هل يمكن للبشر ترجمة لغة غريبة؟ فهم الذكاء الاصطناعي هو المفتاح    خفض البطالة.. استراتيجيات ومبادرات    اكتشافات النفط والغاز عززت موثوقية إمدادات المملكة لاستقرار الاقتصاد العالمي    السعوديات.. شراكة مجتمعية    «قمة الكويت».. الوحدة والنهضة    مملكة العطاء تكافح الفقر عالمياً    الاتحاد السعودي للملاحة الشراعية يستضيف سباق تحدي اليخوت العالمي    العروبة يتغلّب على الفيحاء بهدف في دوري روشن للمحترفين    قيمة الهلال السوقية ضعف قيمة الأندية العربية المشاركة في المونديال    المغرد الهلالي محمد العبدالله: لا مكان لنيمار والمترو الأفضل وحلمي رئاسة «الزعيم»    هيئة الترفيه وأحداثها الرياضية.. والقوة الناعمة    الرياض يتغلّب على الفتح بثنائية في دوري روشن للمحترفين    مرآة السماء    ذوو الاحتياجات الخاصة    انطباع نقدي لقصيدة «بعد حيِّي» للشاعرة منى البدراني    عبدالرحمن الربيعي.. الإتقان والأمانة    رواد التلفزيون السعودي.. ذكرى خالدة    روضة الآمال    فصل التوائم.. البداية والمسيرة    «متلازمة الغروب» لدى كبار السن    نائب وزير الموارد البشرية يزور فرع الوزارة والغرفة التجارية بالمدينه المنورة    عريس الجخّ    لولو تعزز حضورها في السعودية وتفتتح هايبرماركت جديداً في الفاخرية بالدمام    «COP16».. رؤية عالمية لمكافحة التصحر وتدهور الأراضي    الاستدامة المالية    رسائل «أوريشنيك» الفرط صوتية    وكالة الطاقة الذرية: إيران تخطط لتوسيع تخصيب اليورانيوم بمنشأتي نطنز وفوردو    "راديو مدل بيست" توسع نطاق بثها وتصل إلى أبها    وزير الحرس الوطني يرعى ملتقى قادة التحول بوزارة الحرس الوطني    بالله نحسدك على ايش؟!    إنصاف الهيئات الدولية للمسلمين وقاية من الإرهاب    كابوس نيشيمورا !    حملة توعوية بجدة عن التهاب المفاصل الفقارية المحوري    الرياض يزيد معاناة الفتح في دوري روشن    مفتي عام المملكة ونائبه يستقبلان مدير فرع الرئاسة بمنطقة جازان    تكلفة علاج السرطان بالإشعاع في المملكة تصل ل 600 مليون ريال سنويًا    أمير تبوك يستقبل المواطن مطير الضيوفي الذي تنازل عن قاتل ابنه    طلاب مدارس مكتب التعليم ببيش يؤدون صلاة الاستسقاء في خشوع وسط معلميهم    أمير تبوك يستقبل رئيس وأعضاء مجلس إدارة جمعية التوحد بالمنطقة    برنامج مفتوح لضيوف خادم الحرمين الشريفين للعمرة والزيارة "بتلفريك الهدا"    أمير تبوك يوجه بتوزيع معونة الشتاء في القرى والهجر والمحافظات    محافظ الطوال يؤدي صلاة الاستسقاء بجامع الوزارة بالمحافظة    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الدورة ال 162 للمجلس الوزاري التحضيري للمجلس الأعلى الخليجي    الدكتور عبدالله الوصالي يكشف سر فوزه ب قرص الدواء    بالتضرع والإيمان: المسلمون يؤدون صلاة الاستسقاء طلبًا للغيث والرحمة بالمسجد النبوي    «مساندة الطفل» ل «عكاظ»: الإناث الأعلى في «التنمر اللفظي» ب 26 %    1500 طائرة تزيّن سماء الرياض بلوحات مضيئة    وزير الصحة الصومالي: جلسات مؤتمر التوائم مبهرة    الشائعات ضد المملكة    إنسانية عبدالعزيز بن سلمان    أكدت رفضها القاطع للإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين.. السعودية تدعو لحظر جميع أسلحة الدمار الشامل    الزميل العويضي يحتفل بزواج إبنه مبارك    محمد بن عبدالرحمن يشرّف حفل سفارة عُمان    أمير حائل يعقد لقاءً مع قافلة شباب الغد    رئيس مجلس الشيوخ في باكستان يصل المدينة المنورة    أمير تبوك يقف على المراحل النهائية لمشروع مبنى مجلس المنطقة    هيئة تطوير محمية الإمام تركي بن عبدالله الملكية ترصد ممارسات صيد جائر بالمحمية    هنآ رئيس الأوروغواي الشرقية.. خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شعر المغرب العربي والأسئلة الراهنة لمصير الأدب . حياة ثانية للغة لا تنوب ولا تتكرر ...
