من الصعب الجزم بحكم صناديق الاقتراع والتكهن باسم المرشح الذي سيعتلي سدة الرئاسة، فالمفاجأة تبقى سيدة الموقف على رغم وجود مؤشرات قوية تؤكد احتمال فوز عبدالعزيز بوتفليقة، خصوصاً بعد قرار حزب الشيخ محفوظ نحناح مساندته بالتضامن مع "التجمع الوطني الديموقراطي" وجبهة التحرير الوطني وحزب النهضة. وتشغل هذه الاحزاب 83 في المئة من مقاعد البرلمان وتهيمن على الغالبية الساحقة من البلديات. هذا الحدث دفع بعض المراقبين الى التأكيد على ان العملية الانتخابية فقدت عنصر المفاجأة وغابت عنها الاسئلة سوى هل سيفوز بوتفليقة في الدور الاول ام سيتطلب الأمر اجراء جولة ثانية؟ الا ان العديد من المراقبين يرى ان وزن الشخصيات المتنافسة سيؤدي الى تشتت الأصوات ما يرجح احتمال اجراء دوره ثانية. وستكون المنافسة بين عبدالعزيز بوتفليقة وأحمد طالب الابراهيمي. ويرجح هذا الاحتمال هو ان كلاً من القطبين الوطني واحزاب التيار الاسلامي المعتدل والقطب الاسلامي وتيار احزاب المصالحة الوطنية، يستلهمان مشروعهما المتعارضين عن كيفية حل الازمة، من السلطة والفعاليات السياسية والاجتماعية او من مشروع "جماعة روما" والقوى التي تسنده. كشف الخطاب الانتخابي لكل منهما ملامح المشروعين المتقابلين. فالمتابع لخطاب بوتفليقة يلاحظ انه يلتقي في الجوهر مع مواقف السلطة سواء منها ما يتعلق بالارهاب او المصالحة الوطنية او الخيار الاقتصادي، ويظهر الالتقاء على مدلول "المصالحة الوطنية" وحدودها والأطراف المعنية بها، فهي لا تعني لديه رفع الحظر عن "جبهة الانقاذ" واشراكها في الحوار الوطني. ومن الواضح ان هذا الموقف يتطابق مع ما دأب النظام على تكراره من "ان ملف الانقاذ اغلق نهائياً". ويبدو من كل ذلك ان برنامج بوتفليقة هو مواصلة برنامج الرئيس زروال لحل الأزمة. لا شك في ان زروال حشر خصومه في الزاوية بقرار اجراء انتخابات مبكرة لكن الشيء الأكيد ان الجهات المتنفذة في الحكم تصرفت بحكمة وخبرة لا للخروج من المأزق فحسب بل لاستثمار هذا الحدث وتحويله الى فرصة لقطع خطوة جديدة في مسار انجاز مشروعها لحل الأزمة، اذ وظفت مكتسبات المرحلة السابقة وتبدو نتائج ذلك أساساً في اجماع التيار الوطني على مرشح واحد، وهو ما يعني سد كل الثغرات التي قد ينفذ منها خصومها السياسيون. وبغض النظر عن الجدل الذي اثير حول دور محتمل للجيش في ترشيح بوتفليقة فإن رؤيته وثوابت خطابه الانتخابي، تجعل منه مرشحا مقبولاً للسلطة. علاوة على ان عديد المعطيات تؤكد ما يذهب اليه خصومه، اذ يرى العديد من المراقبين انه ليس مصادفة ان يكون بوتفليقة مرشح حزب السلطة "التجمع الوطني الديموقراطي" وشريكه في الائتلاف الحاكم "جبهة التحرير الوطني"، كما انها ليست مصادفة ان يحظى بدعم المركزية النقابية الحليف التقليدي للسلطة، وأخيراً ان يحظى بمباركة الجنرال المتقاعد خالد نزار صاحب النفوذ القوي في المؤسسة العسكرية. يتضح من مختلف هذه المعطيات انه من الصعب ان تسحب على بوتفليقة صفة "المرشح المستقل" ولعل الوصف الاكثر انطباقاً على هذه الحالة هو "مستقل تسنده السلطة". لكن بعض الجهات المستقلة فضلاً عن انصاره لا