ثلاث سنوات ونصف مضت على رياح الاصلاح التي عصفت بالمجتمع المدني في الجمهورية الاسلامية في ايران. ومهما كان الفارق كبيراً بين الطموحات الاصلاحية التي تبنتها "جبهة خرداد" وبين ما تحقق منها على مستوى السلطة وداخل المؤسسات فإن شيئاً وحيداً مؤكداً يبدو واضحاً: ان هذه "الرياح" ليست طارئة ولا موقتة ولا هي محدودة، لذلك فان الحرب بين الاصلاحيين والمحافظين مستمرة، وما معركة الانتخابات الرئاسية التي بدأت مبكرة سوى المؤشر الاكبر على فظاعة تلك الحرب. وعلى رغم ان رياح الاصلاح طاولت كل زوايا المجتمع المدني، فان اسئلة كبيرة تدور حالياً في ايران حول طبيعة النظام نفسه: ماذا عن المؤسسة الدينية في نظام يمنع الفصل فيه بين الدين والسياسة؟ هل هذا الجسم الديني الذي يشكل العمود الفقري للنظام ما زال محصناً خلف الاسوار ولم تطاوله رياح الاصلاح؟ وهل يمكن ان يتم الاصلاح داخل المجتمع المدني من دون ان يشمل الحوزات الدينية التي يديرها كبار علماء الدين ويتوزع عليها عشرات الآلاف من المشايخ وطلاب العلم؟ ما هي طبيعة الاصلاح المرجو والمطلوب داخل الجسم الديني الايراني؟ لقد وضع عدم فصل الدين عن السياسة في ايران رجال الدين في الصف الامامي من مواقع المسؤولية. واذا كان "الولي الفقيه" او "المرشد" هو رأس النظام، وهو حكماً من كبار رجال الدين نظراً الى الشروط المطلوبة في من يتولى هذا الموقع، فان نظرة شاملة تؤكد ان رؤوس السلطة الثلاثة الى جانب المرشد آية الله علي خامنئي هم ايضاً من رجال الدين: رئيس الجمهورية محمد خاتمي، ورئيس مجلس الشورى مهدي كروبي، ورئيس السلطة القضائية شهروردي، علماً ان معظم وزارات السيادة بيد رجال الدين وحين لا يرأس احدهم مؤسسة او هيئة فإن ممثل "المرشد" يتكفل بملء الفراغ. وانطلاقاً من هذا الحضور الطاغي لرجال الدين في الدولة الايرانية، من المستحيل ان تكون رياح الاصلاح قد عصفت بالمجتمع المدني الايراني، وجانبت المؤسسة الدينية، لأن الاصلاحيين لا يعينون الا من كان مثلهم مؤمناً متلزماً الخط الاصلاحي. لكن هذا يشكل جزءاً من حركة الاصلاح داخل الجسم الديني. ذلك ان همومه وقضاياه مختلفة عن هذا المجتمع نفسه، مع العلم بأن اكتمال الحركة الاصلاحية داخله تشكل تطويراً هائلاً، وعملية دفع عميقة ليست على مستوى ايران ونظامها وانما على مستوى العالم الاسلامي كله. فالمزاوجة بين التقليد والحداثة، كانت وما زالت في صلب عملية دخول هذا العالم ابواب القرن الحادي والعشرين! امام هذه الخصوصية لا يمكن الحديث عن حركة اصلاحية داخل الجسم الديني، من دون معرفة ماذا يحصل في الحوزات الدينية وفي مقدمها مدينة قم، حيث يزيد عدد رجال الدين والطلبة على ثلاثين الفاً، وتتبعها في ذلك حوزات مشهد واصفهان وتبريز. ويرى المتابعون لما يجري في هذه الحوزات ان عوامل عدة تساهم في دفع حركة الاصلاح هناك، وليس فقط ما يجري على صعيد اعادة بناء المجتمع المدني والاصلاح السياسي. انشقاق في قم وابرز المؤشرات على ان زلزالاً حقيقياً يضرب هذه