قبل عامين قصدت منزل الرئيس شفيق الوزان في بيروت واجريت معه حواراً طويلاً في اطار سلسلة "يتذكر". وفي ختام الحوار طلب المتحدث ارجاء النشر لبعض الوقت فكان لا بد من التجاوب. بعد ذلك اقترحت على الرئيس الوزان ان يوافق على كشف بعض المحاضر النائمة في ادراج مكتبه فوعد بدرس الموضوع. وفي موعد لاحق طلب ملخصاً لأبرز ما قيل بهدف ان يضيف اشياء غابت عن باله خلال جلسات الحوار. وبعد مضي شهور اقترح المتحدث نشر الحوار من دون محاضر او اضافات فخططنا لنشره في آخر الشهر المقبل بالتوافق مع ذكرى رحيل المقاومة الفلسطينية عن بيروت في صيف 1982. وعندما بلغني نبأ وفاة الرئيس الوزان، رحمه الله، شعرت بأن الواجب يقضي بنشر بعض ما دار في الحوار الطويل. خلال اللقاءات كان الرئيس الوزان حائراً. هل يقول كل شيء حتى ولو تسبب الامر في احراج كثيرين، أم يكتفي بما يعتبره ضرورياً لتوضيح الحقبة العاصفة التي تولى خلالها رئاسة الحكومة؟ وهي حقبة شهدت الغزو الاسرائيلي للبنان و"حرب الجبل" ومفاوضات 17 أيار مايو اللبنانية - الاسرائيلية ومحطات داخلية خطيرة. كان احياناً يطلب وقف آلة التسجيل ليتحدث بانفعال وألم أو ليقول جملة لا يريد ان تحفظ بصوته ثم نعاود التسجيل. وكان يشدد دائماً على ان ضميره مرتاح وعلى ان سجل مواقفه اللبنانية والعربية يشكل رداً حاسماً على "الظلم الذي لحق بي والحملة الهائلة التي استهدفتني". ولد الرئيس الوزان في بيروت في 1925. نال ديبلوم الحقوق في بيروت العام 1947 وانتسب الى نقابة المحامين. شارك في تأسيس حزب الهيئة الوطنية وكلف امانة سر جمعية المقاصد بين 1958 و1972. انتخب نائباً عن بيروت في 1968 وعين في العام التالي وزيراً للعدل. انتخب رئيساً للمجلس الاسلامي في 1973 وشارك في 1976 في اجتماعات "التجمع الاسلامي". في تشرين الاول اكتوبر 1980 شكل الحكومة اللبنانية في عهد الرئيس الياس سركيس واستمر حتى نهاية العهد في 22 ايلول سبتمبر 1982، ثم شكل الحكومة اللبنانية في بدء عهد الرئيس امين الجميل واستمرت حكومته حتى 29 نيسان ابريل 1984. وهنا نص الحلقة الاولى: في حديثك مرارة غير عادية هل تعتقد بأنك ظُلمت؟ - ظُلمت كثيراً وطويلاً. تحملت ضغوطات وتهديدات. كان هناك قرار بفرض العزلة عليّ على الصعيد الوطني وحتى داخل الصف الذي نشأت فيه وشاركت في حمل احلامه وهمومه وقضاياه. ما يؤلمني ليس ما تعرضت له شخصياً فأنا مرتاح الضمير. وربما تجيء ساعة تتكشف فيها حقيقة الاشياء. اذا كتب التاريخ بإنصاف انا واثق من ان شفيق الوزان سيُنصف. آلمتني اتهامات تحولت الى سياسة. وآلمني تنكّر سياسيين لمواقفهم وتخاذلهم عن قول الحقيقة. لا أبالغ اذا قلت لك ان كثيرين بدّلوا مواقفهم بين ليلة وضحاها وكأنهم لم يقولوا ولم يوافقوا ولم يوقّعوا. الاعلام ايضاً كان شريكاً في الظلم. لست من قماشة الذين يفرّطون بأي شأن وطني او قومي وتاريخي شاهد على ذلك. كانت اللعبة كبيرة وتحتاج الى ضحايا والى اضعاف مواقع معينة لتغيير