عقب انتهاء السنة الاولى من ولايته، سأل الرئيس شارل حلو صديقه تقي الدين الصلح عن رأي الناس في حكمه. وحاول تقي بك التهرّب من الجواب تفادياً للإحراج، وقال انه لا يجوز تقويم أداء الرئاسة قبل مرور سنتين على ممارسة الحكم. ولما أصرّ الرئيس على معرفة وجهة نظر الشارع، بادره تقي الدين باطلاق مصارحة جريئة عبّر فيها عن قلق الناس وتشاؤمهم. قال له ان لبنان في الماضي كان وطناً مُنتدَباً ومواطناً حراً... اما اليوم فأصبح وطناً حراً ومواطناً مقيداً بنظام غير منتظم وعدالة غير عادلة. وعلى الفور تناول الرئيس حلو عن مكتبه قلماً وورقة، وطلب من تقي الدين ان يعيد على مسمعه العبارة المفيدة لأنه أُعجب بصياغتها ومعناها. وضحك تقي بك من الطلب المفاجئ وعلّق مازحاً: ارجوك، يا فخامة الرئيس، ان تترك الكتابة بعد اليوم لأمثالنا… وان تتفرّغ انت لشؤون الحكم. تختزل هذه الواقعة حال انعدام التوازن الوطني في عهد الرئيس شارل حلو بسبب صعوبة تكيّف الاديب والصحافي مع مسؤوليات الحاكم السياسي. ذلك انه كان دائماً يخضع قراراته الصعبة لمنطق الفيلسوف والمؤرخ والشاعر والصحافي قبل ان يقرر حسمها بمنطق رجل الدين ورجل القانون ورجل السياسة المؤتمن على سلامة المؤسسات الدستورية. وبسبب غزارة علمه وسعة اطلاعه كان دائماً يستعير من احداث التاريخ أمثلة لدعم وجهة نظره، الأمر الذي يفرض عليه تأجيل اهم القضايا واكثرها إلحاحاً. وحجّته ان إرجاء الحلّ الصارم أفضل من ارتكاب الخطأ الفادح. وبناء على هذه النظرية مارس الرئيس الراحل شارل حلو دوره السياسي بتأثير من ثقافات متعددة حاول اقحامها في تقرير مصير البيئة اللبنانية المعقّدة. وكان يحسد صديقه الشاعر الرئيس ليو بولد سينغور كيف استطاع ان يخرج من الحكم من دون إراقة نقطة دماء، علماً بأن المناخ السياسي في افريقيا لا يسمح للمثقفين من أمثاله بممارسة سلوكيات القيّم المترفة. كما كان يحسده ايضاً على تطويع اللغة الفرنسية بطريقة مرنة يصعب على اي فرانكوفوني آخر تقليده او محاكاته، إن كان من حيث سلاسة الاسلوب او من حيث انتاج الصياغة. والثابت ان الرئيس اللبناني الرابع نجح في ابراز شخصيته الثقافية على حساب شخصيته السياسية، متخطياً بذلك القاعدة المألوفة التي تستند اليها معايير الحكم في العالم العربي. وكان يردد امام زوّاره ثناء الجنرال شارل ديغول على خطابه في قصر الاليزيه، معتبراً مديحه وساماً من قائد تاريخي لم يخف الرئيس اللبناني اعجابه بمواقفه وسلوكه. بعد وفاة الرئيس شارل حلو هذا الاسبوع، تباينت الآراء والتعليقات حول اهمية دوره في مرحلة بالغة الخطورة، مهّدت للانفجار الكبير عام 1975. ورأى البعض انه نجح في استنباط حلول موقتة اعتُبرت كافية لانتزاع فتيل الفتنة وتعطيل الألغام المزروعة في طريقها. بينما رأى فريق آخر انه فشل في تطويق الأحداث، وأرجأ توقيت المجابهة الى حين وصول خلفه الرئيس سليمان فرنجيه. وكان يردّ على هذه الانتقادات بالقول ان معالجته المتأنية الهادئة اثناء اندلاع حرب 1967، أبعدت عن الحدود اللبنانية مخاطر الاجتياح الذي تعرضت له كل دول المواجهة. وبحسب تقديره فإن اسرائيل كانت تتهيأ لاقتحام الجنوب قبل احتلال مرتفعات الجولان. ويشهد على تلك الفترة الحرجة الإلحاح الذي أظهره سفيرها في الاممالمتحدة رفائيل جدعون اثناء مطالبته باعلان موقف لبناني صريح من الحرب الدائرة في المنطقة. وبعث وزير خارجية لبنان جورج حكيم من نيويورك