نعيم الشامي منذ عام 1969 ولبنان لا يكفّ عن التمزّق والتلاشي كدولة وكمجتمع. خمس عشرة سنة من الحرب الأهلية، تَلَتْها خمس عشرة أخرى من الاحتلال السوري فعشر من النفوذ الإيراني، كانت كلها كفيلة بإنهاء الدور الحضاري للبنان وأفول إشعاعه الإقليمي. لبنان الذي كان روضة من الديمقراطية الواعدة والجمال والثقافة لأبنائه وللجوار، بات همّا إقليميا ومرتعا لكل نزوة ميليشوية. وبعد خمسين سنة امتدت من عام 1920 (مع تأسيس الدولة) حتى عام 1970، كان خلالها الهمّ الأول لأهل الحكم هو تثبيت الدولة وحماية لبنان من أي ارتدادات إقليمية، دخلنا منذ الحرب الأهلية حتى اليوم في أربعة عقود دأب خلالها أهل الفوضى إلى ضرب الدولة وتقويض هيبتها، وإقحام لبنان في كل الصراعات والمخاطر. النتيجة أن لبنان انتهى به الأمر طَبَقا يحْضُر دوما على طاولات التسويات، ومجرّد ملفّ شرق - أوسطي يقبع في حقائب الدبلوماسيين الذين يزورون المنطقة شأنه شأن الصومال وجنوب السودان وقبرص الشمالية. نريد لوطننا أن يعود إلى جادة الصواب. أي إلى الحياد. لأن دولة صغيرة كلبنان لا ولن تغيّر في الحسابات الكبرى، ولم يأتنا التاريخ بمَثَل دولة متواضعة قلبت موازين لعبة إقليمية أو دولية. هذا ما ارتأته الحكمة السياسية في بلاد كبلجيكا الواقعة بين جارتين لدودتين هما فرنسا وألمانيا، والبرتغال إزاء كل من إسبانيا وإنجلترا، وأرمينيا التي تمزقت بين روسيا وتركيا. إن الحياد الذي نرتضيه للبنان لا يعني استقالة من واجباتنا تجاه الجوار العربي ولا أن ندير ظهرنا لشجون الأمة. إنما لا نملك إلا أن نُنْزِل من على المنبر كل من يعتليه ليطالب بتحرير فلسطين من لبنان وحده، أو ليصارع دولاً لا يعدو لبنان أن يكون شارعا فيها، كل ذلك فيما مليارا مسلم باتت أولويتهم تحقيق الرفاهية والتنمية لشعوبهم دونا عن أي تطلعات دون - كيشوتية. وفي مذكرات الجنرال إميل البستاني، قائد الجيش اللبناني الذي كلّفه رئيس الجمهورية شارل حلو في سنة 1969 توقيع اتفاق القاهرة مع منظمة فتح برعاية الرئيس المصري جمال عبدالناصر، ما يعكس حال الامتعاض العام وقتها من انفلاش السلاح الفلسطيني في كل أرجاء لبنان، حيث بادر الجنرال بستاني مسؤولي المنظمة بعبارته الشهيرة: «لقد استقبلناكم ضيوفا في الصالون، فيما تصرّون أن ترافقونا إلى غرفة النوم». لم يكن هذا ليحصل لو لم يجد الوافد الفلسطيني (المرحّب به دوما كلاجئ) أحدا من أهل البيت يقحمه في خلافاتهم الداخلية، بما فيها الحميمة منها. وقد وصل الترحيب، غير المفهوم، برئيس الحكومة آنذاك، السيد عبدالله اليافي، بأن بات يهتف من على شرفات بيروت بأن «كلنا فدائيون». كم نفتقد زمنا كان فيه حاكمُ لبنان رأس حربة مناعة الوطن. إذ يروي لنا المستشرق الفرنسي جيرار دو نيرڤال عن زيارته للبنان في عام 1840 أنه سمع رواية كان أهل الجبل يتناقلونها مفادها أن اثنين من جبل لبنان، أحدهم درزي والآخر ماروني، تساءلا يوما حول حقيقة ديانة أمير لبنان، فانبرى كل واحد بتقديم شواهد ومعطيات تفيد بانتماء الأمير إلى ديانته؛ فمرّ بهم ثالث من ديانة ثالثة فأكد لهم أن الأمير ليس من هذه أو تلك، بل هو مسلم صميم. فلما علم الأمير بشير الشهابي بهذه المناظرة الهدّامة، انتفض قائلا: «هؤلاء إذاً ثلاثة من عامة الناس يتدخلون بما لا يعنيهم وبما لا يفيد أحدا على الإطلاق. فلينالوا عقابهم». وبانتهاء زمن الحكم الأميري في لبنان ودخولنا المنظومة الطائفية من بابها العريض، بات من الثابت إدخال جميع صراعات المنطقة في الاصطفافات الطائفية في لبنان، مما يسبب انفجارا شاملا يرمي بلبنان على قارعة الشرق الأوسط يستجدي الهدنة ومن يبني له مدنه وقراه. قد عشنا من العمر قرابة نصفه وقد نمضي عن هذه الدنيا دون أن نرى ولادة لبنان الجديد، الرائد حصرا في الفكر والإبداع وصنع السلام. وحيث إنه ليس لنا سوى هذا القلم اليتيم نخطّ به طموحاتنا، ونبررها، ولأننا لم نعتَدْ سوى الكتابة في ممارستنا لحقّنا بالتعبير، فلن نكفّ عن المطالبة، حتى الرمق الأخير، بأننا نريده بلدا محايدا.