يأبهون بهذا الجدل ويعتبرون ان بوتفليقة رجل المرحلة وان بحوزته العديد من الأوراق التي تساعده على إخراج البلاد من عنق الزجاجة. فهو يتمتع بمواصفات تؤهله لاعادة بناء "الجبهة الوطنية" وتجديد رسالة التيار الوطني. ولا شك في ان حرص بوتفليقة على تحقيق "اجماع" على شخصه من قبل القوى المهيمنة على المقدرات السياسية والاقتصادية للبلاد، وفي الآون ذاته من قبل الفعاليات الشعبية التي سعى الى اثارة حنينها الى "الماضي السعيد"، جعله يتحاشى التشديد على قضايا الفساد والارتشاء، او ما يصطلح عليه "بالمافيا الجديدة" التي اضحت فاعلية اساسية لا في المجال الاقتصادي فحسب بل ايضا في المجال السياسي. قد يكون هذا التوجه ثمرة خبرته السياسية، وحسه البراغماتي، فهو لا يريد ان يفتح حرباً على كل الجبهات كما فعل محمد بوضياف. فالمهم حالياً هو تجميع الشروط التي تساعده على الارتقاء لسدة الحكم، ثم "لكل مقام مقال". الا ان محاولة تجميع ما يعسر تجميعه قد يؤدي الى نتائج عكسية لأن النخبة وقطاعات واسعة من الرأي العام لا تشاركه تقويم "للبومدينية" اذ ترى ان المأساة الجزائرية تجد جذورها في النظام السياسي والاقتصادي الذي أرساه هواري بومدين. كما ان لفئات الشعبية ترى ان سبب معاناتها وبؤسها هو الفساد والتلاعب بثروات البلاد من قبل مراكز قوى سخرت النفوذ السياسي للاثراء وها هي تسخر اليوم الثراء للهيمنة على المقدرات السياسية للبلاد. ويرى العارفون بخبايا الشأن الجزائري ان الرأي العام ليس هو العامل الحاسم وان مواصفات الوضعية السياسية والدور الذي ما زالت تلعبه اجهزة الدولة وان بشكل غير مرئي في تقرير نتائج العملية السياسية يجعل بوتفليقة من اوفر المترشحين حظاً في الفوز بالرئاسة. فالأجهزة الفاعلة في المجالين السياسي والاجتماعي تتحرك بقوة ومن دون استثناء لصالحه. وفي حال وصوله الى الدورة الثانية فمن المرجح ان يستقطب اصوات القاعدة الانتخابية للأحزاب الديموقراطية العلمانية. ففي غياب مرشح يعبر عن هويتها فإنها ترى في شخص بوتفليقة الرجل المؤهل لتحصين البلاد وحمايتها من السقوط في قبضة ما تسميه بتحالف "الوطنيين المحافظين والأصوليين". ولا يستبعد من جهة اخرى ان يحصد بوتفليقة اصوات قطاع مهم من القاعدة الانتخابية لكل من حمروش والخطيب وسيفي. فهذه القاعدة التي تتشكل اساساً من الجيل المخضرم والشباب التي تتعلق بقيم الديموقراطية والحداثة والتغيير والتجديد وتأخذ مسافة واضحة تجاه طروحات السلطة والاسلاميين على حد السواء، هذه القاعدة قد تجد نفسها امام خيار صعب بين الابراهيمي وبوتفليقة، فهل ستدعم الابراهيمي الذي تلتقي مع دعوته للتغيير وتخشى من توجهاته العروبية والاسلامية، ام ستناصر بوتفليقة الذي تلتقي مع رؤيته في التعاطي مع الاسلاميين لكن تقف على النقيض من مشروعه السياسي الذي يرى فيه تكريساً للنظام القائم؟ وانطلاقاً من هذه المعطيات فإن الجهات المتنفذة في الحكم التي لا تزال تتحكم في خيوط اللعبة السياسية ليست بحاجة لارتكاب "حماقات" او للتدخل السافر لتغيير نتائج الانتخابات، خصوصاً انها مقتنعة بأن الاقدام على مغامرة اخرى قد ينسف كل البناء. ولتفادي ذلك اخذت مسبقا كل التحوطات وجمعت كل الشروط وأدوات التعبئة التي تجعلها مطمئنة سلفاً الى ان النتائج ستكون في الغالب لصالح مرشحها المفضل. ويقف قبالة بوتفليقة احمد طالب الابراهيمي، المعروف بتوجهاته القومية والاسلامية. والابراهيمي لا يرى اي تعارض بين الاخذ بأسباب التمدن الاوروبي واكتساب التكنولوجيات الحديثة والحفاظ في الآن على المقومات الثقافية والحضارية للدولة الجزائرية، بل يذهب الى انه لا سبيل لتحقيق النهضة الا بتأصيل الحداثة وتنزيلها في معطيات الواقع الوطني. لعب الابراهيمي دوراً محدداً في تعريب التعليم وتكريس هذه القناعات اثناء توليه حقائب التربية والثقافة والاعلام في عهد بومدين، تلك السياسات التي ناهضها خصومه واعتبروها مصدر الأصولية في اوساط الشباب. ولا غرابة في ان يكون الابراهيمي من انصار "المشروع الاسلامي" الذي رسم ملامحه رواد الفكر الاصلاحي. فالرجل سليل احد البيوت العلمية العريقة، ونجل الشيخ طالب الابراهيمي، رفيق الشيخ ابن باديس واحد اعلام "جمعية العلماء" التي يرجع لها الفضل في صون هوية الجزائر من المسخ الاستعماري. ومن ثم فان قناعات الابراهيمي ليست مسقطة، فهو تشرب تلك القناعات وتغذى بها في وسطه العائلي ولم يتزحزح عنها على رغم تشبعه بالثقافة الغربية وتكلمه اللغة الفرنسية. ومنذ اندلاع الأزمة، وجد نفسه في بوتقة الفعاليات العروبية الاسلامية داخل جبهة التحرير التي كان يقودها عبدالحميد مهري، الذي غامر بدفع الجبهة الى التحول من موقع السلطة الى موقع المعارضة والتحالف مع "جبهة الانقاذ" والانخراط في مجموعة "العقد الوطني". ومن هذه الزاوية يمكن القول ان الخطوط الكبرى لبرنامج الابراهيمي ورؤيته لحل الأزمة الجزائرية تقع على النقيض من مشروع السلطة، وتلتقي في العمق مع طروحات "العقد الوطني" ومقترحاته. ويعزى الخلاف الواضح بين رؤية بوتفليقة وبين رؤية الابراهيمي للمصالحة الوطنية الى تقويمين مختلفين لجذور الأزمة وطبيعتها والى الموقف من تدخل الجيش لوقف المسار الانتخابي، ففيما يؤيد بوتفليقة وان ضمناً المؤسسة العسكرية ويحمل مسؤولية الأزمة لجبهة الانقاذ، يعتقد الابراهيمي ان الأزمة هي أساساً أزمة سياسية وان السبب الجوهري لاندلاع ظاهرة العنف هو الاعتداء على الشرعية واصرار النظام على رفض كل حوار جدي لتحقيق المصالحة الوطنية وتوفير الشروط السياسية للقضاء على ظاهرة الارهاب. ويلتقي الابراهيمي من جهة اخرى مع قادة احزاب "العقد الوطني" في معارضتها لخطة الحكم ومقاربته لعملية التحول الديموقراطي. ويعتقد هؤلاء ان اي حل حقيقي ودائم للأزمة ينبغي ان يضع كأولوية تغيير طبيعة النظام السياسي. وذلك من خلال توفير الشروط ووضع الآليات الكفيلة باعادة الاعتبار للخيار الشعبي وبانسحاب المؤسسة العسكرية وان تدريجاً عن حقل النشاط السياسي. هذه التوجهات الفكرية والسياسية ترشح الابراهيمي لاستقطاب القاعدة الانتخابية للجبهة "الاسلامية للانقاذ" التي اعلنت ان الابراهيمي هو الشخص المؤهل لاخراج البلاد من الازمة، ومن المرجح ايضاً ان يحظى بدعم الفعاليات العروبية والاسلامية في "جبهة التحرير الوطني". وفي حال