"محمد الحبيب العقارية" تدخل موسوعة جينيس بأكبر صبَّةٍ خرسانيةٍ في العالم    "دار وإعمار" و"NHC" توقعان اتفاقية لتطوير مراكز تجارية في ضاحية خزام لتعزيز جودة الحياة    البصيلي يلتقي منسوبي مراكز وادارات الدفاع المدني بمنطقة عسير"    مصرع 12 شخصاً في حادثة مروعة بمصر    ماجد الجبيلي يحتفل بزفافه في أجواء مبهجة وحضور مميز من الأهل والأصدقاء    رؤساء المجالس التشريعية الخليجية: ندعم سيادة الشعب الفلسطيني على الأراضي المحتلة    قرارات «استثنائية» لقمة غير عادية    «التراث»: تسجيل 198 موقعاً جديداً في السجل الوطني للآثار    رينارد: سنقاتل من أجل المولد.. وغياب الدوسري مؤثر    كيف يدمر التشخيص الطبي في «غوغل» نفسيات المرضى؟    عصابات النسَّابة    «العدل»: رقمنة 200 مليون وثيقة.. وظائف للسعوديين والسعوديات بمشروع «الثروة العقارية»    محترفات التنس عندنا في الرياض!    رقمنة الثقافة    الوطن    فتاة «X» تهز عروش الديمقراطيين!    ذلك «الغروي» بملامحه العتيقة رأى الناس بعين قلبه    هيبة الحليب.. أعيدوها أمام المشروبات الغازية    صحة العالم تُناقش في المملكة    المالكي مديرا للحسابات المستقلة    استعراض جهود المملكة لاستقرار وإعمار اليمن    وصول الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 إلى لبنان    أسرة العيسائي تحتفل بزفاف فهد ونوف    بحضور الأمير سعود بن جلوي وأمراء.. النفيعي والماجد يحتفلان بزواج سلطان    أفراح النوب والجش    الطائرة الإغاثية السعودية ال 23 تصل إلى لبنان    أكبر مبنى على شكل دجاجة.. رقم قياسي جديد    استعادة التنوع الأحيائي    الطائف.. عمارة تقليدية تتجلَّى شكلاً ونوعاً    الخليج يتغلّب على كاظمة الكويتي في ثاني مواجهات البطولة الآسيوية    لاعبو الأندية السعودية يهيمنون على الأفضلية القارية    «جان باترسون» رئيسة قطاع الرياضة في نيوم ل(البلاد): فخورة بعودة الفرج للأخضر.. ونسعى للصعود ل «روشن»    تعزيز المهنية بما يتماشى مع أهداف رؤية المملكة 2030.. وزير البلديات يكرم المطورين العقاريين المتميزين    حبوب محسنة للإقلاع عن التدخين    أجواء شتوية    المنتخب يخسر الفرج    رينارد: سنقاتل لنضمن التأهل    ترامب يختار مديرة للمخابرات الوطنية ومدعيا عاما    قراءة في نظام الطوارئ الجديد    فيلم «ما وراء الإعجاب».. بين حوار الثقافة الشرقية والغربية    «الشرقية تبدع» و«إثراء» يستطلعان تحديات عصر الرقمنة    «الحصن» تحدي السينمائيين..    الرياض .. قفزات في مشاركة القوى العاملة    مقياس سميث للحسد    أهميّة التعقّل    د. الزير: 77 % من النساء يطلبن تفسير أضغاث الأحلام    كم أنتِ عظيمة يا السعوديّة!    التقنيات المالية ودورها في تشكيل الاقتصاد الرقمي    السيادة الرقمية وحجب حسابات التواصل    العريفي تشهد اجتماع لجنة رياضة المرأة الخليجية    الذاكرة.. وحاسة الشم    السعودية تواصل جهودها لتنمية قطاع المياه واستدامته محلياً ودولياً    أمير المدينة يتفقد محافظتي ينبع والحناكية    وزير الداخلية يرعى الحفل السنوي لجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية    محافظ الطائف يرأس إجتماع المجلس المحلي للتنمية والتطوير    نائب أمير جازان يستقبل الرئيس التنفيذي لتجمع جازان الصحي    محمية جزر فرسان.. عودة الطبيعة في ربيع محميتها    إضطهاد المرأة في اليمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"مهيار الدمشقي" على أطلال القرن يقيس نفسه بالعاصفة . معتبراً أن الفكر العربي أصولي لانه ينطلق من حقائق نهائية أدونيس ل "الوسط" : جميع الشعراء الكبار كانوا "خونة" لأوطانهم