الحوزات، ان انشقاقاً حصل قبل اكثر من عام بين مدرّسي الحوزة. فقد كانت "جامعة مدرّسي الحوزة العلمية في قم" تشرف وتدير الحوزة في قم، وتطل بقوة على قرارات الدولة في طهران، وكان رأيها حاضراً ويؤخذ في الاعتبار. شكّل الذين انشقوا عن "الجامعة" هيئة أطلقوا عليها اسم "جبهة مدرّسي الحوزة العلمية في قم". ويبلغ عدد المنشقين حوالي4500 من رجال الدين الشبان، ومن ابرز وجوههم: عبائي خراساني وموسوي تبريزي. اما الاسباب التي تقود الى عملية الاصلاح فتعود الى: - انفتاح الحوزات الدينية امام طلاب درسوا في مدارس المجتمع المدني. وبعضهم ممن اكمل دراسة جامعية، ثم جاء يستزيد العلم الديني ليكمل تجربته. والمعروف ان الذين مزجوا بين العلوم الدينية والعلمية والمدنية كانو يعدّون على الاصابع قبل الثورة. حتى ان الرئيس محمد خاتمي لم يتمكن من دخول الجامعة قبل اكمال دراسته الدينية بناء على إلحاح والده آية الله خاتمي. اما الرئيس السابق ابو الحسن بني صدر فقد أصرّ على دخول الجامعة قبل دخول حوزة قم ولذلك بقي سنوات طويلة على خلاف مع والده آية الله بني صدر. ومن الطبيعي ان انفتاح الطلاب الجدد على العلوم، من فكر سياسي واجتماعي وفلسفي، يؤدي حتماً الى تعامل مختلف مع العلوم الدينية عن الطلاب الذين لم يعرفوا شيئاً خارج اسوار الحوزة. والنتيجة الموضوعية دخول رياح الحداثة على الفكر الديني نظرياً وتطبيقياً. وهذا كله، لا بد ان ينعكس على عالم السياسة، طالما انه لا يوجد فصل بين الدين والسياسة في النظام الايراني. - ادخال المعلوماتية على الحوزات، لم يسهّل فقط حفظ العلوم الدينية ونشرها، بل احدث ثورة في طبيعة الدراسة نفسها. والمعروف ان الدراسة في الحوزة موزعة على المعقول والمنقول. والاخير يتناول علم الحديث وإسناده. وكان قبل دخول المعلوماتية يأخذ اربعة أخماس وقت الدراسة لدى طالب الحوزة. ولذلك فان الوقت الباقي وهو الخمس كان يخصص لدراسة المعقول ويشمل الفلسفة والفقه. لكن المعلوماتية سرّعت دراسة المنقول مما يسمح للطالب بتخصيص وقت مضاعف لبقية دروسه. وهذا كله يؤدي الى الانفتاح على آفاق واسعة من البحث والتفكير، وبالتالي سعة الافق والتعامل مع وقائع عالم اليوم بروح اكثر عصرية وباعتدال. ولذلك فإن الفتوى التي اصدرها ستة مراجع تقليد واعلنها علي اصغر نوري من وزارة التربية بأنه يحق للمرأة إمامة صلاة الجمعة للنساء، ليست حدثاً عادياً، ولا يمكن التعامل معها سوى من هذه النظرة الواسعة لبعض رجال الدين الذين اصيبوا ب"فيروس" الاصلاح، على تركيبة المجتمع الحديث ومكانة المرأة ودورها فيه. اربع شخصيات ويمكن اختصار الجدل القائم داخل الجسم الديني بأربعة اسماء هي: آية الله العظمى حسين منتظري، الذي شكّل بعلمه ومصداقيته وشجاعته "العباءة" التي نما في ظلالها باقي رجال الدين المفكّرين والاصلاحيين، وحجّة الاسلام محسن كديور، وحجّة الاسلام يوسف أشكوري، والمفكّر المدني عبدالكريم سوروش. ويمكن الحديث مطولاً عن "روافد" مدنية عدة أثرت بجرأتها هذا الحوار. ومن