غزت اسرائيل لبنان في 6 حزيران يونيو 1982 وخشي الرئيس الياس سركيس، بعد تطويق بيروت، احتمال وصول مسؤول اسرائيلي الى القصر فاتصل بالسفير الاميركي وأبلغه انه اعطى اوامره للحراس بالمقاومة واطلاق النار. غادرت المقاومة الفلسطينية بيروت وانتخب بشير الجميل رئيساً للجمهورية واغتيل قبل تسلم سلطاته ووقعت مذبحة صبرا وشاتيلا. في سنة الزلازل تلك كان العقيد جوني عبده مديراً لمخابرات الجيش اللبناني ولاعباً بارزاً في صناعة القرار السياسي والامني. وبعد حديثه في العدد السابق عن محطات في عهد سركيس ها هو يكشف أحداثاً ومواقف بينها ان بشير الجميل انقذ الرئيس ياسر عرفات من الاغتيال فضلاً عن المواجهة مع بشير والتي اعقبها نوع من التحالف. ويتطرق الى احتجاز رئيس جهاز الامن في "القوات اللبنانية" آنذاك الوزير الحالي ايلي حبيقة وملابسات مقتل النقيب "المتمرد" في الجيش اللبناني سمير الاشقر وسلسلة احداث امنية وسياسية. وهنا الحلقة الثانية: متى عرفتم في 1982 ان اسرائيل تستعد لاجتياح لبنان؟ - الحديث عن عمل عسكري واسع في جنوبلبنان بدأ قبل سنوات. بعض هذه الانباء كان تسريبات اسرائيلية لاثارة البلبلة في لبنان أو لرفع معنويات الجهات التي كانت تعتقد بأن عملاً من هذا النوع يمكن ان يؤدي الى اخراج الفلسطينيين من اراضيه وسيطرة الدولة اللبنانية وخروج القوات السورية. بعد تولي الجنرال ارييل شارون وزارة الدفاع في اسرائيل ظهرت تباعاً مؤشرات الى تفكيره وتقويمه للوضع وأسلوبه الحاد في المعالجة. كان شارون يعتبر انه اكثر خبرة في التعامل مع العرب من غيره ويعتقد "ان اسلوب القوة هو الاسلوب الوحيد الصالح لمخاطبتهم". وتبين انه يملك خطة ليس لاخراج بعض القوى من لبنان فقط بل لتغيير التوازنات داخل اسرائيل وداخل لبنان واستدراج الجميع الى خطته. بدأت تردنا معلومات عن استعدادات لاجتياح اسرائيلي قد يصل الى بيروت. وهذه المعلومات حصلنا عليها من مصادر لبنانية. وأعتقد بأن الدول الغربية نفسها كانت تستقي معلوماتها من لبنان. كانت المعلومات على درجة من الأهمية والوقاحة الى درجة انه لم يكن ممكناً تصديقها لدى تحليلها. كانت المعلومات تتحدث عن اجتياح واسع مع رغبة اسرائيلية في تحاشي صدام مع القوات السورية. ولم نكن نحن نرى كيف يمكن شن مثل هذا العدوان الواسع من دون الاصطدام بالقوات السورية. وكانت لدينا تساؤلات عن مدى أهمية مغامرة من هذا النوع خصوصاً في ضوء العلاقات السورية - السوفياتية والمعاهدة المعقودة بين البلدين. ثم بدأ الحديث عن التواريخ. وتبين ان التاريخ الأول كان قبل ثلاثة أشهر من وقوعه. ثم عدل وارجئ الى حزيران يونيو. وزير الخارجية فؤاد بطرس لم يصدق مثلاً حين اطلع على المعلومات. واذكر انني كنت أطلع سركيس وبطرس على المعلومات فسألني الثاني عما اصدّقه منها فقلت 10 في المئة فقال "عال ظننت انك جننت". كان تحليل فؤاد بطرس ان اسرائيل لا يمكن ان تتحاشى الصدام مع سورية التي يمكن ان تفتح جبهة الجولان ثم يتدخل الاتحاد السوفياتي واستبعد ان يصل الاسرائيليون الى هذه الدرجة من المغامرة. غادر بطرس القصر فسألني سركيس هل اصدق 10 في المئة فقط من المعلومات فقلت له: "لا، انني اصدق 90 في المئة لكنني قلت 10 في المئة امام الوزير بطرس، وفي اعتقادي ان الاسرائيليين درسوا سلفاً المسائل التي اثارها امامنا بطرس". فكلّفني الرئيس سركيس