نشر في الحياة يوم 01 - 11 - 1999

لا يمكن الخوض في حصيلة القرن المنتهي، من دون الوقوف مليّاً عند المنجز الابداعي والفكري لأدونيس الذي يعتبر من شهوده الاستثنائيين، وأعلامه البارزين. وها هو الشاعر يسأل: "لماذا لا يُدرس الماضي الا امتداحاً وتمجيداً، كأنه سلطان على الدّارس ان ينحني أمامه؟"، معتبراً أن تمجيد الماضي ليس الا انعكاساً "للواحديّة الفكريّة". وفي هذا الحوار المتفجّر، يعتبر صاحب "الثابت والمتحوّل" و"الكتاب" أن "الشعر انشقاق". وحين يسأل عن مسألة الريادة الشعريّة، يجيب مذكّراً أن "الحركة الشعريّة العربيّة أعمق بعداً من سؤال البدايات"، ولا يتردد في اتهام أصحاب هذه التساؤلات بأنّهم لا يعرفون تاريخ الشعر. فالشعر بالنسبة إلى أدونيس لا يمكن أن يكون سوى "انفجار متواصل في تصدعات زمنية متواصلة، وهو لذلك ضد "الوطن" براهنيته المؤسسية الايديولوجية".أدونيس شاهد عربي رئيسي على هذا القرن الذي يقف الآن عند نهاياته متأمّلاً، تتنازعه الخيبة والمرارة، من دون أن يفقد شيئاً من زخمه الابداعي وحماسته، ومن غير أن تخسر نظرته النقديّة إلى البنى السائدة، ولو نزراً يسيراً من راديكاليّتها وصفائها. وهذا الشاعر الكبير، والناقد المتمكّن للتراث الشعري، والرائي الذي بنى تجربته المتجذّرة في الوعي العربي على النقض والاستشراف، أثار وما زال يثير الكثير من الانتقادات بسبب مواقفه الجذريّة والصداميّة، كما يبدو صاحب "مهيار" أحياناً ضحيّة سوء تفاهم نظري عميق، سببه قصور في الوعي، وانحسار في الأفق الفكري والسياسي، وتراجع النقاش إلى مواقعه الخلفيّة واعتباراته البدائيّة.
أين أدونيس اليوم، في القرن الحادي والعشرين الذي يدخله العالم العربي متردداً ومتعثّراً، من تطلّعاته ومشروعه الثقافي الذي طبع أجيالاً عدّة من المحيط إلى الخليج؟ كيف ينظر الشاعر الذي يستعدّ لاصدار "قصيدة - رواية" تقترب من السيرة الذاتيّة في مجتمع يرفض الشفافيّة والصدق، إلى المشهد الثقافي العربي، إلى الحركة الشعريّة، إلى الفرد العربي المغيّب بين تقديس الماضي والخوف من المستقبل؟ إلتقينا الشاعر مراراً في العاصمة الالمانيّة الجديدة، حيث أمضى سنة كاملة في اطار منحة تفرّغ من "معهد برلين للدراسات المتعمّقة"، وأجريناً حواراً طويلاً هنا أبرز محاوره.
كثرت الانشغالات النقدية بالبدايات الفعليّة ل "حركة الشعر العربي الحديث"، فما رأيك بالسجال الدائر حول تلك القضيّة الشائكة؟
- هذه التساؤلات ضرورية وطبيعية، اذا كان الغرض منها التاريخ، والدقة التاريخية، اما اذا كان الغرض التقويم والتفضيل، فهي باطلة ومضحكة. فلا تكمن القيمة الفنية في مجرد البدء الزمني. والغريب أن اصحاب هذه التساؤلات يبدو كأنهم لا يعرفون تاريخ الشعر، ولا يعرفون حتى تاريخ شعرهم الخاص. بشار بن برد، على سبيل المثال، هو الذي بدأ الحداثة في تاريخنا الشعري العربي، غير ان أبا نواس الذي جاء بعده هو الأعظم. وشعراء الموشحات هم الذين سبقوا الى تفكيك وحدة البيت الشعري ووحدة تفاعيله. لكن ما تمّ، في هذا الاطار، في الحركة الشعرية العربية الحديثة، اكثر غنى، وأعمق بعداً.
