفي النهاية حصل العكس. قيل ان "الشعبة الثانية" سهلت في البداية دخول مجموعات فلسطينية مسلحة لاقامة نوع من التوازن بعد انتصار "الحلف الثلاثي" في الانتخابات؟ - اعوذ بالله. هذه تهمة مفبركة من ألفها الى يائها وهي من صنع مخيلة من بالغ في قدرة الشعبة الثانية وبحيث لم يعد يحدث ما تعجز الشعبة الثانية عن منعه فاذا حصل يجب ان تفتش اذن عن تفسير لجهة كيف يصب ذلك في مصلحتها. هيدا صف حكي لا ينطلي الا على السذج. اذ لا يعقل ان يخرج الامر عن ارادتها. اتفاق القاهرة حصلت تظاهرة 23 نيسان ابريل 1969 ووقعت صدامات مع الجيش والقوى الامنية اللبنانية تسببت في سقوط قتلى وجرحى واندلعت ازمة حكم وافترقت المواقف بين شارل حلو ورئيس الحكومة رشيد كرامي؟ - اعتقد ان المهم هنا ليس التفاصيل الامنية. كان هناك وضع متفجر وكنا كلما عالجنا مسألة تطرأ مسألة. الحقيقة اننا كنا امام ازمة لا يملك احد حلاً لها، لا شارل حلو ولا رشيد كرامي. كان هناك تعاطف مع المقاومة الفلسطينية. الاحزاب والقوى التي كانت مؤيدة لعبدالناصر باتت مؤيدة للمقاومة. الاحزاب اليسارية ايدت المقاومة ايضاً ووجدت الوضع مناسباً لهز هيبة النظام على امل تغييره. شاعت المطالبة باطلاق حرية العمل الفدائي. لم تكن الدولة راغبة في منع الفلسطينيين من ممارسة حقوقهم في العمل لاسترجاع ارضهم ولم تكن قادرة حتى ولو رغبت. ولم يكن في استطاعة الدولة القبول باطلاق حرية العمل الفدائي على مصراعيه لأن ذلك يعني اسقاط اتفاق الهدنة وهو الحماية الدولية الوحيدة لنا امام اسرائيل التي هزمت الجيوش العربية في 1967 وهي قادرة على زعزعة الوضع اللبناني. كنت امام كل مشكلة اذهب الى كمال جنبلاط، رحمه الله، وكان ينصح بالمعالجة والتروي. كان متعذراً جمع اللبنانيين حول قرار اطلاق حرية العمل الفدائي وكان متعذراً جمعهم حول قرار منعه الذي ما كان ليحظى بالتأكيد بأي دعم عربي. حصلت احداث 23 نيسان 1969 واتضحت معالم المأزق. وكيفية الخروج منه؟ - هنا جاءت النصيحة من فؤاد شهاب، وهي الاستعانة بعبدالناصر في محاولة العثور على حل. اعتبر شهاب ان عبدالناصر يعرف حساسية الوضع اللبناني ويفهم منطق الدولة ومخاوفها ويملك في الوقت نفسه سلطة معنوية لدى المقاومة الفلسطينية والتيار اللبناني الداعم لها. هل ولد "اتفاق القاهرة" من هذا المنطلق؟ - لم يخطط لشيء اسمه "اتفاق القاهرة". ارسلت لجنة لاجراء محادثات تمهيدية في القاهرة. كان رشيد كرامي يقول، وكانت لقاءاتي معه متواصلة، انا مستعد للعودة الى ممارسة عملي لكن وفق صيغة متفق عليها للتعامل مع المقاومة الفلسطينية. كان يريد صيغة لا تسمح للافرقاء الآخرين بالمزايدة عليه فلسطينياً وعربياً. تدهور الوضع كثيراً ودخلت وحدات من جيش التحرير الفلسطيني الاراضي اللبنانية آتية من سورية واشتبكت مع الجيش اللبناني، وتسارعت الاحداث. تشكل الوفد للمحادثات برئاسة الرئيس رشيد كرامي وعضوية قائد الجيش العماد بستاني والامين العام للخارجية نجيب صدقة وسامي الخطيب من الشعبة الثانية. والحقيقة ان الخيار كان