بسلسلة برقيات مستعجلة ينصح فيها الدولة بضرورة الانضمام الى الهجوم العربي خشية اتهامها بالتقاعس والتخاذل. واتصل الرئيس حلو يوم السابع من حزيران يونيو بالسفير الاميركي في بيروت الذي أطلعه على حقائق انهيار الجبهتين المصرية والاردنية، وأخبره عن وقائع تدمير السلاح الجوي في المطارات الحربية المصرية. وبعد قلق متواصل عاشته وزارة الخارجية والقصر في ظل اجواء الانتصار العربي الوهمي، قرر الرئيس حلو صوغ البرقية الرسمية التي قُدّمت الى مجلس الأمن كشهادة على موقف لبنان الملتزم تطبيق اتفاقية هدنة 1949... والمتعهد الشراكة في منظومة الدفاع العربي المشترك. ويعترف سفير اسرائيل جدعون وسفير اميركا في حينه أرثر غولدبرغ بالعجز عن فهم فحوى الرسالة، وما اذا كانت صياغتها الملتبسة تشير الى اعلان عن دخول لبنان في الحرب… أم الى التشبّث باتفاقية الهدنة. وبناء على صياغة برقية الغموض والالتباس رأى شارل حلو ان الوضع العسكري المرتبك يحتمل التأويلين لذلك أخفى حقيقة الموقف بغلاف ديبلوماسي محاذر لأن النتائج المترتبة على الانتصار الاسرائيلي او الهزيمة العربية ستقوي التيارات العاصفة في محيط مناهض لأميركا والدولة العبرية. وفي حديثه الى مجلة "الوسط" مطلع الصيف الماضي، اعترف بمسعاه الى "تجنيب لبنان الانضمام الى نادي مشوّهي الحروب العربية - الاسرائيلية". وقال انه تعلّم من استاذه الروحي ميشال شيحا ان مهمة المسؤول منع الحجج عن العدو الاسرائيلي وعدم اعطائه الذرائع للعدوان. ولكن هذا المنطق لم يقنع العميد ريمون اده الذي كان يطالبه دائماً بضرورة اتخاذ موقف حازم حاسم يمنع عن الدولة مخاطر السقوط في لجة الفراغ السياسي. ولقد انتقده بقسوة اثر العملية الاسرائيلية في مطار بيروت كانون الاول/ ديسمبر 1968 وتدمير ثلاث عشرة طائرة. وقال في البرلمان ان قيادة الجيش تخلت عن واجبها الوطني عندما امتنعت عن اعطاء الاوامر بالردّ على العدوان. كما انها في الوقت ذاته، منحت المقاومة الفلسطينية فرصة التقدم لملء الفراغ الامني والدفاع عن مواقع كان من المفروض ان يدافع عنها الجيش النظامي. وتوقع ريمون اده في خطابه تزايد القلق والتوتر بسبب تخاذل الدولة، وبسبب تزايد اعداد المتظاهرين المؤيدين للعمل الفدائي. وفي وقت لاحق وقع صدام بين قوى الامن والمتظاهرين 23 نيسان/ابريل 1969 انتهى بسقوط قتلى وجرحى من الطرفين، وباستقالة الرئيس رشيد كرامي وحكومته. واستخدم شارل حلو للدفاع عن قرار السكوت على الاعتداء، حجّة السفير الاميركي الذي نصحه بالتروي قبل الاقدام على مغامرة عسكرية ربما تنتهي بتدمير مبنى المطار لأن البوارج الحربية الاسرائيلية متأهبة للانتقام الفوري. واستنفر الرئيس دفاعاته الثقافية لتبرير قراره السياسي، وقال ان المفكّر ألبير كامو كتب يقول ان عدم الفعل في بعض الحالات، يكون اقوى من الفعل. وعليه قرر تجنيب بيروت مخاطر فعل سيؤدي، حسب رأيه، الى توسيع دائرة الدمار والخراب! ولكن الأحداث المتراكمة خذلت الرئيس حلو، وأوقعته في أزمة حكم نتجت عن انقسام الرأي حول استقالة رشيد كرامي المعلّقة طوال سبعة اشهر. ولم تنفرج الأزمة إلا بعد توقيع اتفاق القاهرة الذي ظهر كمحاولة يائسة لتعويم حكم منهار. وقيل في حينه ان الاتفاق الذي تنازل فيه لبنان عن سيادة قطعة من ارضه لمصلحة العمل الفدائي، كان تعبيراً عن تفاقم النزاع الاهلي عكس شلل الدولة بسبب غياب السلطة التنفيذية. ويبدو ان الرئيس حلو لم يكن