ويعرف المهتمون جميعاً، لكي نأخذ مثلاً آخر من تراث شعري مختلف، ان الشاعر الفرنسي لوي بيرتراند، وكان يكتب باسم الوازيوس بيرتراند 1807 - 1841 هو اول من كتب قصيدة النثر في الشعر الفرنسي، وله مجموعة شعرية كاملة ظهرت بعنوان Gaspard de la nuit"مرزبان الليل". ونعرف ان بودلير نفسه الذي مات بعده بست وعشرين سنة 1821 - 1867 امتدح قصائد هذه المجموعة واعجب بها، ويقول عنه معجم روبير إنه احد رواد السوريالية. غير انه مع هذا كله، لا يقاس، شعرياً، ببودلير او رامبو او بمالارميه، وجميعهم جاؤوا بعده وكتبوا بشكلٍ كان هو السبّاق في استخدامه. يجب امتداح البادئين، لا شك، غير ان ما يجب ان ندركه بداهةً، هو ان مجرد الأسبقية الزمنية لا يتضمن بالضرورة الأسبقية الفنية او الابداعية. واستغرب كيف ان النقاد العرب الذين تشيرين اليهم لا ينتبهون الى هذه المسألة!
كيف يمكن تحديد بداية ما؟
- السؤال مطروح فعلاً! خصوصاً ان وراء كل بداية، بدايات. وليس الاصل الا سلسلةً من الأصول الاولى. المهم هو ماذا انجز الشاعر، وكيف، والى اين انتهى. الذهاب الى ابعد وأعمق: هذا ما يجب التوكيد عليه. ذلك ان القيمة ترتبط بهذا "الذهاب الى أبعد وأعمق".
سؤال الاصل يثير اشكاليّة خاصة لدى العرب، ناهيك بالصراع الدائم بين الذات والآخر...
- طبعاً. الباحث المفكر التونسي فتحي بن سلامة تحدث عن الاصل كما يتصوره العرب، واصفاً إياه بهذه العبارة النفّاذة: "الصرح القضيبي". لا تكون الذات العربية نفسها الا بقدر ما تتبنى "الاعجمي" مصيّرة إياه عربياً. فلا قوام للأصل الا بما هو غريب عنه. او لا قوام للذات الا بالآخر. ولعلّ خصوبة "الذات"، لا تجيء من "داخلها" بل من "خارجها"، أي ان الآخر هو الذي يخصبها. هل يعني ان ذلك "التهجين" هو الذي يؤسس؟ وان "الهجين" هو الاسم الأنقى ل"الاصيل"؟ وان الأكثر أصالة هو الأكثر أصولاً، او الأكثر تعدداً في أصوله؟ إن الانسان لا "يجيء" حقاً الى ذاته، او لا يصل اليها الا على الطريق التي اسمها "الغريب"، "الأعجمي"، "الآخر"، فلا تتحقق خصوصية الذات، الا عبر نوع من اللاخصوصية.
أُمّ القضايا
حول مسألة "الأصل"، يرى عبدالسلام الشدادي أن "المحيط العربي" قد يكون "أصل" اوروبا، وأن هذا الأصل قد يكون "أشدّ أصليّةً من اي أصلٍ آخر" وفقاً لتعبيره. غير ان اوروبا برأيه "تنفي هذا الاصل جوهرياً، وبأقصى ما لديها من قوة، وتنبذه بعنف …" فما رأيك؟
- تطرحين قضيةً ربما كانت اليوم، أُمّ القضايا، كما يقال. أود اولاً ان أسأل الاستاذ الشدادي: ما أصل هذا "المحيط العربي"؟ وأوسّع هنا حدود كلمة "أصل" لتشمل الجغرافيا والتاريخ والحضارة، وهي حدودٌ يرثها هذا المحيط ويعيش فيها. أفلا ينفي هذا المحيط هو كذلك "أصله" او "أصوله" نفياً جوهرياً؟ لم يمارس اي محيط في التاريخ كله، في الشعوب كلّها محوَ التوارث وطمسَ الجذور والارض، كما مارسه ولا يزال يمارسه "المحيط العربي". هكذا نرى ان العرب قبل الاسلام، والشعوب التي أسست للحضارة البشرية - السومريين الفراعنة، البابليين، الفينيقيين …الخ، "منفيون" جميعاً، وليسوا اكثر من جثث: جُثثٍ منبوذةٍ، وملعونة.