موازين القوى. شاء الحظ ان اكون في موقع المسؤولية في ايام سوداء. تحمّلت ما لم يتحمّله رئيس حكومة. لم أقدم على خطوة إلا بعد استشارة ضميري مرات عدة وبعد التشاور مع من اثبتت الأحداث ان لا غبار على وطنيتهم ومشاعرهم القومية. انه الحظ السيئ شاء ان اكون رئيساً للحكومة عندما غادرت المقاومة الفلسطينية بيروت تحت وطأة الحصار الاسرائيلي والقصف المجنون، لكن من كان ضد خروج المقاومة وانقاذ بيروت؟ من السهل اعادة صوغ المواقف لاحقاً وفي ضوء الحسابات المستجدة وتناسي الظروف التي جرت فيها الاحداث والحظ السيئ نفسه شاء ان تجرى مفاوضات 17 ايار مايو 1983 وأنا على رأس الحكومة. قد نكون اخطأنا في قراءة الموقف السوري آنذاك لكن الهاجس كان اخراج الاحتلال الاسرائيلي قبل ان يستكمل تفتيت لبنان وتمزيق نسيجه. ثم ان اتفاق 17 ايار مرّ على مجلس النواب، والغريب ان معظم الذين أيّدوه آنذاك غسلوا ايديهم لاحقاً وكأنه فُرض عليهم بالقوة. نعم لقد ظُلمت كثيراً وطويلاً. تصور ان قادة ميليشيات، أمروا بالقصف والقتل والذبح واستباحوا الدولة واستقدموا الاسلحة من هنا وهناك وأقام بعضهم علاقات مع اسرائيل يجلسون اليوم في المقاعد الحكومية، ولن أخوض في حديث الفضائح ما عُرف منها وما خفي. لحسن الحظ ان ما جرى في تلك الحقبة البالغة الصعوبة مسجّل في محاضر وان معظم الشهود احياء. فضّلت عدم كشف هذه المحاضر لأنني لا اريد التسبّب في احراج كثيرين، لكن مَنْ يدري فقد يتاح لي ان اكتب كل هذه التفاصيل وان ترى النور يوماً ما. نادي رؤساء الحكومات العلاقات داخل نادي رؤساء الحكومات ليست سهلة؟ - من الطبيعي ان يكون هناك تنافس في ظل نظام ديموقراطي. هناك الرؤى السياسية التي تختلف من شخص الى آخر وهناك الطموحات واختلاف الاساليب في ممارسة العمل السياسي. رغم كل ذلك كان رؤساء الحكومات يلتقون على موقف واحد في المنعطفات الاساسية ويستمر التشاور بينهم ولو بدرجات مختلفة. اعتقد ان رؤساء الحكومات حاولوا دائماً الاضطلاع بمسؤولياتهم بطريقة ايجابية ومسؤولة لكن الظروف لم تكن سهلة دائماً. انا اقول ان رؤساء الجمهورية اخطأوا احياناً وان رؤساء الحكومات اخطأوا احياناً. التركيبة اللبنانية دقيقة جداً واحياناً يفرض ضغط الشارع نفسه على المسؤول. رئيس الجمهورية يتعرض لضغوط من الفريق الذي ينتمي اليه اصلاً والامر نفسه بالنسبة الى رئيس الحكومة. علّمتنا الايام ان التطرف خطير وليس حلاً وان التفاهم الجدي المسبق بين الرئيسين يخفف الضغوط على الاثنين ويدعّم منطق الدولة. سأقول اسماء عدد من رؤساء الحكومات، فهل يمكن ان تقول لي ماذا يتبادر على الفور الى ذهنك؟ - لا اعتقد انك ستخرج من الاجوبة بعناوين مثيرة. الرئيس رياض الصلح؟ - قامة استثنائية، بصماته على الاستقلال شديدة الوضوح. كانت التسوية تحتاج الى رجال كبار وكان رياض الصلح في طليعة من ادركوا مبكراً طبيعة لبنان ومكوّناته. والرئيس تقي الدين الصلح؟ - لبنانية منفتّحة وعروبة حضارية صافية. رصيده المعنوي كان اكبر من شعبيته. والرئيس رشيد كرامي؟ - رجل دولة متمرس. حرصه على الدولة كامل. تشدده كان يساعد احياناً في امتصاص الازمات الخطيرة وحين تنحسر العاصفة يبدي استعداداً للتسوية. والرئيس صائب سلام؟ - زعامة سياسية أصيلة ولدت بين الناس ووسط همومهم. سياسي شجاع لا يرهبه التخويف وتستطيع اللجوء اليه في الملمّات والاتكال عليه. يغضب احياناً ويحتدّ لكن حسّ المسؤولية لا يفارقه. والرئيس الحص؟ - رجل كفوء ونزيه. والرئيس رفيق الحريري؟ - لا شك ان الرئيس الحريري شخصية لها ثقلها الداخلي وعلاقاتها الواسعة عربياً ودولياً. يملك الحريري قدرات استثنائية: قدرة مالية وشبكة علاقات واسعة وماكينة اعلامية لم يسبق لأي رئيس حكومة ان امتلكها. لا بد من الوقت لاختبار حجم زعامته وديمومتها خصوصاً انها لم تولد بين الناس وعبر معايشة الهموم اليومية للشارع البيروتي. علاقتي به جيدة حالياً وإن كنت عتبت عليه كثيراً في 1983 وبعدها حين تعمّد تجاهل رئيس الحكومة وكنت يومذاك في موقع المسؤولية. المهم ان لا يصاب القوي بهاجس الغاء الآخرين. واعتقد ان الحريري اليوم اكثر تمرساً منه قبل سنوات. هل يحتاج رئيس الحكومة دائماً الى المشاكسة والاعتكاف؟ - لا. قبل اتفاق الطائف كان هناك خلل وكانت هناك مسألة المشاركة. وقفت دائماً ضد اي استضعاف لموقع رئاسة الحكومة. في المقابل يقلقني اليوم شعور اخواننا المسيحيين ان رئاسة الجمهورية مستضعفة. علّمتنا الايام ان هذه المشاعر تؤذي البلد. اعتقد ان الحل هو بممارسة الصلاحيات في مناخ من التعاون والانفتاح. أزمة الصواريخ قصتكم مع فيليب حبيب مبعوث الرئيس رونالد ريغان طويلة، بدأت فعلياً مع ازمة الصواريخ التي ادخلتها سورية الى البقاع اللبناني؟ - جاء حبيب في اطار مهمة عنوانها السعي الى تفادي مواجهة سورية - اسرائيلية في لبنان وبسبب التطورات فيه. طرح حبيب موضوع الصواريخ السورية معي فرفضت البحث فيه. قلت له نحن طلبنا مساعدة الجيش السوري لانهاء الحرب في لبنان ولا نستطيع التدخل في ما يعتبره ضرورياً لحماية وجوده عندنا ولحماية سورية نفسها. لو دخلت معك في التفاصيل فمن يضمن لي ان لا تجيء غداً وتطالب بأن لا يتسلّح الجيش السوري الموجود في لبنان بأكثر من كلاشنيكوف. في اللقاء الثاني بدأنا نناقش مسائل اخرى ثم كوّع حبيب وعاد الى الصواريخ. قلت له لا فائدة من اثارة الامر، وسألته بشيء من الانفعال لو ان هذه الصواريخ لبنانية هل كنت تسمح لنفسك ان تطالبني بإزالتها. فقال: لا. قلت له: عظيم أنا سأتصل غداً بالاخوة السوريين واطلب منهم ان يؤجرونا الصواريخ او يبيعوها لنا ونحن نتحمل مسؤوليتها. فقال: لا، لا، لا. قلت: اذاً ارجوك ان لا تعود الى هذا الموضوع في ختام اللقاء وعند الباب وقف حبيب وقال لي: "لكي تفهم سبب الحاحي دعني اكشف لك ما قاله الاسرائيليون لي، وهو ان لديهم القدرة العسكرية على ضرب هذه الصواريخ من مسافة 45 كيلومتراً وتدميرها وانا أسعى لتفادي الوصول الى هذه النقطة". قلت له: "الحسابات العسكرية يجريها العسكريون. نحن نتحدث في السياسة. لست مستعداً للخوض في هذا الموضوع". للاسف تبين لاحقاً ان الاسرائيليين يمتلكون القدرة التي تحدث عنها حبيب استناداً الى أقوالهم. ومتى عرفتم بأن اسرائيل تستعد لشن عدوان واسع على لبنان في حزيران يونيو 1982؟ - اسرائيل عدو وعليك ان تتوقع العدوان منها في اي لحظة. كان هناك كلام ان اسرائيل قد تقوم بعدوان ضد لبنان. وظهرت تكهنات وسيناريوهات. لم تكن لدينا اجهزة استخبارات واسعة الامتداد. لاحقاً تبين ان بعض الجهات كان في اجواء ان عدواناً واسعاً سيحصل. ذات يوم نُبّهت من ان اسرائيل تبيت عدواناً ضد لبنان، واذا بالسيد ياسر عرفات يردّ بأنه لا يحبّذ مثل هذا التهويل. علينا دائماً ان نتذكر ان الدولة اللبنانية كانت في وضع صعب. مطالبتنا المتكررة للاخوان الفلسطينيين بالامتناع عن اي ممارسة يمكن ان تستغلها اسرائيل لتنفيذ مآربها لم تلق تجاوباً منهم ولم تلق تجاوباً كافياً من الدول العربية. هكذا وجدت الدولة اللبنانية نفسها في دوامة نزاع لا تستطيع التحكّم بمجرياته. "أخذنا علماً" في 1981 وبعد تبادل القصف الشديد بين الفلسطينيين والاسرائيليين في جنوبلبنان وما رافقه من غارات جاءنا فيليب حبيب وقال: "احب ان اطمئنكم الى اننا توصلنا الى اتفاق لوقف اطلاق النار بين الفلسطينيين والاسرائيليين". ظهر الغضب والاستياء في عيني الرئيس سركيس رحمه الله. كان بالغ الحساسية تجاه اي اتفاق يمكن ان يضع قيوداً على لبنان وسيادته وكان شديد التمسّك باتفاق الهدنة. قال سركيس لحبيب: "نحن لا علاقة لنا بأي اتفاق من هذا النوع، لدينا اتفاق الهدنة فقط". فتح حبيب فمه مستغرباً قول سركيس. كان لا بد من العثور على مخرج فقلت لحبيب: "الرئيس سركيس على حق في موقفه لكن انا اقول لك اننا اخذنا علماً". اي اننا أخذنا علماً بالاتفاق لكننا لسنا طرفاً فيه. غزو 1982 بدأ الاجتياح فماذا حصل؟ - بدأ الاجتياح وأصيبت الدولة بحالة من الارتباك. عقد مجلس الوزراء اجتماعاً وطلب وضع كل الامكانات في تصرف الجيش لصدّ العدوان. على الصعيد العسكري لم يكن هناك ما يستطيع الجيش اللبناني ان يفعله وكان يمكن ان يتعرض لعملية سحق كاملة. هنا اريد ان اسجل ان القوى الفلسطينية التي حاولت المقاومة سحقت وان القوات السورية التي قاتلت ببسالة وخاضت معارك برية وجوية أُرغمت على التراجع. كانت هناك مقاومة وبطولات لكن الآلة العسكرية الاسرائيلية كانت شديدة التفوق وكان العدوان الاسرائيلي الوحشي اكبر بكثير من قدرة الاطراف الاخرى على صدّه. استدعينا سفراء الدول الكبرى وظهرت مواقف ايجابية وسلبية تبين في نتيجتها ان ليس امامنا غير الرهان على الولاياتالمتحدة للجم العدوان او دفع اسرائيل الى الانسحاب حتى ولو كانت متعاطفة مع الغزو او اهدافه. كان الموقف السوفياتي مفاجأة كبيرة لنا. سارع السفير السوفياتي الى ابلاغنا ومن دون الرجوع الى حكومته: "نحن دولة ليست بذات تأثير على