تشهد الجزائر الأسبوع المقبل الدور الأول من ثاني انتخابات رئاسية تعددية أجريت الأولى سنة 995، ويشارك فيها المرشحون عبدالعزيز بوتفليقة وأحمد طالب الإبراهيمي ومولود حمروش وحسين ايت أحمد الذي أصيب بعارض صحي ونقل إلى مستشفى في سويسرا وعبدالله جاب الله ومقداد سيفي ويوسف الخطيب. وتميزت الحملة الانتخابية بحضور شعبي كثيف يدل على نجاح المرشحين - بدرجات متفاوتة - في اخراج المواطنين من حال الذهول واللامبالاة الناجمة عن سنوات العنف والارهاب وتردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. وقياساً بالانتخابات الرئاسية السابقة، يُذكر ان عدد المرشحين ارتفع من 4 إلى 7. ويذكر أيضاً ان التيارات السياسية المهمة تشارك هذه المرة بأبرز ممثليها، مما يدل على أن هذه الانتخابات تمثل "قفزة نوعية" حسب تعبير الرئيس اليمين زروال. وما يؤكد هذه "القفزة النوعية" ان السباق يبدو مفتوحاً للوهلة الأولى، علماً ان الحكم - رسمياً على الأقل - ليس له مرشح، خلافاً لانتخابات 1995 التي كان التنافس فيها بين رئيس وثلاثة منافسين أعطوا دوراً محدداً سلفاً وهو مساعدة مرشح الحكم على الفوز في الدور الأول من الاقتراع. ويمكن اعتبار عبدالعزيز بوتفليقة وزير الخارجية السابق مرشحاً عن التيار الوطني، استناداً إلى تزكيته من أهم حزبين وطنيين هما "التجمع الوطني الديموقراطي" و"جبهة التحرير الوطني"، على رغم أنه زكى أيضاً من قبل "حركة النهضة" التي تعد أحد فصائل التيار الإسلامي. ويمثل التيار الإسلامي الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي وزير الخارجية السابق 1982-1988 الذي استطاع ان يستقطب فلول "الجبهة الاسلامية للإنقاذ" المحظورة، مساهماً بذلك في حل عقدة هذه الحركة التي أوشكت بفوزها العريض في الانتخابات النيابية سنة 1991 أن تستولي على الحكم عبر صناديق الاقتراع. ويقف إلى جانب الإبراهيمي، الشيخ عبدالله جاب الله رئيس "حركة الاصلاح الوطني". ويمثل مولود حمروش رئيس الحكومة السابق التيار اليبرالي الذي ظهر منتصف العقد الماضي مع موجة الانفتاح السياسي والاصلاحات الاقتصادية. ويمكن ادراج مقداد سيفي رئيس الحكومة السابق أيضاً في هذا السياق مع حمروش. أما "الحركة البربرية" القبائلية أساساً فيمثلها حسين آيت أحمد زعيم "جبهة القوى الاشتراكية" أهم الأحزاب المعبرة عن هذا التيار ومثله في انتخابات الرئاسة السابقة الدكتور سعيد سعدي الأمين العام ل"التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية". ولدعاة "الاستئصال" أيضاً ممثلهم، وهو الدكتور يوسف الخطيب أحد "قدماء المجاهدين" ثورة التحرير الذين حملوا السلاح في وجه الجماعات الإسلامية المسلحة وسط البلاد. شعارات متنوعة دخل هؤلاء المرشحون حملة الانتخابات بشعارات مختلفة تشكل إلى حد ما العنوان المفضل لكل واحد منهم على الشكل الآتي. - اختار بوتفليقة شعار "جزائر العزة والكرامة"، مفضلاً في خطابه دغدغة نخوة المواطنين من خلال التذكير ب"العصر الذهبي" للجزائر المستقلة فترة الرئيس هواري بومدين، واستنهاض هممهم وتحريضهم على رفض الاستسلام للواقع المأسوي الذي هم فيه اليوم. ويتميز هذا المرشح بالتكلم