بل اننا نرى ان بعض ما أنجزه العرب انفسهم بدءاً مما قبل الاسلام من الفترة التي وصفت بالجاهلية، منفيٌّ وملعونٌ هو الآخر. ولا حاجة للخوض في ذلك. فهو في غاية الوضوح حاضراً وماضياً وفي مختلف الميادين. فليس "العقل" هو الذي يبني عالمنا المعرفي اليوم، وليس علم الجبر في تواصله، وفي ما بني عليه، او اشتقَّ منه علماً عربياً. أكتفي بذلك تمثيلاً لا حصراً. فالمحيط العربي انسلخ مما يشكل "هويته الابداعية"، واوروبا اخذت هذه الهوية وتبنتّها رؤيةً، ومتابعةً، وبناءً. ولم يعد لهذا المحيط أبٌ الا الله، ولم تعد له أمُّ إلا السماء.
وكيف نجابه، فكرياً، هذا الوضع؟
- اميل الى القول برأي الاستاذ الشدادي نفسه، وهو ان المشكلة الاولى التي ينبغي على العرب ان يدرسوها هي: لماذا وكيف اصبح الوعي العربي "هذا المركب غير المعقول حيث يختلط الماضي والحاضر والمستقبل، الواقعي والخيالي، التغييب والتبجح الفارغ، التحقير وتمجيد الذات …، ولماذا اصبح "هذا الماء العكر المساعد على ظهور الاشكالات الأشدّ همجية، وفي الآن ذاته، ممتنعاً على اي فكر واع وعن أي ابداع"؟ وتلك هي الخطوة الاولى لكي يقدّر الفكر العربي ان يعرف نفسه ولكي يستطيع من ثمّ ان يبدأ بوصفه فكراً - بحصر الدلالة.
غير ان هذه الخطوة تعيدنا الى الكلام على الماضي، والعرب منقسمون في نظرتهم الى الماضي بشكل يجعل البحث العلمي الموضوعي فيه امراً شبه مستحيل. ويكاد هذا الانقسام ان يكون على مستوى الهوية...
- صحيح ولهذا تهيمن في دراسة الماضي النظرة المرتبطة بالثقافة السائدة. وهي تقمع غيرها من النظرات، فتمنعها او تهمشها وفي كلّ حالٍ تنبذها. هكذا لا يُدرس الماضي الا امتداحاً وتمجيداً. كأنه سلطان على الدّارس ان ينحني امامه، وهو سلطانٌ لا يموت، عادلٌ، وحكيمٌ، ولا يخطئ - ولا مثيلَ له، عند الشعوب الاخرى. وغني عن القول ان هذه النظرة ساذجة الى درجة البدائية الفكرية. والحال ان الماضي لا يمكن ان يدرس الا بوصفه "تاريخاً" اي بوصفه "ميتاً" او بوصفه "انتهى". ويعني ذلك ان الماضي لا يُدرس الا على اساس "خلقه" من جديد، منظوراً اليه نظرةً جديدةً، ومركّباً تركيباً جديداً فالماضي ابتكار، او على الاقل يكون الماضي ابداعاً، او لا يكون الا مادةً ميتة. وقبل ذلك، لا يُدرس الماضي بوصفه وحدةً منسجمةً متناغمة وانما بوصفه مجموعة من الانشطارات والانشقاقات والتباينات والتناقضات. النظر الى الماضي بوصفه "وحدة" انعكاسٌ لهيمنة الواحدية السياسية والفكرية. وذلك هو الفكر الغيبي في شكله الايديولوجي الاول: تسييسُ السماء بوصفها وحدة، وتسييس الارض الخاصة بها، بوصفها وحدة، وتسييس الأمة التابعة لها بوصفها وحدة، وتسييس زمانها بوصفه وحدة، وتسييس ثقافتها بوصفها وحدة!
"شاعر غير وطني"؟
كلامك هنا على هذه الواحدية الايديولوجية يسمح بالانتقال الى الشعر. فأنت تطالب دائماً بأن تبقى اللغة متوحدة مع جماليتها، في معزل عن الرؤى والمشروعات الايديولوجية. ولهذا يقول عنك بعضهم انك شاعر "غير وطني"، فما هو شعورك عندما تسمع مثل هذه العبارة؟
- أرثي لمن يقولونها، فلا أحزن على نفسي، وانما علىهم وعلى مستوى وعيهم. غير انني لا استغرب هذا القول: فالشعر عندنا، حتى في وعي معظم شعرائنا لا يزال "ربابة" و"طنبوراً" من اجل إطراب "الشعب" وتمجيد "الوطن". والحق ان الشاعر لا يكون "وطنياً" او غير وطني، بالشعر. جميع الشعراء الكبار: بودلير، رامبو، مالارميه، باوند، اليوت، وقبلهم دانتي والمعري والمتنبي وابو نواس كانوا شعرياً "خونة" لأوطانهم. أقصد "الوطن" بهذا المعنى الذي يشير اليه اولئك "الوطنيون": مؤسسات وأنظمة وتقاليد وعادات ونضالات وحروب... والشعر خارج هذا كله. الشعر تحديداً انشقاق. او لأكرر ما يراه نيتشه، بعبارة اخرى يكون الشعر مُضاداً، او لا يكون.