اسرائيل". تألمت فقد كان الاتحاد السوفياتي صديقاً للعرب وكنا نأمل في موقف آخر. ذكّرت السفير بإنذار بولغانين الشهير فاكتفى بابتسامة وامتنع عن الرد. كان كلام السفير السوفياتي واضحاً ومعناه ان عليكم البحث مع من يستطيع التأثير على اسرائيل اي الولاياتالمتحدة. وبدت قدرة الاوروبيين محدودة بدورها. كنا نتمنى لو كانت هناك قوة عربية قادرة على التدخل وقلب مسار الاحداث لكن الواقع كان غير ذلك، وهكذا صرنا تحت نار العدوان الاسرائيلي وامامنا الوسيط الاميركي وبدأت رحلة العذاب الطويلة. حوصرت بيروت وانهالت عليها الحمم براً وبحراً وجواً. صحيح ان ارادة البيروتيينواللبنانيين في الصمود كبيرة لكن المعاناة تجاوزت كل حدود. قطع الاسرائيليون المياه عن العاصمة المحاصرة ورحت أفكر بمن أستجير في وجه هذه الوحشية التي لا مثيل لها. اتصلت بالملك فهد بن عبدالعزيز وأبلغته ان بيروت تعيش بلا ماء ولا خبز ولا دواء. تألم كثيراً وأبلغني انه سيعاود الاتصال بي. بعد خمس ساعات أبلغني الملك فهد انه تحدث الى الرئيس رونالد ريغان طالباً تدخله وان الرئيس الاميركي اتصل برئيس الوزراء الاسرائيلي مناحيم بيغن الذي وعده باعادة المياه. وفي تلك الظروف القاسية اعتبرنا اعادة المياه انجازاً. احب ان أسجل هنا ان السعودية لم تبخل على لبنان بأي مساعدة ممكنة. "وثيقة حبيب" وهنا عاد فيليب حبيب الى الاضواء؟ - نعم ولم يكن هناك خيار آخر. لو كانت هناك فرصة لعمل عسكري يرغم الجيش الاسرائيلي على الانسحاب لما قبل احد بما طرحه حبيب او بالشروط الاسرائيلية التي حملها. من السهل ان يقول المرء اليوم انه كان من الافضل الاستمرار في القتال او المواجهة. امكانات المواجهة الطويلة لم تكن متوافرة واقول بصدق ان المقاومة الفلسطينية جربّت القتال واختارت في النهاية الخروج. رفضت شخصياً ان أساهم في اي ضغوط او ايحاءات على رغم كل ما تعرضت له بيروت. اليوم يحكى عما يقدمه الجنوب دفاعاً عن الوطن. والكلام صحيح فقد تحمّل الجنوبيون الكثير وقدّموا الكثير. في تلك الايام كانت بيروت هي التي تعاني وتقدم التضحيات وهي لم تبخل ابداً. جاء المبعوث الاميركي وظهر آنذاك ما عُرف ب"وثيقة حبيب" وهي من تسعة بنود وتتحدث عن خروج الاسرائيليين والسوريين ومسلحي منظمة التحرير. ومفهوم الوثيقة في النهاية هو ان كل القوات غير اللبنانية يجب ان تخرج في نهاية المطاف من لبنان الذي يجب ان يعيش في ظل قواه الشرعية المنتشرة على كامل اراضيه. حُكي ايضاً ان منظمة التحرير يمكن ان تحافظ على وجود في لبنان ويفضل خارج بيروت. كان المقصود الوجود الديبلوماسي او السياسي وأصررت على كلمة يُفضّل بعدما كان الغرض حظر مثل هذا الوجود في بيروت، وقلت اننا لا نستطيع ارغام سفارة عربية مثلاً ان تكون خارج العاصمة. وثيقة حبيب كانت معروضة على الجميع دولياً واقليمياً ومحلياً وكان مفهوماً ان المطلوب تنفيذها. قرار المغادرة متى عرفتم ان المقاومة الفلسطينية مستعدة لمغادرة بيروت؟ - في اواخر حزيران يونيو. عرفت ذلك من ابو عمار. اعتقد ان القيادة الفلسطينية أدركت منذ الساعات الاولى لحصار بيروت حدود العمل العسكري الذي تستطيع القيام به وصار همّها توظيف فترة الصمود الممكنة في تحقيق مكاسب ديبلوماسية وسياسية. والواقع ان المنظمة لم تكن قادرة على السير الى ما لانهاية في معركة بلا أفق. بعد نحو اسبوعين من بدء الغزو ظهر ان الاتحاد السوفياتي ليس في وارد القيام بأي خطوة دراماتيكية وان مجلس الامن لن يستطيع التحرك بحرية ولم يبقَ إلا الجانب الاميركي الذي يستطيع ممارسة ضغوط على الجانب الاسرائيلي طبعاً في مقابل ثمن لا بد من دفعه وهو الموافقة على بعض الشروط. لم يكن باستطاعة احد اتخاذ قرار بتدمير بيروت تدميراً كاملاً فضلاً عن ان نهاية القيادة الفلسطينية في معركة من هذا النوع سترتب انعكاسات بالغة السلبية على القضية نفسها. في بيروت المحاصرة كانت الاجتماعات مستمرة. عقدت اجتماعات عدة في منزل الدكتور عبدالرحمن اللبان ومنزل الوزير مروان حمادة. وكان طبيعياً ان تعقد اجتماعات في منزل الرئيس صائب سلام. شاركت في هذه الاجتماعات شخصيات سياسية لبنانية وقيادات فلسطينية. وعقدت لقاءات في منزلي في الروشة للمتابعة والاستفسار. وفتحت القيادة الفلسطينية خطوطها في اتجاه الدولة اللبنانية والجيش وكان هاني الحسن عضو اللجنة المركزية لحركة "فتح" يتحرك مع جوني عبده مدير المخابرات في الجيش اللبناني ومسؤولين آخرين. اعتقد انني أبلغت فيليب حبيب في 3 تموز يوليو ان منظمة التحرير وافقت على خروج قواتها. التفت اليّ وقال: "هل لديك في خزانتك مستند يثبت تعهدهم بالخروج". أجبته: "لم يخطر في بالي الحصول على مستند ولم اطلب منهم شيئاً من هذا النوع". قال: "انا متأكد ان الاسرائيليين يصرّون على تعهد خطي بالمغادرة. سبق وطلبوا مني ذلك لأن ثقتهم بالقيادات الفلسطينية قليلة". قلت: "ما على الرسول الا البلاغ، سأنقل لهم هذا الامر". أبلغت القيادة الفلسطينية ان حبيب يريد تعهداً خطياً فحصلت خضّة كبيرة. عرفات وصائب سلام أين ظهرت الخضّة؟ - كانت القيادة الفلسطينية تحاول تفادي اعطاء تعهد خطي ، المطالبة بالتعهد خلقت حالاً من الغضب والارباك. اذكر ان حواراً ساخناً دار في اجتماع عقد في دارة الرئيس صائب سلام. تحدث عرفات وكأن اللبنانيين، وأهل بيروت خصوصاً، تخلوا عن المقاومة. لم يستطع صائب سلام أن يتحمل مثل هذا الكلام وقال له: "بعد كل الذي قدمته بيروت تقول مثل هذا الكلام. وبعد الذي قدّمه لبنان نسمع مثل هذا الكلام. ألا ترى الخراب الذي لحق بالبلد. انت لا تستطيع النوم في مكان واحد وتذهب من هنا الى هناك. ماذا تريد ان تتهدم بيروت نهائياً ويتشرد اهلها؟". انفعل صائب سلام وفتح الباب ونادى الصحافيين وقال لهم: "اكتبوا عن لساني نحن نريد قتل الفلسطينيين وتشريدهم ونحن…". سارع ابو عمار الى الصحافيين وطلب منهم عدم نشر أي شيء من هذا الكلام واخذت من الصحافيين اشرطة التسجيل. الحقيقة ان الرئيس تقي الدين الصلح