موضوع التوالي وتوارث الحكم في الكويت موضوع خاص بالاسرة الحاكمة من غير المستحسن الخوض فيه على المستوى العام بإلحاح يماثل ما يشهده بلد مفتوح كالكويت في ما يتصل بشؤونها وشجونها الاخرى "المفتوحة على البحري" - حسب التعبير الدارج - اعلامياً في ظل نظام سياسي من سماته الجدل الصاخب، على رغم الضيق به احياناً، وهو ما افضى لحل مجلس الامة مرتين خلال عشر سنوات، غيبتا الانتخابات سنوات متصلة، ومرة ثالثة التزمت نص الدستور باجراء الانتخابات وهو ما حدث العام الماضي. وساهم بايجاد الخصوصية الكويتية الصاخبة على امور لا تستحق سمات النظام السياسي السائدة، فلا وجود رسمياً للاحزاب، وبالتالي فان كل نائب من اعضاء مجلس الامة الخمسين يعتبر حزباً قائماً بذاته، له برنامجه ورؤيته الخاصة في معظم الحالات، وبما يغطي جميع الامور الخاصة بالشأن الكويتي محلياً وخارجياً. وليس من قبيل المبالغة القول بأن التيارات السياسية الكويتية يكفيها او انها معتادة عملياً وواقعياً على ان تتمثّل برلمانياً بنواب لا يتجاوز عددهم اصابع اليد او كلتا اليدين في افضل الحالات، فالحركة السلفية لا يمثلها اكثر من نائب، والمنبر الديموقراطي اليساري التوجه يمثله نائبان، والتجمع الديموقراطي الليبيرالي التوجه لا يريد القريبون منه القول بأنه تنظيمهم، والتجمع السلفي يمثله نائبان فقط، و"الاخوان المسلمون" او "الحركة الدستورية" - كما هو التعبير الأدق - يمثلهم بضعة نواب لا يزيد كالتزام معلن وصريح عن خمسة… وهكذا. هذا الوضع افرز خصلتين طبعتا الحياة البرلمانية الكويتية، فحتى تنشأ مشاغبة سياسية لافتة او محرجة تفضي الى ازمة سياسية فإنه يكفي وجود نائب واحد، او اثنين او ثلاثة على ابعد تقدير لقيادة حركة شغب سياسي متعددة الوجوه، تقود اما لحل مجلس الامة او تعديل الحكومة! اما الخصلة الثانية فهي التصويتية، فخمسة اصوات اسلامية كانت كافية لترجيح كفة جاسم الخرافي للمجلس على ندّه البارز احمد السعدون، وهذا "البلوك" التصويتي على ضآلة عدده يكفي لاحباط اي توجه عام بقياسات الغالبية الخاصة والغالبية المطلقة، فالمؤثرات التصويتية لا تحكمها معايير ثابتة، فهناك مفهوم القبلية، وهو مفهوم يقف مسانداً للانتماء السياسي، ولكن في خاصته القبلية، اذ ان النواب يمثلون احياناً توجهات سياسية، لكن الفوز غير مضمون سواء أكان ليبرالياً أم اسلامياً أم من اي توجه. والقدرة التصويتية في كل من الدوائر الخمس والعشرين في الكويت تخضع لعامل حازم وحاسم يؤثر على مواقف النواب من اي توجه كانوا. هذا العامل يتبلور في ما يراوح بين 100 و200 صوت ملتزم على ابعد تقدير، وهي اصوات موزعة ضمن حلف بارز يقوده التيار الاسلامي وبشكل اوسع ضمن تداخله القبلي وهو "بلوك" اصوات يكفي لاسقاط او انجاح اي اسم سياسي. ويسهل التدليل على هذه الحقيقة كون الفارق العملي بين الفائز بالموقع الثاني في اي من الدوائر. هذه المعادلات والسمات تجعل من الوضع السياسي العام تقليدياً ومفهوماً لمن يراقبه في شتى وجوه تقلباته، لكن العودة الى البداية هي الحساسة والحاسمة، لانها ترسم ملامح حركة توالي التوازن والاستقرار في الاسرة الحاكمة التي تعد واحدة من أعرق الأسر الحاكمة وأقدمها على المستوى العربي، اذ تدير شؤون الكويت منذ اكثر من قرنين. ولا ينفي تنزه الاسرة الكويتية عن الخلافات المتأججة ان هناك ملامسة مع الوضع السياسي المحلي على المستويات العامة، فعلى المكشوف وبصورة صريحة تماماً تساءل نائب رئيس الوزراء وزير الدفاع الشيخ سالم الصباح عندما ألح عليه صحافيون مقرّبون ونواب تابعون للمنبر الديموقراطي خلال زيارته مقر صحيفتهم الاسبوعية "الطليعة". لماذا تسألون عن تصويت خلف العنزي ضد حقوق المرأة السياسية بينما لا يوجه هذا السؤال الى موقف طلال العيار؟ ولعل هذه مداعبة من العيار الثقيل في الكويت، فالمفهوم ان خلف العنزي احد النواب المحسوبين على الشيخ سالم، اما العيار فهو خال الشيخ صباح الاحمد. ففي المستوى العام يلاحظ المراقبون ان افراد الاسرة الحاكمة غير موحدي المواقف حيال دعم الوجوه النيابية والانتخابية، فقد يدعم احد الشيوخ مرشحاً، بينما يدعم شيخ آخر ندّه اللدود في الدائرة نفسها، وهو ما يعكس التنافس القائم بصورة "ناعمة" على المواقع الاولى في تسلسل الوراثة، خصوصاً ان هذا التسلسل غير محكوم بقاعدة ثابتة، طالما ان توارث الامارة يأتي من صفوف اسرة عريقة هي ذرية مبارك الكبير الذي يُنظر اليه بوصفه مؤسس الحكم الحديث في الكويت حتى ما قبل مرحلة الاستقلال التي بدأت بعده ببضعة عقود. والتنافس بدا واضحاً جداً منذ فترة، بل كان شغل الاوساط الكويتية بشكل جلي خلال شهر رمضان المبارك الماضي، وربما كان احد اسبابه المباشرة ما أُثير حول مرض ولي العهد رئيس الوزراء الشيخ سعد العبدالله الصباح. وكان ابرز اطراف التنافس الشيخ سالم الصباح ومستشار الأمير الشيخ جابر المبارك الحمد الذي شغل في المرحلة السابقة للاحتلال العراقي منصب وزير الاعلام، وبرز الخلاف بين الشيخين اثر مقابلة مع الشيخ سالم نشرتها صحيفة "الرأي العام" تحدث فيها عن الوزراء والوجوه الجديدة للاسرة الحاكمة، ثم عرج على موضوع وراثة الحكم، مشيراً الى ان وصية مبارك الكبير "واضحة، وتنص على ان اكبركم أعقلكم والحكم شورى بينكم والرأي جماعي وهناك سلسلة احداث وتواريخ محفوظة اثبتت ان اكبركم اعقلكم… وصية والدنا واضحة ونحن نسير وفقاً لما جاء في هذه الوصية". واضاف: "لا يوجد صف ثان ونحن لسنا صفوفاً، ولكن اكبركم اعقلكم وهو حاكمكم والامر شورى بينكم… ولا يوجد صف ثان ولا ثالث ولا رابع… هناك جيل الشباب". بعد بضعة ايام نشرت صحيفة "القبس" مقابلة مُعدّة مسبقاً مع الشيخ جابر مبارك الحمد اكد فيها "أن الحكم منذ صباح الاول هو ارادة اهل الكويت، واختيارهم ومبايعتهم وتزكية العائلة"، نافياً وجود وصية لمبارك الكبير، "لا من والدي وهو كبير ذرية مبارك ولا من غيره"، وذكر ان الأمير طوّر اسلوب اختيار ولي العهد بين اكثر من اثنين. وشدد على "ان من يحمل المسؤولية يجب ان يحظى بقبول اهل الكويت وتزكية العائلة وان هذا ما أملته صيغة العقد الاجتماعي بين الحكم واهل الكويت واملته الصيغة السياسية المُتفق عليها منذ تأسيس الكويت… وليس من عاقل يقبل الحياد عنه او الخروج عليه". واضاف: "ان الحكم امانة اوكلها الينا اهل الكويت نتداول اعباء حمل مسؤولياتها وليس ارثاً نتناقله ونتوارثه ونتصرف به كما نشاء". وتابع الشيخ جابر: "ان ما جرى التعارف عليه منذ عهد الشيخ مبارك الكبير هو ان نختار الاكثر كفاءة والاكثر قبولاً عند اهل الكويت. هذا هو المهم". ولكن من الظلم ان يحصر الامر في حديث سالم