اصلاً بأن يكون رئيس الاركان الزعيم اول شميط هو العضو العسكري في الوفد، لكنه تردد كثيراً حين طرح اسمه. غادر الوفد من دون كرامي وبغرض اجراء محادثات تمهيدية. وبالفعل كان اميل بستاني وصدقه يرسلان يومياً الى القصر تطورات المحادثات. في النهاية بدا ان الامور نضجت وبدأ الحديث عن سفر كرامي للتوقيع لكن بستاني الذي كان قد اعطى لنفسه منذ بدء المحادثات صفة رئيس الوفد، العائدة اصلاً لكرامي، سارع الى التوقيع خلافاً لما طلب منه وربما ليوظف ذلك لاحقاً في طموحاته الرئاسية. لم ينظر احد من المسؤولين اللبنانيين الى "اتفاق القاهرة" باعتباره انجازاً عظيماً، لا الرئيس حلو طبعاً ولا حتى الرئيس كرامي. واستهول الجميع السلاح الذي يعطيه الاتفاق لاسرائيل لجهة ما ينم عن تبني لبنان رسمياً امر تسهيل العمل الفدائي. وتساءلوا لماذا ذهبنا الى القاهرة؟ عوضاً عن توظيف مساندة عبدالناصر لأخذ تنازلات من الجانب الفلسطيني اذ بنا نسلم نحن بما لم نكن نسلم به في بيروت. تقرر اعتماده على الصعيد الرسمي وكأنه لم يكن، ولم يعرض على المجلس وراح كل فريق يفسره على ذوقه. هناك مسألة تستحق الذكر وقد رواها لنا الرئيس حلو. بعد عودة بستاني استقبله حلو وعاتبه على الطريقة التي تصرف بها ولما انتهى من عتابه حاول تخطي الموضوع وقال للبستاني: "طيب انا نسيت ما حصل ولنبدأ العمل الآن". فرد بستاني: "لكن انا لم انس". وقال حلو لنا: لم اعد اعرف آنذاك من منا الرئيس. هل اعترض بعض كبار الضباط على الاتفاق؟ - لا، في ايامنا كانت القيادة قيادة والجيش جيش. هل ظهرت بوادر انقسام داخل الجيش؟ - لا. طبعاً كان الوضع العام ضاغطاً لكن الجيش كان موحداً في حين كانت القيادة السياسية مرتبكة. لماذا احيل بستاني الى التقاعد؟ - هو الذي اوصل نفسه الى هذا الموقف. كانت لشارل حلو مصلحة في البداية في تعزيز موقع بستاني وفي اطار الرغبة في الخروج من ظل فؤاد شهاب. انا ساهمت في ابقاء صورة شهاب كملاذ لجميع العسكريين حاضرة. وتحدثت في ذلك مع بستاني عندما فاتحني ذات يوم بأنه يريد ازاحة شميط من رئاسة الاركان لمجرد شعوره ان الاخير يتزعم الخط الشهابي في الجيش. قلت للبستاني الحل ليس ان تزيح شميط بل ان تذهب انت الى النبع اي الى شهاب نفسه. وهكذا حصل وذهب ابعد في النصيحة اذ طلب من الرئيس شهاب لاحقاً ان يخصص له موعداً لزيارة اسبوعية كي يطلعه دورياً على سير الامور داخل المؤسسة ويتزود بتوجيهاته وكان له ذلك. ساد جو من الانسجام داخل المؤسسة على كل الصعد وطيلة سنوات تمرس بستاني بقيادة الجيش. الطريقة التي تصرف فيها بستاني في القاهرة ورغبته في قطف ثمارها عربياً لتولي رئاسة الجمهورية احدثت شرخاً في علاقاته مع شارل حلو. انا من جهتي كنت اعتبر ان الجيش يجب ان يبقى بعيداً عن ممارسة السلطة السياسية. الظروف التي فرضت شهاب مختلفة واستثنائية. اذا سمحت بتكرار السابقة تصبح قاعدة ويصير كل قائد للجيش مرشحاً في صورة تلقائيه لرئاسة الجمهورية وتتأثر تصرفاته في القيادة بهذه التطلعات الاسبوع المقبل: الميراج ومحطات أخرى