الشعر انفجار متواصل في تصدعات زمنية متواصلة، وهو لذلك ضد "الوطن" براهنيته المؤسسية الايديولوجية. ضد كل ما هو سائد او راسخ. ضد المعتقدات والتقاليد وضد كل ما هو عام. وفي هذا الاطار يبدو الشعر الذي يسمى "وطنياً" شعراً مضحكاً وضد الشعر. والشاعر الذي يوصف شعره بأنه "وطني" لا يمكن ان يكون الا شاعراً رديئاً. وتكتمل الرداءة ويكتمل الضحك عندما يتحول هذا الشاعر نفسه الى رمز وطني - او الى قصيدة وطنية. حيث يصبح معادلاً للحاكم الأوحد، بوصفه الشاعر الاوحد. وتصبح اقواله واعماله نماذج لفرادة القول والعمل !
والواقع ان كثيراً من شعرائنا يعيشون ويكتبون بوحي من هذه "الوطنية الشعرية"، وبتأثير مباشرٍ منها. وما يلفت النظر في هذا الصدد هو ان شعرنا القديم اكثر ثقافة ومعرفة وفناً من شعرنا اليوم، فقد كان شعراً يحتضن ثقافة عصره بكاملها. لننظر مثلاً الى ابي نؤاس وابي العتاهية وابي تمام والمتنبي والمعري تمثيلاً لا حصراً، فهؤلاء لم يكونوا مجرد شعراء وانما كانوا الى ذلك ثقافةً كاملةً ومراحل تاريخية كاملة. وفي كتاباتهم ما يتيح لنا ان نفهم عصورهم اكثر مما تيح لنا كتابات المؤرخين، ناهيك بالفلاسفة: انهم يمثلون الابعاد الكاملة، الأفقية والعمودية، لمرحلة حضارية بكاملها. ويبدو معظم شعرنا الحديث - "الوطني" منه خصوصاً - قياساً الى ذلك، فقيراً وضحلاً، وكأنه يعيش في كوخٍ، معزولاً على طرف الحضارة والكون… يعزف على الربابة، او يدقّ على الطنبور…
غير أن الابعاد الثقافية - الكونية، او الابعاد الفكرية والفلسفية التي نراها في الشعر العظيم، كما اشرت، هي نفسها التي تدفع بعض الذين قرأوا ديوانك "الكتاب" بجزئيه، الى القول إنه يخلو من الشعر. فما تعليقك؟
- مرة ثانية لا استغرب مثل هذا الموقف. فالقارئ العربي يميل غالباً الى ان يرى النصّ الذي يقرؤه بمعيار عواطفه، حصراً، فلا يرى فيه الا انفعاله: ما يحبّ وما يكره، سواء اتصل الحب والكره بالنص او بكاتبه. ليست علاقة القارئ العربي بالنص علاقة حوار وتساؤل، او علاقة فكرية - انسانية، بل هي علاقة انفعالية تمليها ميوله ونزعاته. فلا يقرأ ب "عقله" أو ب "حاضره"، وانما يقرأ ب "ذاكرته" و"ماضيه". فالقارئ العربي منتمٍ ايديولوجي - تاريخاً، وثقافةً وتربية. لهذا قد يحدث ان تكون القراءة، في اطار الثقافة العربية السائدة، بين الافعال الآثمة الاولى، بحيث لا تقلّ إثماً عن أفعال الطغيان في مختلف اشكاله. وهكذا نرى اشكالاً من النقد مبنية على مثل هذه القراءة، او اشكالاً من الفهم والتأويل تشبه الأفعال الجرمية. وهي ليست في احيانٍ كثيرة الاّ اعداماً للنصّ المقروء يُضمرُ من حيث يشاء او لا يشاء "إعداماً" لكاتب النص. "الكتاب" قصيدة واحدة ذات بنية شبكية، بخطوطٍ تهبط وتصعد بشكل اوركسترالي -تخفت، تعلو، تهمس، تصرخ، تغيب، تحضر، تضطرب، وتهدأ، في حركةٍ من الجَزْر والمدّ ترمزُ الى بحرنا التاريخي بشواطئه ولججه… واين من ذلك الربابة واهلها، والطنبور وأهله؟
"سُرّة الأرض" !