اطلاع رئيس الوزراء السيد شفيق الوزان على كل هذه المعلومات وان ابلغ الاخوان السوريين. وابلغت الرئيس الوزان، والعقيد محمد غانم المسؤول العسكري السوري في لبنان وتأكدت من وصول المعلومات. لكن الاخوان السوريين لم يصدقوا وربما استقبلوا المعلومات بحذر كونها جاءت من المخابرات اللبنانية التي لم تكن معهم على علاقات ثقة كاملة. وربما اعتبروا ان المعلومات مدسوسة نتيجة فقدان الثقة. وحصل هذا قبل اسابيع من الاجتياح. وصدرت في ذلك الوقت تصريحات لشخصيات لبنانية قريبة من سورية تعتبر هذه المعلومات محاولة تهويل وتخويف غرضها ممارسة ضغوط على المقاومة لدفعها الى تسهيل انتشار الجيش اللبناني في الجنوب. والواقع ان الحل لتفادي الاجتياح كان انسحاب المسلحين الفلسطينيين من الجنوب وانتشار الجيش فيه. وقد حاولنا ذلك مرات عدة لكن أبو عمار لم يكن ابداً في وارد التخلي عن جنوبلبنان، فقد رفضت المنظمة البحث في الموضوع جملة وتفصيلا. بدء الاجتياح اطلقت النار على السفير الاسرائيلي في لندن شلومو ارغوف وبدأت الغارات الاسرائيلية وتلاها في 6 حزيران يونيو الاجتياح. ظن كثيرون ان العملية محدودة لكن المعلومات التي كانت متوافرة لدينا كانت تشير الى غير ذلك. بعضهم استند الى تصريحات مسؤولين اسرائيليين للقول ان العملية محدودة. والواقع ان المسؤولين الاسرائيليين لم يكونوا على علم بأن العملية ستتخذ هذا الحجم فشارون هو الذي كان يعرف السيناريو والى اين سيدفعه. من كان في لبنان - اذا استثنينا الدولة - يعرف موعد الاجتياح وحجمه؟ - بشير الجميل. هل جاء شارون قبل الاجتياح الى لبنان وكيف؟ - جاء مرات عدة وقام بعملية استكشاف في بعض جبال المتن ومناطق اخرى. جاء مع جهاز عسكري بواسطة طائرات الهليكوبتر في حين جاء آخرون بحراً. فور الاجتياح بدأت تصلنا معلومات عن حجم القوات التي تتحرك وبرّر الاسرائيليون حجمها بالقول انهم سيصلون الى صور او الى الزهراني وسموها عملية "الليطاني - 2" وان الغرض ابعاد الصواريخ والمدفعية الفلسطينية. بشير والعرض الأخير هل تشاورتم مع سورية لدى بدء الاجتياح؟ - نعم تشاورنا مع سورية والمنظمة وجهات اخرى. كان هناك تشاور مع سورية على كل المستويات قبل الاجتياح. وحرصت على وضع العقيد محمد غانم على اتصال مع بشير الجميل ليتأكد ان معلوماتي عن الاجتياح لا تستند الى مصادر واهية. تحركنا للحد من الاضرار على الاقل. وطلبنا من ابو عمار ان يرسل مبعوثاً للاجتماع مع بشير الجميل فأوفد هاني الحسن وعقد الاجتماع في منزلي. وفي الاجتماع قال بشير للحسن: "يا اخ هاني هناك حل واحد لوقف هذا الاجتياح وهو ان يصدر ابو عمار والرئيس سركيس وانا بياناً نعلن فيه اننا ضد الاجتياح وانا أؤكد انني اذا كنت معكم سيتوقف الاجتياح لأن التبرير الذي يقدمه الاسرائيليون لهذا الاجتياح هو انت وانا. انت لانهم يريدون اجلاء المنظمة وانا لانهم يقولون انهم جاؤوا لمساعدتنا. لا اخفيك اننا منزعجون من قيام دولة فلسطينية على ارضنا. ولكي استطيع ان اضم صوتي الى صوتكم عليكم ان تتخلوا عن السلاح في لبنان وان يبقى لكم فيه ما هو لكم في الدول العربية الاخرى أي وحدة من جيش التحرير في ثكنة او اثنتين نحددهما معاً. اذا وافقتم فلنصدر البيان قبل ان يتقدموا الى بيروت. هذا العرض قد لا استطيع عرضه بعد 48 ساعة". وأكد بشير للحسن: "سيصلون الى بيروت وانا اعرف