الصباح، واعتباره كمن يتحدث عن نفسه تحديداً، فقد قال في المقابلة نفسها: "لا يمكننا ان نضحي بالحكم بهذه السهولة… الشباب الناجح الذي يمكنه ان يخدم الكويت واهلها سنقدمه لانه سيكون حاكم المستقبل ولذا يجب ان يكون الرجل المناسب في المكان المناسب". وبالطبع فان الشيخ جابر الحمد لم يقل صراحة ان حديثه يمثل رداً على الشيخ سالم، لكن الاخير عندما سئل خلال زيارته لمجلة "الطليعة" عن تناقض تصريحاته حول وصية مبارك الكبير مع تصريحات الشيخ جابر قال مبتسماً: "يعني ما تعرفون فهو الصادق" وحرص على ان يردف: "اعذروني اذا امتنعت عن الحديث في هذا الموضوع". وهكذا بدا الامر كأنه سجال، ففي مقابل نفي وجود وصية لمبارك فان هناك عتاباً باسماً وتساؤلاً بلا جواب عمن يكون الأكثر دقة. غير ان موضوع الحكم اضحى مطروحاً لجهة اصطفاف التوارث ان صحّت التسمية، خصوصاً ان الرموز المتقدمة بعد الأمير الحالي تدق ابواب السبعين او دلفتها فعلاً، فذات مرة ردّ الشيخ صباح الاحمد على استفسار في شأن ولده الشيخ ناصر صباح الاحمد في سياق موضوع عن ابناء الاسرة الحاكمة الشباب بأن ناصر "ليس شاباً كما تقولون او من الابناء. بل هو جد لديه حفيد الآن". فالشيخ صباح الاحمد الذي يأتي تالياً للشيخ سعد العبدالله دخل العقد السابع من عمره، وسالم الصباح تعدى الستين ببضع سنوات، وهكذا فان الجيل الذي يسمى ثانياً دخل مرحلة متقدمة من السن منذ التغيير الجوهري الذي شهدته الكويت بعد غياب الأمير الراحل الشيخ صباح السالم الصباح في نهاية السبعينات، حين تولى مقاليد الحكم الامير الحالي الشيخ جابر الاحمد الصباح الذي اختار بناء على تزكية الاسرة الحاكمة سعد العبدالله الصباح ولياً للعهد ورئيساً للوزراء بعد ان رجحت بضعة عوامل على الشيخ جابر العلي الذي توفي قبل سنوات، مع انه كان يحتل موقع نائب رئيس الوزراء ووزير الاعلام في الحكومة التي واكبت الأمير الراحل. ومع ان ظاهر الخلاف بين سالم الصباح وجابر مبارك الحمد مرّ بهدوء، الا ان كاتباً كويتياً بارزاً هو عبداللطيف الدعيج لم يترك المسألة تمرّ بهدوء عندما وصف الخلاف بأنه حرب معتبراً ذلك بأنه شأن كويتي عام "يجب ان تُسمع وجهة النظر الشعبية فيه". وقد رجح عدم وجود وصية لأن الواقع يدحض مضمونها اذ ليس خافياً على احد - يقول الدعيج - "ان ولاية العهد كانت محل تنافس حامٍ وقتها بين المرحوم الشيخ جابر العلي السالم وبين من هو اصغر سناً منه وهو سمو ولي العهد الشيخ سعد العبدالله سالم وقد حكم سمو الأمير ابناء العائلة الحاكمة فاختارت الاصغر سناً ومن بدا لأغلبها اكثر تأهيلاً لادارة البلاد اي ان موضوع السن لم يُطرح لا على سمو الأمير ولا على العائلة الحاكمة التي حرصت على تجاهله". وحتى بافتراض وجود وصية، فان دستور البلاد وقانون توارث الامارة نسخا هذه الوصية كما يقول الدعيج، اذ اصبح بعد عام 1962 "حقاً مشتركاً بين العائلة الحاكمة والأمة ممثلة بأعضاء مجلسها الذين كفلت لهم المادة الرابعة من الدستور حق المشاركة في اختيار ولي العهد والموافقة على تسميته". يذكر ان قانون توارث الامارة يعطي دوراً واضحاً لمجلس الامة، اذ اصبحت موافقة اعضائه وبغالبية الثلثين شرطاً اساسياً لاجراء اي تغيير في هوية الحاكمين. وتعالج المادة الرابعة من الدستور الكويتي مسألة الحكم باشارتها