طرح في اجتماع سؤالين على القيادة الفلسطينية: "هل لديكم سلاح لم تستخدموه حتى الآن في هذه الحرب. ان كان لديكم نحن معكم ونضحي معكم. هل وعدتكم دولة ما ان تدخل الحرب الى جانبكم وان تدخلها سيجعل النصر شبه حاصل. فاذا كان لديكم مثل هذا الوعد نحن معكم. اما اذا لم يكن لديكم ذلك السلاح وذلك الوعد فحرام يا ابو عمار ان تتدمر بيروت التي أعطت وتعطي…". في النهاية وافق الفلسطينيون على الخروج ومستلزماته. كل ذلك كان مؤلماً لي. كانت المقاومة الفلسطينية هي الأصل بالنسبة لنا وقد دعمناها ووقفنا الى جانبها واحياناً الى حدّ تجاهل بعض اخطائها والحساسيات اللبنانية. كيف ولدت فكرة القوة المتعددة الجنسية؟ - خلال احد اللقاءات قال ابو عمار انه ليس واثقاً من ان المغادرين لن يتعرضوا للهجمات خلال رحلتهم في البحر. واشار الى ان الولاياتالمتحدة هي الوحيدة القادرة على لجم اسرائيل. تدخل وليد جنبلاط وقال: "نحن لا نقبل ان تأتي اميركا وحدها. لماذا لا تشارك فرنسا؟". وكانت فرنسا في ظل حكم اشتراكي. بنتيجة البحث قال ابو عمار انهم يريدون قوات دولية ثم ظهرت فكرة القوة المتعددة الجنسية. هنا بدأت الاتصالات مع دول عربية لتوافق على استقبال المقاتلين المغادرين. اسماء مستعارة وشروط الخروج؟ - طلبت اسرائيل عبر فيليب حبيب ان توضع لوائح بأسماء المغادرين. أبلغت الجانب الفلسطيني فرفض سعد صايل ابو الوليد وقال ان اللوائح يمكن ان تعرّض سلامة المغادرين وعائلاتهم للاخطار داخل لبنان وخارجه. هنا دعوت الفريق المكلّف اعداد اللوائح برئاسة مدير الامن العام اللبناني وقلت لهم ان المصلحة العليا تقضي ان لا نعطي الاسماء. واوضحت لهم انني اتفقت مع الفلسطينيين على ان يدوّن الموظف اللبناني اسم المغادر من دون ان يطالبه بإبراز هويته او بطاقته. وهذا ما حدث. تصور ان هاني الحسن المعروف تماماً قال ان اسمه كاسترو وغادر على هذا الاساس. كل ذلك في وقت كان ارييل شارون وكبار ضباطه يراقبون الخروج من مسافة قريبة. طبعاً حصلت اشكالات كادت توقف العملية. الاتفاق ينص على خروج المقاتلين بأسلحتهم الفردية. اضطررت الى الدخول في جدل مع فيليب حبيب حول بعض الاسلحة القاذفة وحول سيارات جيب او شيء من هذا النوع. لا اريد ان اضخّم ما فعلته ولا المواقف التي اتخذتها في اللقاءات مع المبعوث الاميركي. كنت أقوم بواجبي وتعرضت لاخطار كثيرة في الصعود الى القصر الجمهوري والنزول منه. خاطرت بحياتي مرات عدة ورفضت اي مرور على الحواجز الاسرائيلية. ويقتضي الانصاف ان اسجل هنا ان الرئيس الياس سركيس كان يشاطرني قناعاتي ويرفض اي مسّ بالثوابت الوطنية على رغم صعوبة الظروف التي كنا نعيشها جميعاً. كان سركيس يتألم لرؤية بيروت تتعرض لما تعرضت له ولعله كان يتألم اكثر لأننا لم نستطع تجنيبها الوصول الى ما وصلت اليه ولأن تدخلاتنا وتحذيراتنا لم تلق استجابة في الوقت المناسب. رحيل المقاومة ثم جاءت ساعة الوداع؟ - ليس سهلاً ان يخرج مسؤول عربي لوداع المقاومة الفلسطينية وهي تغادر عاصمة عربية طوّقها الاحتلال الاسرائيلي. لكن الحظ السيء يرخي بثقله احياناً على بعض الاشخاص وانا كنت من هؤلاء. طبعاً في كل هذه المحنة كنت اتصرف بالتشاور مع الفعاليات والشخصيات. تشاورت مع المفتي الشيخ حسن خالد ومع الرئيسين صائب سلام وتقي الدين الصلح واعضاء التجمع الاسلامي والشخصيات والقوى الوطنية وكل من تيسّر التشاور معهم. كان من الصعب عليّ جغرافياً ان اتواصل مع الاخوة في دمشق لكن الرئيس سركيس كانت له قنواته معهم. قلت ما دام القدر انتدبني لمهمة صعبة فسأسعى كي تكون المناسبة فرصة لابراز موقف لبناني حقيقي. قررت التوجه الى القصر الجمهوري لابلاغ الرئيس سركيس انني قررت المشاركة شخصياً في وداع ابو عمار ورفاقه. وعلى رغم ثقتي بسركيس وتطابق الرأي بيننا في كثير من الاحيان رحت أعدّ الاجوبة على اسئلة قد يطرحها اذا كان له رأي آخر. وصلت الى القصر وقلت للرئيس سركيس انني لاعتبارات وطنية قررت ان اشارك في وداع ابو عمار. وسرعان ما ردّ سركيس مؤكداً انه يفهم الموقف وليس لديه اي تحفظ. فرحت بجوابه خصوصاً انه سارع الى القول: "وتستطيع ان تودعهم باسمي اذا أردت". قلت له هذا يعني يا فخامة الرئيس ان أمثلك في الوداع وهذا يقتضي تشريفات وان يأتي ابو عمار الى مكتبي في رئاسة الحكومة وان اصطحبه في سيارتي فردّ: "ولمَ لا". عندها قلت له: "لا يزال لديّ طلب يا فخامة الرئيس". نظر اليّ مستغرباً وقال: "ماذا بعد؟" اجبت: "أريد ان يشاركني احد الوزراء المسيحيين في الوداع". هنا اتمنى ان لا تخونني الذاكرة، اعتقد ان الوزير فؤاد بطرس كان حاضراً وقال: "لا يجوز يا دولة الرئيس. حين يمثل رئيس الوزراء رئيس الجمهورية لا يجوز ان يشاركه وزير في هذه المهمة". فأجبت: "دلّني على من وضع البروتوكول لأفهمه سبب تجاهل ما وضع. انها محطة تاريخية في حياة الشعبين اللبناني والفلسطيني. ربما يأتي التاريخ على ذكر وداع المقاتلين الفلسطينيين في مرفأ بيروت. أنا أريد ان يقول التاريخ ان الشعب اللبناني بمسلميه ومسيحييه خرج لوداع قيادة المقاومة الفلسطينية. البروتوكول ليس مهماً في مثل هذه الحالات". ظهرت الدهشة على سركيس وبطرس معاً فقد ادركا معنى هواجسي. سألني سركيس: "من تقترح؟" فأجبت: "واحد من اثنين رينيه معوّض او ميشال اده". كان اده صديقاً للفلسطينيين لكن إشكالات حصلت بينه وبينهم خلال ممارسته مهامه وزيراً للاعلام. لهذا وقع الخيار على رينيه معوض. وفي اليوم الذي كان اشد ايلاماً لي من يوم تسلّم كتاب التعهّد بالمغادرة جاء عرفات الى مكتبي ومعه نبيه بري ووليد جنبلاط وتوجهنا الى مرفأ بيروت. وهناك التقينا المفتي حسن خالد والرئيسين صائب سلام وتقي الدين الصلح وشخصيات اخرى. قلت لأبو عمار ان الشعب اللبناني بمسيحييه ومسلميه جاء الى وداعك كممثل لقضية. وردّ بخطبة نشرتها وسائل الاعلام وقدّم لي ولأهل بيروت وسام الجهاد وبراءته. لكن ذلك اليوم لم يكن يوم نهاية الآلام الحلقة الثانية - الاسبوع المقبل