بمنطق رجل الدولة الذي لا يتحرج من توجيه رسائل محددة إلى الدول الشقيقة والصديقة. فمن تلمسان وجه رسالة واضحة إلى المغرب تتعلق بالعلاقات الثنائية ومشكلة الصحراء الغربية. ومن تبسة وجه رسالة إلى تونس بحسن معاملة المسافرين الجزائريين الذين فرض عليهم "الحصار غير المعلن" التنقل إلى عاصمتها للحصول على تأشيرات بعض الدول الغربية خصوصاً. ومن تيزي وزو توجه إلى فرنسا يدعوها إلى الكف عن اعتبار الجزائر محمية من محمياتها. - واختار الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي شعار "رئيس كل الجزائريين"، لكنه فضل في حملته الانتخابية الانتصار إلى "الطبقة المتوسطة" التي افقرتها عملية "التحول الفوضوي" من الاقتصاد الموجه إلى الاقتصاد الحر. - وتحت شعار "التغيير والحريات" دخل مولود حمروش الحملة الانتخابية، وكان أكثر المترشحين حماساً واندفاعاً إلى درجة المطالبة ب"رحيل الحكام الحاليين". - واختار حسين آيت أحمد شعار "الصدق والمصداقية" وحمل طوال الحملة الانتخابية على فترة بومدين واحتمال عودتها بوجه أو بآخر، في إشارة واضحة إلى بوتفليقة. - واختار عبدالله جاب الله شعار "معاً من أجل الاصلاح والبناء"، منتقداً طوال الحملة الانتخابية "رجال الماضي الذين ساهموا بدرجات متفاوتة" في ما آلت إليه الجزائر اليوم. ويدعو جاب الله إلى اختيار "المرشح الذي لم يسبق له أن تقلد مسؤوليات في الدولة". وبهذا المقياس يقصي طبعاً بقية المتنافسين من آيت أحمد إلى الخطيب! - واختار سيفي لحملته الانتخابية "نعم... للأمل" شعاراً، ويرى ان "أزمة الجزائر" هي "أزمة مسيرين" في الدرجة الأولى. ويدعو الناخبين إلى اختيار "رئيس مسيّر" وهو ما ينطبق على حاله حسب تقديره لأوضاعه الشخصية. - أما يوسف الخطيب، المستشار السياسي السابق للرئيس زروال، فقد اختار شعار "القطيعة"، داعياً إلى تجاوز النظام القائم منذ استقلال البلاد باعتباره سبباً في "كارثة الجزائر" الراهنة. ويزعم الخطيب الذي تقلد مسؤوليات عليا خلال الفترة من 1962 إلى 1967 انه لم يشارك في هذا النظام ومن ثم فهو الأحق بخلافته. ديون 30 مليار دولار وكشفت الحملة الانتخابية ظواهر عدة، أبرزها: - غلبة شخصيات المرشحين على برامجهم. وأحسن تعبير على ذلك ما قاله الخطيب حين سُئل عن برنامجه، الذي تأخر في اعلانه مقارنة بمنافسيه، فأجاب باختصار بما معناه: "أنا البرنامج"! وقد تعود هذه الظاهرة إلى أن حال البلاد المرتبطة باتفاقات صارمة مع المؤسسات المالية الدولية بحكم الديون الخارجية المتراكمة عليها أكثر من 30 مليار دولار، أغلقت باب الاجتهاد إلى حد ما على هذا الصعيد. - غلبة دعاة المصالحة والحوار والسلم، فصوت الخطيب الاستئصالي، المدعوم بقدر من الاحتشام من جانب مقداد سيفي، لا يكاد يسمع أمام الأصوات القوية لبوتفليقة والإبراهيمي وحمروش وآيت أحمد وجاب الله الذي يذهب بعيداً من أجل ذلك باعلان "قبول التوبة حتى من القتلة"! - تألف خمسة من المرشحين هم: الإبراهيمي وحمروش وآيت أحمد وجاب الله والخطيب، على بوتفليقة لأسباب عدة أهمها: تصفية حسابات قديمة تعود إلى أزمة صيف العام 1962 التي كرست هزيمة أنصار الحكومة الموقتة وبينهم