بعد التدفق الهائل الذي عاشه الشعر العربي في عصوره الاولى، نلمس الآن غياباً كاملاً للقصيدة العربية على المسرح العالمي، اذا استثنينا نتاج بعض الشعراء، جزئياً او كلياً، وهم لا يتجاوزون في عددهم اصابع اليد الواحدة، فما اسباب ذلك، في رأيك؟ وهل ترى بين هذه الاسباب حصاراً يضربه الغرب على الثقافة العربية، كما يقول بعضهم؟
- اولاً هناك عوامل تتصل بسياسة النشر لدى دور النشر الغربية، وبوضعها الاقتصادي. وهي عوامل عامة تتحمل نتائجها الآداب الاخرى غير العربية، خارج اوروبا. ثانياً، اذا نظرنا بشكل موضوعي نرى ان هناك اهتماماً جيداً ومتزايداً بالنتاج الادبي العربي الحديث، روايةً وشعراً، في بلدان اوروبا كلها. فقد ترجمت ونشرت اعمال عربية مهمة وعديدة في مختلف اللغات الاوروبية. ولا اريد ان اتحدث عن المسألة اللغوية التي هي عائق كبير، موضوعياً. فالترجمة من العربية الى اللغات الاوروبية مسألة شائكة، لا بسبب خصوصية اللغة العربية وحدها، وانما كذلك بسبب قلّة الاوروبيين الذين يتقنون العربية كما يتقنون لغاتهم، وهذا شرط اساسي لجودة الترجمة بحيث تفرض نفسها ادبياً ولغوياً.
يبقى، مع هذا كله، ان العرب بوصفهم ثقافة متميزة وخاصة ليس لهم حضور في النسيج الثقافي الاوروبي، كما نقول توضيحاً، وتدليلاً، ان لليابان مثلاً، حضوراً كبيراً في هذا النسيج. والغياب العربي الثقافي عن هذا النسيج، يجعل العرب غائبين عن الغرب بوصفهم "آخر"، من حيث ان الآخر بالنسبة الى الذات، هو، جوهرياً، فكر وثقافة. وبما انهم ليسوا "آخر"، فانهم لا يدخلون على اي مستوى كياني عميق في تحليل "الذات" الغربية وفهمها. فكأن علاقة الغرب بالعرب علاقة مع "جغرافيا" اي مع "اشياء" و"أوضاع" لا مع "افكار" وقضايا كيانية. فالعرب بالنسبة الى الغرب، عَتَبة، او هم، في افضل تقدير "مجرد موقعٍ على الارض" ومن حسن الحظّ او سوئه، ان هذا الموقع فريدٌ، حتى كأنه "سُرّة الأرض".
هل تعتبر أن ان الخطاب الأصولي يسهم في تشويه صورة الثقافة العربية، وفي تخلّف هذه الثقافة...
- الفكر العربي في مختلف اتجاهاته، فكرٌ اصولي، سواء تناول قضايا المجتمع الراهنة او قضايا الحضارة. وتعود اصوليته الى انه ينطلق دائماً من افكار ومعتقدات يعدّها مسلّمات وحقائق نهائية، ولا يطرح عليها اي سؤال. ولهذه الاصولية بنية هي الواحدية، وتتحقق بشكلها الاوضح والاكثر مباشرة في السياسة ونظامها. وليس غيابُ الديموقراطية في التاريخ العربي كله، الا شاهداً حياً على ذلك. ان العمل الاول للفكر هو نقد اصله او أصوله، هو نقد المسلّمات، لا نقدها وحسب، وانما الخروج منها كذلك، كل شيءٍ يجب ان يخضع للسؤال والبحث.
عندما يُمارس الفكر العربي هذه الحرية، يمكن القول عنه آنذاك انه فكرٌ خرج من الاصولية، ويمكن ان نسمّيه آنذاك فكراً بحصر المعنى. ان الفكر السائد يسهم في جعل الحياة العربية اشبه بهرّةٍ مسترخيةٍ، وفي ابقاء المجتمع العربي يَتَشحَّطُ كمثل عَربِةٍ هَرمة، يقودها حوذي أوحد. لكن، تنبغي هنا الاشارة الى ان الاصولية ليست محصورة في المجتمع العربي - الاسلامي كما يحاول بعض الاعلام الغربي ان يوحي. فهناك اصوليات يهودية ومسيحية وهندية، مغلقة وظلاميّة وتنبذ الآخر. غير ان هذا الاعلام لا يتحدث عنها.