هؤلاء عماد الدين باقي، واكبر كنجي، وشمس الواعظين وجميعهم في السجن حالياً، مع تشديد خاص على دور الشيخ عبدالله نوري الذي على رغم ان معركته سياسية، الا انه فتح من خلالها باباً على الجانب الديني وموقع رجال الدين. لقد وضع منتظري، الاطار العام للحركة الاصلاحية، ويتابعه وصولاً الى التفاصيل الصغيرة، في سياق مواقف اتسمت بالشجاعة والمصداقية منذ ما قبل الثورة واثناء حياة الإمام الراحل آية الله الخميني. وقد وضع في خطابه صيغة متكاملة ترتكز على ثلاثة اعمدة هي: الحرية والاستقلال والمشاركة، وتفاصيل ذلك كالآتي: - ان "ولاية الفقيه" هي "النظارة". الولاية لكل مؤمن، ولذلك عليه الا يكون لامبالياً، ومشاركته ضرورية في ادارة البلاد. - المحافظة على استقلالية المراجع، وفي الفترة الاخيرة طوّر منتظري خطابه الاصلاحي، وركّزه على الجانب الديني منه قبل السياسي، فاتخذ قراراً ببث دروسه عبر شاشة التلفزيون في مقر اقامته الجبرية، وفتح موقعاً على الانترنت يردّ فيه على سائليه في كل القضايا ولم يضع ممنوعاً ولا حجراً على اي سؤال ولا اي سائل كان. ولا شك في ان حال منتظري أضحت حالا عامة في قم. اذ ان رسالة وقّع عليها 586 من رجال الدين، بينهم عدد من كبارهم امثال آية الله خلخالي وفيض كاشاني وحجّة الاسلام طهراني والد كرباساتشي رئيس بلدية طهران السابق وحجّة الاسلام ابازي. وقد وجهت الرسالة الى رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الشورى ومختلف الصحف، تطالب بالغاء قرار الحظر على منتظري واعتبار قرار مجلس الامن القومي بعزله غير قانوني، لأن عزله من الخلفة من قبل الامام الخميني لا يعني عزله عن المجتمع والمجال العلمي. ويشكل جواب منتظري على رسالة محترم بابائي زوجة حجّة الاسلام يوسفي اشكوري حول مدى شرعية اتهامه في محكمة رجال الدين "بالارتداد عن الاسلام ومحاربة الدين والافساد في الارض" محطة مهمة على طريق الاصلاح. اذ ليس سهلاً الدفاع عن اشكوري وهو الذي يرفع مطالب مستحيلة في ايران منها فصل الدين عن السياسة، مما يعني نزع احد اهم اعمدة نظام الجمهورية الاسلامية، بل يطالب بضرورة الغاء ولاية الفقيه. ويعتبر الاحكام تابعة للمواضيع، واذا تغير الموضوع او تعرض للتبدل فان الحكم يتغير ويتبدل بالتبعية وهذا يعني فتح الباب امام الانفتاح والحرية في الرأي والاحكام امام الوقائع الدينية والسياسية على اساس الاخذ بقاعدة الموافقة والتوافق بين المتغير والحكم، وليس الحكم على المتغير من خلال احكام ثابتة لوقائع قديمة وخلاصة ذلك الاخذ بمتطلبات العصر واحكامه. ويذهب محسن كديور وهو من ابرز المفكرين الجدد في تأطيره لحركة الاصلاح، على اساس قاعدة الحرية والاستقلال الى القبول بأن الدين متّبع بالسياسة، ولذلك يجب الفصل بين المؤسستين الدينية والسياسية مع بقاء الدين كمراقب لمنع التطرّف والاخطاء في عالم السياسة. كما ان النظام الحالي استعاد الخصائص التي سبّبت الثورة وهي الظلم والعداء للدين والتبعية للأجنبي. وهذه الاستعادة تبرز