الكوارث التي يمكن ان تنجم عن ذلك بالنسبة اليكم والينا. لا تصدق الصحف، فهم سيصلون الى بيروت". اهتم هاني الحسن بهذه المعلومات اهتماماً واضحاً وقال: "سأعتذر عن عدم تناول الغداء فما سمعته يستحق ان اغادر فوراً وان اعود بجواب". وغادر ولم يعد! وتجدد الاتصال مع الفلسطينيين بعد وصول الاسرائيليين الى بيروت. في البداية لم يتصلوا بأحد. وكنت اقترحت في مجلس الوزراء الذي استدعانا لشرح الوضع ان نفعل شيئاً في صور - وكانت القوات الاسرائيلية لا تزال هناك - ان تنضم كل القوى الموجودة الى الجيش لنستطيع ان نتكلم فنوفر بذلك خرابا وتعلن المنظمة ان لا دور عسكرياً لها ما دام الجيش قد تسلم المدينة وكنت أقترح هذا السيناريو لنستطيع التحدث مع الولاياتالمتحدة. لم تتم الموافقة على الاقتراح على رغم ان نائب المدينة الوزير علي الخليل بدا مهتماً بانقاذها، عندها قلت: "للأسف اليوم نتحدث عن صور وغداً سنتحدث عن صيدا اذا استمررتم على هذا المنوال". رفضت الحركة الوطنية ربما لاعتقادها بأن العملية محدودة. وعندما طوّق الاسرائيليون بيروت قدم أبو عمار وأبو اياد وهاني الحسن وأبو الوليد عروضاً من نوع ان ينتشر الجيش بين الاسرائيليين وبين القوات الفلسطينية. في هذا الوقت كانت المأساة بدأت واصبحت بيروت تحت رحمة المدفعية الاسرائيلية. سجين يتألم في القصر اذكر كيف كان الرئيس سركيس كالسجين. لم اعرف احداً يتألم الى هذا الحد، ولم اعرف صاحب ضمير وطني الى هذا الحد. كان ينظر بألم من بعبدا الى الطائرات الاسرائيلية تغير على بيروت. من يعرف سركيس حقاً يعرف كم كانت مشاعره العربية صافية، لا بل يعرف كم كان معادياً لاسرائيل ونهجها. وقبل الاجتياح كان يتمنى ان يقنع نفسه بأن المعلومات خاطئة. وكان الأمر يصل به الى حد تمني ارجاء الكارثة اذا كان منعها متعذراً كانت جلسات مجلس الوزراء مفتوحة وسركيس على علاقة دائمة مع فيليب حبيب وفي مرات عدة، كان الغضب يصل به الى حد مخاطبة حبيب بالقول: "كيف تقولون انكم مع حقوق الانسان وتسكتون عن قصف بيروت وقطع المياه عنها"؟ انا اعتقد بأن معاناته في تلك الفترة ضاعفت من مرضه. رجال الدولة من برز في تلك الايام الصعبة كرجل دولة بمستوى احداث من هذا النوع؟ - اعتقد بأنه وفقاً للامكانات التي كانت موجودة لدى الدولة اللبنانية، فإن الرئيسين سركيس والوزان واجها الموقف بكل جرأة ومن القيادات السياسية الاخرى البارزة لا بد من ذكر الوزير فؤاد بطرس والرئيس صائب سلام. ان عملية من هذا النوع وبهذه الضخامة لم تؤدِ الى اي مطالبة باستقالة الوزان، في حين ان اغتيال ثلاثة من قادة المقاومة في 1973 ادى الى استقالة رئيس الحكومة ومطالبة باقالة قائد الجيش. في هذا الوقت استمرت حركة الموفدين في اتجاه دمشق. ذهب الوزير بطرس وذهبت انا وذهب آخرون. خلال حصار بيروت عقد في السعودية اجتماع لوزراء الخارجية العرب وذهبت انا برفقة الوزير بطرس وكان اهم بند في الاجتماع "الى اين يذهب مقاتلو منظمة التحرير؟". هل عارض احد خروج المقاومة؟ - لا. في تلك المرحلة كان ضرورياً ان نوافق على خروج المقاومة الى الشمال او البقاع. سركيس لم يوافق. قال: "انا لا استطيع تفضيل بيروت على اي شبر آخر من لبنان"… لم نتفق هناك على شيء. وكان بطرس في حالة نرفزة. وهنا لا بد من الاعتراف: كانت معلوماتنا ان الاجتياح سيصل الى بيروت لكننا لم نتوقع ان يحصل اتصال بين الجيش الاسرائيلي والمنطقة الشرقية عن طريق عاليه وطريق بعبدا. وكانت للجيش اللبناني قوة في المنطقة بأمرة ميشال عون وحضر شارون شخصياً الى سرايا الدرك في بعبدا. كان الضابط اللبناني المسؤول هناك رفيق الحسن واتصل بأحد مساعدي، وكنت حاضراً وقال له: "معالي وزير الدفاع هنا". فرد الضابط: "ماذا يفعل عندك الوزير جوزف سكاف وزير الدفاع اللبناني"؟ فقال الحسن: "الوزير ارييل شارون هنا، وليس الوزير سكاف"! سركيس: لن استقبل الاسرائيليين. كان سركيس في ذروة انفعاله فقد اقترب الاسرائيليون من القصر ووزارة الدفاع وسادت حالة من الرعب. وطرحت على سركيس فكرة مغادرة القصر فرفضها وكنت انا ايضاً معارضاً لها. هل حاول الاسرائيليون الاتصال بسركيس؟ - لا، ولكن كانت هناك مخاوف من ان يحضر مسؤول اسرائيلي الى القصر ويطلب مقابلة سركيس. درسنا الاحتمال واتفقنا على سيناريو هو ان يرفض سركيس استقبال اي كان. واتصل رئيس الجمهورية بالسفير الاميركي روبرت ديلون وقال له انه لن يقبل بوصول اي مسؤول اسرائيلي، وانه اعطى اوامره للحراس بالمقاومة واطلاق النار. ذهبت الى وزارة الدفاع فوجدت الجنود في مديرية المخابرات قد اعدّوا الملفات لاحراقها تبعاً للقاعدة المتبعة فور وقوع اجتياح. رأيت الوجوه مصفرّة وكان هناك رعب من دخول الاسرائيليين الى مقر الوزارة. والواقع انهم كانوا في الدولة والجيش ينظرون اليّ كأنني اعرف الكثير الكثير وربما كانوا يعتقدون بأنني قادر على كل شيء. كانت المسؤولية كبيرة عليّ وتحتم ان اختار بين ان اخاف مثلهم أو ان اتخذ موقفاً آخر. فجأة طالبت العسكر باعادة الملفات الى أماكنها وقلت: "لن يدخلوا الى هنا". واجريت امام الضباط اتصالات بالاميركيين. والواقع انه لم تكن لدي ضمانات، ولكن كان عليّ ان ارفع المعنويات. في البداية استبعدت ان يدخلوا اي مؤسسة رسمية لأن الهدف الذي يعلنونه هو مهاجمة المقاومة الفلسطينية. الدخول الى سرايا بعبدا اقلقني لكنني عرفت لاحقاً انهم لم يدخلوا بالقوة العسكرية بل دخل شارون مع حراسه. من دون ان ننسى ان الهدف غير المعلن لهم كان سحق الجيش اللبناني. ففي صيدا كان الطيران يغير ليلاً وفي صورة مستمرة على ثكنة الجيش. ربما كانوا يعتبرون انهم يجب الا ينسحبوا لاحقاً لمصلحة الجيش بل لمصلحة ميليشيات حليفة لهم يمكن ان تملأ الفراغ. ولهذا كان همّنا ان يبقى الجيش سليماً. كثير من الناس اتهموا الجيش بعدم المقاومة، والحقيقة انه قاوم حيث استهدف ولكن ضمن المعقول وضمن التوجيهات التي اعطيت. لو محا الاجتياح الجيش لما بقي شيء ولتشرذمت البلاد. حصار بيروت فور وقوع الاجتياح شكلت الدولة هيئة انقاذ وطني. وكانت الفكرة الأولى ان تستقيل الحكومة وأن تشكل هيئة انقاذ برئاسة الوزان، لكن وجهة نظر الوزان وبطرس كانت صائبة وتم الابقاء على الحكومة وشكلت هيئة الانقاذ في موازاة الحكومة. حوصرت بيروت وبدأت المفاوضات وتوليت جانباً مهماً منها. عبرت مرات عدة الى بيروت الغربية للقاء ابو عمار. كانت اسرائيل تطالب بخروج المقاومة من العاصمة وكلف الرئيس الوزان ابلاغ الطلب الى عرفات. كان التكليف مرّاً بالنسبة الى الوزان وتردد في نقله، وفي النهاية اقترح اسمي خلال اجتماع بين سركيس وحبيب، فأجريت اتصالاً لعقد الاجتماع وكان هناك وسطاء بينهم صديق مشترك وضابط من المخابرات. التقيت ابو عمار في بيت شفيق الحوت ممثل