يتوقع حجم ردود الفعل التي واجهه بها الزعماء المسيحيون بدليل انه تبرأ من الاتفاق ومن التبعات التي حمّله إياها العماد اميل البستاني. ولقد أوحى في كل تصاريحه بأن البستاني تفرّد بالقرار لأسباب تتعلق بطموحاته السياسية، وان عبدالناصر ومحمد فوزي ومحمود رياض وسامي شرف تعاونوا على صياغة الاتفاق. ويقول العماد البستاني ان الرئيس أرسله في هذه المهمة الصعبة، وقال له حرفياً: "يا اميل، تذكّر وانت في القاهرة، وصول اكثر من خمسين مراسلاً اجنبياً حلّوا في فندق السان جورج، وجاؤوا للكتابة عن احتضار لبنان والقاء نظرة اخيرة عليه. لذلك اطلب منك ان تنقذ ما يمكن انقاذه". وبناء على هذه التوصية، قام البستاني بتنفيذ المهمة، تاركاً لرئيس الجمهورية حرية التسليم بصلاحيتها القانونية، خصوصاً وان البند 13 ينصّ على "ان السلطات اللبنانية تستمر في القيام بمهامها في جميع الظروف". في اكثر من مناسبة حافظ شارل حلو على فكرة نقد الذات كنوع من الكفّارة عن ذنوب اتفاق القاهرة. ولكنه في الوقت ذاته ظل يردد سؤالاً ملحاً لم يجد له الجواب الشافي: هل كان هدف المقاومة الفلسطينية من الاساس تغيير اسلوب الصراع مع اسرائيل، أم تغيير لبنان تحت ستار الحرب ضد لبنان؟ والمؤكد ان الأحجيتين واكبتا تطور تفكيره السياسي بحيث انتهى عام 1968 الى البحث عن خلاص للبنان في ضمانات الحياد مثل سويسرا والنمسا. ولقد عهد الى فريق من اصدقائه المحامين الى وضع دراسة عن امكان تنفيذ خطة لتحييد لبنان قبل ان يزيله الصراع العربي - الاسرائيلي. واصطدمت الفكرة بمعارضة العروبيين والناصريين الذين رأوا ان بقاء لبنان لا يكون إلا بانتمائه الى محيطه وليس بالانسلاخ عنه والدوران في فلك آخر. والمؤكد ان تجارب الحكم أقنعته بأن الوحدة الوطنية هي سلاح لبنان السري، وبأن استفراد فريق واحد بقرار المصير سيمزّق كل خيوط النسيج الوطني. وهذا ما أوحت به أحاديثه إثر خروجه من الحكم، وانصرافه الى التأمل ومراجعة الأحداث الجسام التي تميز بها عهده. وأذكر انني زرته في دارته في الكسليك مع وفد من الصحافيين جاء للاستيضاح عن احتمالات تنفيذ خيار التقسيم. وكانت هذه الموجة الطاغية تتزايد حدتها اواخر عام 1976، بحيث اصبح هذا القلق همّاً شعبياً وسياسياً لدى الجميع. وأعطى احد المراسلين واعتقد انه كان اريك رولو جواباً مقنعاً إذْ حدّثه عن واقعة جرت في بيروت خلال الخمسينات، ومفادها ان رجلين من عائلتي سنو والخوري اتفقا على شراء جواد استخدماه في سباق الخيل. وبقي الاثنان يتقاسمان الارباح والخسائر كأي صديقين ناجحين. وبعد شراكة دامت سنوات عدة اختلف الرجلان وقرر احدهما التخلص من حصّته في الجواد عن طريق اطلاق النار على النصف الذي يخصّه. وقبل ان ينفّذ تهديده زاره الشريك الآخر ليقول له ان اطلاق النار على حصّتك يعني موت الحصان كله بما في ذلك حصّتي. وعندما روى شارل حلو هذه الواقعة التفت الى السائل وقال له: من المستحيل تنفيذ خيار التقسيم لأن موت نصف لبنان يعني موت الوطن كله! والملاحظ ان السياسي في شارل حلو قد انتصر على الأديب، وان مؤسسة ميشال شيحا التي كان يترأسها قد عوّدته على مراجعة مختلف القرارات التي اتخذها اثناء وجوده في الحكم. خصوصاً ما يتعلق منها بالقضية الفلسطينية. لذلك فهو يعتبر ان هذه القضية لن تجد الحل التاريخي العادل، لأنها تمثّل خلاف الأنبياء في السماء يصعب على أهل الأرض اكتشاف حلّ مرض لها... * كاتب وصحافي لبناني.