من خلال التركيز على محورية الشخص، وعدم المسؤولية امام الشعب وانعدام الرقابة. ويدعو الى ضرورة مواجهة مقولة ان رجال الدين هم اصحاب الحكمة. ومن آرائه ان الحرية هي اهم شعار للثورة، ويجب ان تكون في اطار القانون الذي يكفل حرية الرأي للفرد من دون خوف من فقدانه لحقوقه. ويرفض كديور ما يقول به بعض رجال الدين من ان قيم الدين ثابتة لا تتغير، لان معنى ذلك عدم الاخذ بالحداثة واكتساب التطورات العلمية والتكنولوجية. وتكمل جميلة كديور زوجة الشيخ محسن النائبة عن طهران وهي شقيقة وزير الارشاد والثقافة السابق عطاء الله مهاجراني خطاب زوجها الاصلاحي حول الحجاب فتقول "انا اقول نترك حرية اختيار نوع الحجاب ضمن الموازين الاسلامية، مع الاخذ ب"التشادور" لما له من بعد وطني واسلامي". اما عبدالكريم سوروش، وهو مفكر اسلامي طليعي، فان اطروحاته تذهب بعيداً في تحديد مقاومة المحافظين من رجال الدين لعملية الاصلاح، اذ يرى انه يجب عدم المزج بين السلطة والدين، وان غالبية رجال الدين في ايران تقليديون. ويخلص الى ان الاصلاح سيؤدي الى انهيار شريحة رجال الدين المستندين الى الافكار التقليدية، باعتبار "ان التحجّر جاء نتيجة عدم اطلاعهم على الافكار والعلوم الحديثة والتمسك بأن الحقيقة تبقى عندهم وحدهم". وهناك ايضاً الشيخ عبدالله نوري، الذي يرى "ان الحرية هي الرديف الاول للدين"، و"ان حرية الرأي حق للجميع". ويقول نوري انه يجب تفسير افكار الامام الخميني على اساس قياسي لأحكام الدين الثابتة والمتغيرة. ويعتبر محكمة رجال الدين غير قانونية، وبذلك يكون نوري الذي حوكم امام هذه الحكمة وسجن بأمرها، رفض مبدأ الفصل بين رجال الدين والمدنيين، فالجميع سواسية امام القانون ولا خصوصية ولا تمييز لأحد على الآخر. والمعروف ان محكمة رجال الدين التي تأسست في مطلع الثورة بقرار من الخميني، بسبب دقة الاوضاع آنئذ، وضرورة عدم تعريض هيبة رجال الدين للخطر، أصبح الغاؤها من ابرز مطالب الاصلاحيين، خصوصاً انها محكمة سياسية وسرية وخاضعة لمواقف سياسية هدفها ترسيخ نشاط رجال الدين والسيطرة عليهم وتوجيه الطلبة في الحوزات الى ارادة السلطة، حسبما يقول الاصلاحيون. واذا كانت الاوساط الاصلاحية تؤكد انه يوجد حالياً 500 من رجال الدين في السجون نتيجة لمحاكمتهم امام هذه المحكمة، و1500 دعوى ضد مشايخ آخرين، فإن موقع منتظري على الانترنت اورد اسماء 320 رجل دين يقبعون في السجون. بعد جولة للمرشد علي خامنئي في مدينة قم، مطلع الشهر الماضي، حيث شنّ هجوماً عنيفاً على التيارات التي ترفع شعار الاصلاح وتسعى الى ضرب الثورة من الداخل، قال ان الحملة ضد الاصلاحات تدل على وجود مرض تاريخي وتؤكد هيمنة الاستبداد في ايران. ولذلك فان هبوب رياح الاصلاح على الحوزات، خصوصاً في قمّ يعني ان عملية الاصلاح السياسي التفت لتعود الى جذورها وهي الحوزات، وبين رجال الدين، لأنه لا يمكن الفصل بين الاصلاح في السياسة من دون اصلاح الجسم الديني، خصوصاً في نظام يمزج أساساً بين الدين والسياسة