المنظمة في لبنان وفي حضور ابو الوليد ونقلت اليه الأجواء. وفي ضوء ما كان بيني وبين المنظمة كان ذهابي مستغرباً. وكانت زوجتي تجن حين تسمع فجأة في الاذاعات انني مجتمع مع أبو عمار لأنها كانت تسمع الأنباء عن محاولات متبادلة للاغتيال. كنت انزل الى منطقة المتحف من دون مسدس وتأتي سيارات جيب تابعة للمنظمة وتنقلني الى مكان الاجتماع. ولم اكن اعرف هل سأعود أم لا، لكن الواجب كان يقضي بأن اذهب. عندما ابلغته سألني ياسر عرفات: "هل هذا طلب لبناني"؟ فأجبت: "لا هذا طلب اسرائيلي نقل الى الاميركيين فنقلوه الينا". فقال: "وما رأي الرئيس سركيس في الموضوع"؟ فأجبت: "الرئيس سركيس يقول انه معك في الرأي الذي تعتمده". وهنا اكبرت موقف ابو الوليد الذي قال لي: "لو كنت مكاننا ماذا كنت تفعل"؟ فأجبت: "لست قادراً على قول شيء". فقال: "حين وصلوا الى صور دعونا الناس الى المقاومة والآن وقد وصلوا الى بيروت نغادر نحن؟ لا نحن لن نغادر". فأجبت: "انت رجل عسكري وتتصرف وفق قناعاتك". وتدخل ابو عمار قائلاً: "خلينا نفكّر في الموضوع". نقلت الجواب الى سركيس وفيليب حبيب. وذهبت ثانية ولم أعد اذكر الى أين اذ ان اللقاءات كانت تعقد مرة في صبرا ومرة في الفاكهاني ودائماً تحت الأرض، ذلك ان عرفات كان ملاحقاً. وكان غياب ابو الوليد احياناً يشعرني بأن المحادثات ستتميز بالمماطلة. بعد اللقاء الثالث شعرت، ويا للأسف، بأنني مسؤول عن قصف بيروت مع وسائل الاعلام التي كانت تنقل كل شيء، لأنني كلما نقلت جواباً غير مرض عن القيادة الفلسطينية تضاعف القصف على بيروت وقلت لفيليب حبيب: "لن أقول لك بعد اليوم موقف عرفات لأن كل جواب يسبب المزيد من الخراب والآلام". كان حبيب يقدر ذكاء ابو عمار ومنذ البداية كان يحض القيادات الاسلامية على ان تبادر الى اتخاذ الموقف فتوفر لعرفات فرصة القول انه سيخرج بناء على طلب اللبنانيين وليس تجاوباً مع الشروط الاسرائيلية. هذا بالنسبة الى الجانب الفلسطيني اما بالنسبة الى الجانب السوري فقد تولاه الاميركيون بأنفسهم. ابو عمار وثلاث رسائل في النهاية ابلغنا ابو عمار بموافقتهم على الخروج فعرض عليه حبيب بواخر أميركية للحماية فرفض. وبدأ البحث في تفاصيل الخروج ذات المعاني السياسية، وأصر ابو عمار على الخروج بالسلاح وكان الاسرائيليون احتلوا مبنى شركة الكهرباء المطل على مرفأ بيروت. هل صحيح ان شارون كان قريباً لحظة خروج أبو عمار؟ - نعم، راقب شخصياً الخروج. وكانت الحماية للخارجين ضمانة اميركية غير معلنة علماً أن أبو عمار كان يثق اكثر ما يثق بالفرنسيين. وفي اللقاء الأخير مع عرفات قلت له: "معي لك ثلاث رسائل. واحدة من سركيس يقول فيها انه يأسف لما حصل، والثانية من فيليب حبيب ويقول فيها انه مستعد لضمانات اضافية، والثالثة من الرئيس المنتخب بشير الجميل ويقول فيها ان الفلسطينيين الموجودين في لبنان هم في عهدته وحمايته". ورد أبو عمار: "هو الياس سركيس ليش ما تأسفش قبل"؟ فأجبته: "وهل تركت المجال لأحد. دعوناك مرات عدة الى القصر ورفضت". وتابع أبو عمار: "بالنسبة الى فيليب حبيب انا لا اريد ضمانات. وبالنسبة الى بشير الجميل قال ضاحكاً فهذا مشروع الپ18 سنة". واستغربت وسألته عما يقصد فأجاب: "بشير ست سنوات ثم جوني عبده ست سنوات ثم يرجع بشير". وطبعاً كان ذلك من باب الاحساس بوجود طبخة معدّة سلفاً، لكن هذا غير صحيح.