ايت أحمد والخطيب اللذان ما زالا يكنان حقداً دفيناً لبومدين ورفاقه. اتهام بوتفليقة ب"تحريف" مسار الانتخابات الرئاسية عندما عرض نفسه على بعض الأحزاب التي لم تتحرج من تزكيته. والأحزاب المشار إليها هي: "التجمع الوطني الديموقراطي" و"جبهة التحرير الوطني" و"حركة النهضة"، وهي تملك الغالبية حالياً في البرلمان والمجالس المحلية. اتهام جهات في الجهازين الأمني والإداري بالعمل في الخفاء لمصلحة بوتفليقة. وصرح بذلك الإبراهيمي أكثر من مرة في مهرجاناته الشعبية خلال الحملة الانتخابية. والملاحظ أن هناك تنسيقاً وثيقاً بين الإبراهيمي وآيت أحمد وحمروش بخصوص اتهام الإدارة ب"تبييت نية تزوير الانتخابات الرئاسية". ويعتبر الدكتور الإبراهيمي نفسه الضحية الأولى لهذه "النية المبيتة"، إذ أكد في تصريحاته "ان الإدارة تدعو لمرشح بعينه بوتفليقة وتتحامل على مرشح بعينه" قاصداً نفسه. وأبدى محمد السعيد الناطق باسم الإبراهيمي في كلمة بثت في 31 آذار مارس الماضي تخوفه من النقاط الآتية: أولاً، ان معظم البلديات تسيّرها مجالس، غالبيتها تنتمي إلى حزبين يناصران مرشحاً بعينه التجمع الوطني وجبهة التحرير. ثانياً، ان 11 وزيراً في الحكومة الحالية التي تشرف على الانتخابات الرئاسية أعلنوا تأييدهم لبوتفليقة في إطار الحزبين المذكورين. ثالثاً، "هناك جنرال متقاعد العربي بالخير ينشط مع بعض العسكر جهاراً نهاراً لفائدة مرشح بعينه". وذهب الناطق باسم الإبراهيمي بعيداً في كلمته عندما ناشد الرئيس زروال مباشرة "التدخل لضرب رؤوس التزوير قبل فوات الاوان"! ويتبين من الاحتكاك بحاشية المرشحين السبعة وأنصارهم ان هناك قناعة راسخة لديهم بأن قصب السبق سيكون من نصيب مرشحهم. ومن أسباب هذه الذاتية المفرطة، وما يمكن أن يترتب عليها، غياب آليات استطلاع الآراء التي يمكن أن تعرف المرشحين على الأقل بحقيقة أحجامهم على الصعيد الشعبي. وهناك أربعة مرشحين اختاروا الاحتكام مباشرة إلى جمهور الناخبين من دون تنظيمات حزبية في حجم هذا الاختيار، بناء فقط على تقديرهم لأنفسهم وتشجيع بعض الأصدقاء والمناصرين. ونعني بهم: الإبراهيمي وحمروش وسيفي والخطيب. ومن الطبيعي أن تظهر في مثل هذه الأجواء "عمليات سبر" موجهة، تدل نتائجها على الجهة التي تقف وراءها. في مطلع السنة وقبل اعلان المرشحين رغبتهم في خوض الانتخابات الرئاسية، سربت الصحافة المحلية نتائج استطلاع ربما أشرفت عليه مصالح وزارة الداخلية الجزائرية، تعطي بوتفليقة سبقاً بالمقارنة مع أبرز منافسيه، من حمروش إلى الإبراهيمي وآيت أحمد. وتعطي هذه النتائج بوتفليقة نسبة تراوح بين 25 و27 في المئة من الأصوات، يليه حمروش بنسبة تراوح بين 17 و19 في المئة، فآيت أحمد 13 و16 في المئة، بينما تعطي الإبراهيمي نسبة تقل عن 10 في المئة. ويبدو ان أنصار هذا الأخير فهموا "الرسالة" فردوا عليها بعملية بديلة سربت نتائجها إلى وسائل الإعلام، مفادها ان الانتخابات الرئاسية ستشهد دوراً ثانياً سيقتصر التنافس فيه على الإبراهيمي وآيت أحمد. ونسبت نتيجة هذا الاستطلاع إلى مؤسسة رسمية هي معهد الدراسات الاستراتيجية الذي سارع لتكذيب الخبر، مؤكداً "ان عمليات سبر