الزمن عندي أناتٌ
هل جرّبت كتابة اليوميات؟ هل عاينت تلك اللحظة التي ينفصل فيها ضميرُ المتكلّم الذي وضعته على الورق لكي تتأمله من بعيد؟
- لم أحاول، حتى الآن، ان اكتب اليوميات، بالمعنى الذي تشيرين اليه، وقد يعود ذلك الى سببين: الاول شخصي، وهو ان كتابة اليوميات تجعلني اشعر انني مرآة "عاكسة" تلتقط ما يجري، وتتآخى مع حركة الزمن البطيء، الرخو، الهشّ، الأفقي. وهذا الشعور "يدمّرني"، فأنا شخص لا يقدر ان يعيش الا عمودياً. والزمن عندي أناتٌ، او لحظات متوثّبة متفجّرة، متوترة، او لا يكون الا موتاً آخر. وكتابة "اليوميات" تكون في هذه الحالة، هي هذا الموت الآخر. ربما لهذا لا اقدر ان اقرأ الرواية او على الاقل… لا اقدر ان اقرأ الا الرواية العمودية التي هي شعر آخر.
والسبب الثاني موضوعي، هو اننا لا نزال نعيش في مجتمع ذي تركيب قبلي على الرغم من جميع الظواهر "المدنية" او "المدينية". واعني بذلك ان كتابة اليوميات بالمعنى الذي تقولينه، تُرتّب على الكاتب مسؤولية لا يتحملها وحده - وتلك هي الكارثة - وانما يتحملها افراد العائلة التي ينتمي اليها وبخاصة اخوته واخواته واهله الاقرباء. الجرم الفردي هنا هو جرمٌ اجتماعي، والخاص هو في الوقت نفسه عام. اعطيك مثالاً… كنت في شبابي انتمي الى الحزب القومي الاجتماعي. واعتُقلت مرة من قِبَل النظام القائم آنذاك في منتصف الخمسينات، وكان جرمي مجرد الانتماء لفكر يخالف الفكر السائد. لكن "الجرم" عُمِّمَ على اخوتي وبعضهم كان ضدي، انتمائياً، وأقرب الى فكر النظام القائم، فعُزلوا من وظائفهم، بوصفهم شُركاء في هذا الجرم - جرمي الفردي… في اي مكانٍ آخر من العالم تجدين مثل هذه العدالة؟ ومثل هذه السياسة؟ ومثل هذه الثقافة؟ وكيف يكون الأمر، اذا اعلنت رأيي اليومي وما أشعر به في قضايا اكثر اهمية، قضايا الدين والجنس والسياسة، والقضايا القومية والاجتماعية، اضافة الى الامور الشخصية الحميمة؟ ان أروي، على سبيل المثال، تجربتي في الخدمة العسكرية الالزامية، أمرٌ مستحيل، لأن رواية أبسط ما اختبرته فيها، سيكون، بالنسبة الى اصحاب العقد والحلّ جُرماً في مستوى الخيانة الوطنية… وما جدوى اليوميات ان لم تكن صادقةً وشاملة؟
هل ينطبق كلامك أيضاً على كتابة السيرة الذاتية…؟
- طبعاً، ولهذا لا يجوز ان نستغرب انعدام اليوميات الحميمة، والسير الذاتية في الادب العربي. واذا كانت كتب كمثل "الخبز الحافي" لمحمد شكري، و"حديقة الحواس" لعبده وازن، وأعمال ليلى العثمان وعالية شعيب وغيرها، أحدثت وتحدث مثل هذا الهياج سياسياً واخلاقياً، فما سيكون الشأن مع كتب تذهب الى أبعد؟
هذا كله بعضٌ مما يؤكد ان الفرد الحر، المستقل المسؤول وحده عن عمله وفكره، والقادر ان يعبّر بحرية كاملة من دون خوف، لا وجود له حتّى الآن في "الوعي" العربي السائد، جمهوراً وانظمة. كأنما بعبارة ثانية، لا يزال يُنظر الى الافراد في المجتمع العربي، ويعاملون بوصفهم مجرد انتماءاتٍ الى هذه القبيلة او تلك، الى هذه الطائفة او تلك، الى هذه الفكرة او تلك - اي مجرد اسماء وارقام.