وصوله الى الجولة الثانية فمن المتوقع ان يحظى بدعم انصار جاب الله ويستقطب اصوات قطاع مهم من القاعدة الانتخابية "لجبهة القوى الاشتراكية" و"حزب العمال" بزعامة لويزة حنون اذا قررت المشاركة في الدورة الثانية. كما لا يستبعد المراقبون ان يستقطب اصوات قطاع مهم من القاعدة الانتخابية لمولود حمروش وجزء من قواعد حزب الشيخ نحناح التي قد لا تنضبط لتعليمة الحزب بدعم بوتفليقة. باختصار سيحصد الابراهيمي عندما يبقى وجهاً لوجه مع بوتفليقة اصوات الغالبية الساحقة من القاعدة الانتخابية لكل الاحزاب والفعاليات ذات التوجه العروبي الاسلامي وأصوات قطاع مهم من دعاة التغيير وممن قد يصوتون "تصويتاً عقابياً". لكن نقطة ضعفه بالمقارنة مع منافسه ان بوتفليقة يتمتع بدعم جهاز ضخم وبفعاليات سياسية واجتماعية واضحة الملامح والاختيارات والاهداف بينما يفتقر الابراهيمي لذلك. لكن ترجيح جل المراقبين وصول هذين المرشحين الى الجولة الثانية لم يمنع البعض من الاشارة الى ان مولود حمروش قد يصنع المفاجأة ويزيح الابراهيمي الا ان هذا الاحتمال يبقى ضعيفاً، لأن حمروش الذي يجد خطابه صدى في اوساط الشباب والنخب والفئات الاجتماعية الطامحة لتغيير جذري للنظام يفتقر لسند تنظيمي قوي يمكن ان يحول الخطاب الى فاعلية مؤثرة في عملية الاقتراع. الى ذلك ان الرأي العام ما زال يحدد مواقفه انطلاقاً من الولاءات التقليدية ويتجاوب عموماً مع طروحات ومقالات التيارين الوطني والاسلامي التي تستند الى المخزون الثقافي والمخيال الجماعي للجماهير العريضة. اما حظوظ آيت أحمد زعيم "جبهة القوى الاشتراكية" فتبدو ضئيلة في الوصول الى الجولة الثانية فضلاً عن الفوز بالرئاسة على رغم قيمة الرجل. ويعزى ذلك الى الدور المحدد الذي يلعبه العامل الجهوي والثقاي في تحديد ولاءات الناخبين كما يعزى الى معارضته المنهجية لسياسات النظام التي حملت السلطة على السعي باستمرار لتهميشه وترسيخ الانطباع بالطابع الجهوي لحزبه. عارض آيت أحمد باستمرار سياسة الاقصاء والاستئصال ودعا للحوار والمصالحة الوطنية ولا غرابة ان تتسم مواقفه من النظام بمثل هذه الشدة والقوة، فهذا الزعيم التاريخي لحركة التحرر الوطني والمعارض "العنيد" الذي تزعم المعارضة الجزائرية منذ الاستقلال لم تهده السنوات ولم يغادره الأمل في رؤية الجزائر كما حلم بها ورفاقه إبان الثورة. وبغض النظر عمن سيفوز في الاستحقاق الرئاسي فإن قيمة هذا الحدث وانعكاساته سلباً او ايجاباً على مسار حل الازمة سيبقى رهناً في مدى صدقية الانتخابات، فاذا توافر فيها الحد الضروري من النزاهة والشفافية والجدية التي تؤمن لها صفة التعبير عن الارادة الشعبية وتحمل كل الفرقاء على التسليم بالنتائج فإن ذلك سيكون نصراً لا للسلطة فحسب بل للمسار الديموقراطي ككل على رغم كل الملابسات. لكن يبدو ان السلطة تريد ان تحقق من هذه الانتخابات هدفاً مزدوجاً فهي لا تسعى لضمان فوز مرشحها المفضل فحسب وانما تسعى ايضا لكسب رهان الشفافية والنزاهة لأن كسب هذا الرهان يعني ان التجربة الديموقراطية اصبحت تتسع لخيار آخر غير خيار السلطة وهو ما يؤذن بنهاية مرحلة وبداية اخرى.