الآراء لا تدخل في نطاق صلاحياته". وقبل ان يسقط المجلس الدستوري في 11 آذار محفوظ نحناح من قائمة المرشحين، نشر أنصاره في العاصمة نتائج استطلاع للرأي ترجح فوزه في الدور الأول بنسبة لا تقل عن 52 في المئة من الأصوات. وذكرت صحيفة محلية أخيراً ان أنصار بوتفليقة يتحدثون عن نتائج استطلاع للآراء تؤكد فوزه بالنسبة آنفة الذكر في الدور الأول. ويتوقع معظم المراقبين في العاصمة الجزائرية ان ينحصر التنافس على المرتبة الأولى في السباق الرئاسي أساساً بين بوتفليقة والإبراهيمي، سواء حسم الأمر في الدور الأول أو تأجل إلى الثاني. ويرجح هؤلاء ان يكون التنافس على المرتبة الثالثة بين حمروش وآيت أحمد، ويمكن ان يكون ترتيب بقية المرشحين كما يلي: جاب الله يليه سيفي وبعدهما الخطيب. ويبني المراقبون توقعاتهم على أساس أن أهم قوتين في الساحة السياسية هما الوطنيون والإسلاميون، كما تؤكد ذلك نتائج الانتخابات التعددية منذ حزيران يونيو 1990. ففي محليات 1990 وتشريعات 1991 حلت جبهة الانقاذ في المرتبة الأولى، بينما اكتفت جبهة التحرير الوطني الحزب الحاكم السابق بالمرتبة الثانية. وفي رئاسيات 1990 انقلب الوضع لمصلحة الوطنيين بفوز الرئيس زروال على متحديه الأول نحناح ممثل التيار الإسلامي. وتأكد هذا الاتجاه في محليات وتشريعيات 1997 التي كرست فوز الوطنيين من خلال "التجمع الوطني" و"جبهة التحرير" واكتفاء الإسلاميين الممثلين بكل من "حركة مجتمع السلم" و"حركة النهضة" بالمرتبة الثانية. وتفضي هذه التقديرات إلى القول إن الدكتور الإبراهيمي الذي استطاع استقطاب أكثر الحركات الإسلامية شعبية جبهة الإنقاذ المحظورة، يشكل المتحدي الأول في الانتخابات الرئاسية لبوتفليقة الذي نجح بدوره في كسب تأييد الكتلة الوطنية ممثلة في "التجمع الوطني" و"جبهة التحرير". ولا يستبعد المراقبون أن يصوت جزء من الناخبين الوطنيين لمصلحة الإبراهيمي، ويصوت جزء من الإسلاميين لبوتفليقة الذي سبق أن كسب مساندة "حركة النهضة". مواجهة غير متكافئة ومع ذلك، تبدو المواجهة بين الرجلين غير متكافئة بالنظر إلى عاملين رئيسيين: أولهما ان تكتل أحزاب مهمة يقف وراء بوتفليقة، منها خمسة أحزاب ممثلة في البرلمان، فضلاً عن عدد من المنظمات المهمة مثل "اتحاد الفلاحين" و"اتحاد العمال" وعدد من الجمعيات. ويتمثل العامل الثاني في ان التوزيع الجغرافي للمرشحين يميل أيضاً لمصلحة بوتفليقة باعتباره المرشح الوحيد عن الغرب الجزائري. ويقع مسقط رأس الإبراهيمي في ولاية برج بوعريريج بين الشرق والوسط، ويمكن ان يحسب على هذه الجبهة كما يمكن ان يحسب على الأخرى. والخلاصة ان ثمة أكثر من سيناريو بخصوص النتائج المتوقعة للانتخابات الرئاسية الجزائرية، أولها مبني على فرضية فوز بوتفليقة في الجولة الأولى بنسبة تراوح بين 52 إلى 54 في المئة من الاصوات. أما السيناريو البديل فهو مبني على دور ثانٍ يكون التنافس فيه شديداً بين بوتفليقة والإبراهيمي الذي قد يحقق المفاجأة، وإن كان معظم المراقبين يستبعدون ذلك، مرجحين فوز بوتفليقة في هذه الحالة أيضاً. أما السيناريوهات الأخرى، فهي تتوقع دوراً ثانياً يواجه فيه بوتفليقة حمروش أو آيت أحمد