متى ينشأ عندنا ذلك الوعي؟
- تلك مسألة اخرى. والى ذلك الوقت لا تأملي بكتابة يوميات حقيقية، ولا بسير ذاتية حقيقية.
اتجهت في الآونة الاخيرة الى فنين آخرين غير الشعر، الرواية والكولاّج، فهل ستكون الرواية نوعاً من سيرة ذاتية وراء القناع الروائي؟
- ما احاول ان اكتبه ليس رواية. لا أقدر لأسباب ذكرت بعضها آنفاً، ان اكتب رواية وفقاً للمعايير المتعارف عليها، أقصد الرواية بوصفها نوعاً أدبياً خاصاً. كلا لا اقدر، ولا اريد. الاحرى ان أقول إنني أكتب "قصيدة - رواية"، او بالاحرى قصيدة أوسّع فيها حدود النثر وحدود استخدامه، وهي بالفعل على وشك الانتهاء. وربما صدرت في اوائل السنة المقبلة. وسيكون عنوانها "هُنَّ، هِيَ أنتَ" وسوف تكون كما يشير هذا العنوان نوعاً من سيرة ذاتية، لكن بقدر ما تسمح الاوضاع التي أشرت اليها - وان كنت سأحاول خرق هذه الاوضاع.
جحيم دانتي
لا اريد ان اسألك عن نظرتك الى من يهاجمونك، فأنا أعرف انك لا تأبه ولا تهتم. غير أنني اود ان أسألك عن شعورك وانت ترى الى عالمنا العربي وغير العربي، يهاجم بعضه بعضاً، وعلى وجه الخصوص الوسط الثقافي…
- اشعر انني اعيش في نوع من الجحيم. لو كان دانتي حياً اليوم، لما كان في حاجة الى ان يتخيل جحيمه، فالواقع يفوق التخيّل. والمسألة هي كيف يقدر هذا الانسان المخلوق على صورة إلهه الذي يؤمن به، ان يكون اكثر وحشية من الوحش نفسه؟ كأن قتل الانسان في نهايات هذا القرن لم يعد جزءاً من "حرب"، بقدر ما اصبح جزءاً من "لعب" على مستوى الكون. وربما سنشهد انقلاباً تطورياً يعكس نظرية داروين، إذ يعود الانسان الى اصله الوحشي. والفاجع هو ان الانسان نفسه يفعل كل شيء لكي يقضي على كل امل بالانسان… بماذا نأمل اذاً؟ بالطبيعة؟ بطوفان يدمّر الارض؟ و"بآدم" آخر يبنيها هذه المرة بناء آخر؟
أي معنى يبقى إذاً للحوار بين الذات والآخر؟
- يظل هذا الحوار على الرغم من كل شيء، مُلحّاً، وانا الآن مقتنع، اكثر من اي وقت مضى، ان "الذات" توجد ويكون لها معنى بقدر ما تنفتح على الآخر. ان من ينفي الآخر، وبخاصة المختلف، ينفي ذاته في الوقت نفسه. وهذا يعني ان الحوار بين الذات والآخر، بين الهويات الثقافية المتنوعة، يتجاوز مجرد التسامح والتفاعل. انه حاجة كيانية لكل منهما - لكي يعرف كلاهما من هو، ولكي يعرف كيف يبدع هويته، فيما يبدع افكاره واعماله.
ولماذا الشعر؟ أهو ملحّ بالنسبة اليك؟
- الشعر بالنسبة اليّ، رحلة في أقاليم المجهول، كي اكتشف ما لا اعرف، وليس لكي أُغني ما أعرف. الشعر ان نحاول قول ما يتعذّر قوله. وليس لي "رسالة" مسبّقة… فالشاعر حين يعرف مسبّقاً ما يقوله، خيرُ له ان يتوقف عن كتابة الشعر، ويمارس مهنة اخرى. أحاول ان أفتح افقاً في ما وراء السائد الراهن، وفي ما وراء الحاضر، أفي ذلك ملجأ؟ لا اعرف؟
دوماً كانت العاصفة تقف قبالتك، ماذا تقول لها الآن؟
- قِسْ نفسك بالعاصفة، وتجرأ ان تقف دائماً وجهاً لوجه مع العدم. لا "أمْنَ" للابداع، وللثقافة، الا في مُجابهة الخطر.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.