الى ان "الكويت امارة وراثية في ذرية المغفور له مبارك الصباح". وتقول في فقرتها الثانية "يعين ولي العهد خلال سنة على الاكثر من تولية الأمير ويكون تعيينه بأمر أميري بناء على تزكية الأمير ومبايعة من مجلس الأمة تتم في جلسة خاصة بموافقة اغلبية الاعضاء الذين يتألف منهم المجلس. وفي حال عدم التعيين على النحو السابق يزكي الأمير لولاية العهد ثلاثة على الاقل من الذرية المذكورة فيبايع المجلس احدهم ولياً للعهد. ويشترط في ولي العهد، ان يكون رشيداً عاقلاً وابناً شرعياً لأبوين مسلمين". لكن كثيرين يشيرون الى عرف ثقيل الوزن في مسألة التوالي على حكم الكويت ذلك انه منذ أمد بعيد لم يحكم الكويت الا أمير يكون إبناً لأمير. واذا ما حسبنا المسألة منذ مبارك الكبير فان ولديه سالم وجابر حكما من بعده، ثم حكم بعد ذلك احمد الجابر الذي هو والد الأمير الحالي ثم تلاه عبدالله السالم نجل سالم المبارك ثم شقيقه صباح السالم ثم اعطيت ولاية العهد لسعد العبدالله، وهكذا فان ولي عهد المستقبل يجب ان يكون إبناً لأمير. لكن هذه الحسبة لا يمكن ان تكون امراً محتوماً طالما انها تشمل اسرة عريضة ومرشحة للمزيد من التمدد العددي فالمزيد من ذرية مبارك الكبير، وليس جابر مبارك الحمد يتحدثون عن الحكم… فالشيخ احمد فهد الاحمد تحدث صراحة عن ان "قدرنا ان نحكم"، ومثله تحدث صراحة عن الحكم ومسؤولياته وواجباته الشيخ محمد العبدالله المبارك وهكذا على الخط نفسه فإن الأثر الثقيل لتعيين الشيخ ناصر صباح الأحمد مستشاراً لولي العهد الحالي كان يتمحور حول ان هذا التصعيد للرجل هو تهيئة له لكي يحتل منصباً ما متقدماً في مرحلة جديدة متوقعة او صارت تأخذ المزيد من الحسابات في هذه المرحلة حكام الكويت صباح الأول 1756 1763 عبد الله بن صباح 1763 1813 جابر بن عبد الله 1813 1859 صباح بن جابر 1859 1866 عبد الله بن صباح 1866 1893 محمد بن صباح 1893 1896 مبارك بن صباح الكبير 1896 1915 جابر بن مبارك 1915 1917 سالم بن مبارك 1917 1921 أحمد الجابر المبارك 1921 1950 عبد الله السالم المبارك 1950 1965 صباح السالم المبارك 1965 1977 جابر الأحمد الجابر 1977 دور بارز للأمير الحالي للأمير الحالي الشيخ جابر الأحمد هيبته في أوساط الأسرة والشارع السياسي عموماً... وبأسلوبه الهاديء والرصين والمترفع عن التفاصيل كان دائماً يملك تأثيراً واضحاً على الأسرة حتى في ظل الأمراء السابقين. وساهمت حصافته وبعد نظره ببناء أركان الدولة الكويتية الحديثة. وإذا كان البناء الدستوري عائداً للشيخ عبد الله السالم فإن البناء المدني والعمراني والمؤسسي للبلد تكرس في عهد جابر الأحمد، سواء بدوره كرئيس للوزراء أو وزير للمالية قبل ذلك أو خلال عهده الحالي الممتد منذ أكثر من عشرين سنة. ويظهر أن كلمة جابر الأحمد في شأن المستقبل ستكون المرجحة لترتيب الأوضاع، علماً أنه يحرص على التشاور مع رموز الأجسرة الكبار وهو وضع يتكرر عند الأحداث الكبرى التي تمر بها الكويت. ومع ان المعروف عن الشيخ جابر عدم إلحاحه في حسم خلافات لا تهدد استقرار الوضع الداخلي، كما حصل عند حصول الانقسام الواضح حول التطبيع مع ما كان يسمى دول الضد، فإن استمرار الأوضاع الكويتية مع هدوئها هو مؤشر على أنه ما من شيء يحتم الإسراع بالحسم، وبالتالي فلا مبرر للقلق.