نشر في الحياة يوم 06 - 03 - 1995


الى ابي القاسم الشامي في الذكرى الستين لوفاته.
1 - في البدء نقترب من تسمية "شعر المغرب العربي". والتسمية حد وتعيين. انها الانشاء والكينونة. وآدم تعرف على العالم من خلال التسمية. وبها تملكه. في التسمية، أذاً، ينكشف سر المعلوم والمجهول، وفيها تمارس السلطة غوايتها او عنفها. تلك هي التسمية، التي ننساها، وتلك هي حروبها القائمة فينا، من دون ان نعرف جهة الهجوم ولا اين تجري الحروب.
ان تعبير "شعر المغرب العربي" تسمية سابقة على التسمية. اي ان "شعر المغرب العربي" مصطلح من مصطلحات النقد الادبين التي لم تصبح، بعد، تسمية لذلك فهي سابقة على التسمية. تبحث - ربما - عمن سيعلنها. في طقوس مؤسسة التسمية، حيث تصبح شهادة على ميلاد، وانتماء للموجودات الحضارية.
غريب! كيف يمكن لتعبير "شعر المغرب العربي" ان يكون باحثاً عن اعلان التسمية؟ كلمات "شعر" "المغرب" "العربي" او "شعر" "المغرب العربي" مألوفة. كل واحدة منها سبق لي ونطقت بها. بل وعاشرتها. هل السؤال خادع ام متجاهل؟ ولكني عندما اتذكر منطوقاتي، وأفتش، بين مصطلحاتي النقدية والجامعية، عن تعبير "شعر المغرب العربي"، يتبين لي، حقاً، ان التعبير، لا الكلمات، مجرد طيف يشخص امامي الان، وأنني اتوهم تآلفي مع التعبير، المقبل من حقول أخرى، سياسية واقتصادية اساساً.
تلك مقدمة حكاية هذا التعبير، وانا بعيد عن الرواية والسرد والحكاية. فلنقترب قليلاً. سنعتمد الفرضية التي تقول بأن المغرب العربي هو موريتانيا والمغرب والجزائر وتونس وليبيا. جمعي هذه الاقطار تشكل المغرب العربي. انه التعيين الأول، الجغرافي، السياسي، الحضاري، تعيين يلغي ما عداه. انه يلغي التسمية غير الصادرة عن الذات.
علينا ان نتذكر بأننا نسعى لاستنطاق حكاية هذا التعبير، في حقل الشعر بحد ذاته. اما الجغرافية والسياسة والحضارة فهي عناصر متفاعلة مع الشعر، الذي هو مصدرها في التعبير. شعر المغرب العربي. قديماً كان العرب يقصروه التسمية على كلمة "الشعر" بمفردها، من دون نعت او اضافة. هذا ما نجده لدى ابن سلام الجمحي الذي يقول:
"وللشعر صناعة وثقافة يعرفها اهل العلم، كسائر اصناف العلم والصناعات: منها ما تثقفه العين، ومنها من تثقفه الأذن، ومنها ما تثقفه اليد، ومنها ما يثقفه اللسان" طبقات، ج. 1، ص. 5
هذه التسمية المقتصرة على الكلمة بمفردها هي المترددة في كتب القدماء، الخاصة بالنقد والبلاغة، ومنها "الموشح" للمرزباني الذي ورد فيه: باب ما جاء في ذم الشعر الرديء
"اخبرنا محمد بن الحسن بن دريد، قال: اخبرنا ابو حاتم، عن ابي زيد، قال: سمعت المفضل يقول: ما لم يكن من الشعر حسناً عيناً فبطون الصحف احمل لمؤونته من صدور عقلاء الرجال. حدثني ابو القاسم يوسف من يحيى بن علي المنجم عن أبيه. قال: ليس كل من عقد وزناً بقافية. فقد قال شعراً: الشعر ابعد من ذلك مراماً، وأعز انتظاماً" الموشح، ص. 442.
وعلى هذا النحو سار جميع النقاد والبلاغيين. الشعر يتسمى في مطلقه. مع ان التعاريف انقسمت بين ما هو مخصوص بالعرب او مقصور على الأعاجم من يونانيين وفرس وهنود او مشترك بين العرب وغيرهم. وافراد التسمية في "الشعر" ينطبق على مصطلح "الأدب" ايضاً، عند العرب. فهذا ابن خلدون يذكر في "المقدمة":
"الادب هو حفظ اشعار العرب وأخبارها والأخذ من كل علم بطرف ... وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم ان اصول هذا الفن وأركانه أربعة دواوين وهي: أدب الكاتب لابن قتيبة، وكتاب الكامل للمبرد، وكتاب البيان والتبيين للجاهظ، وكتاب النوادر لأبي علي القالي البغدادي. وما سوى هذه الاربع فتبع لها وفروع عنها، وكتب المحدثين في ذلك كثيرة". ج 4، ص. 721.
"الأدب" تسمية لا يلحق بها نعت ولا اضفة كذلك الشعر. فلا هو "الشعر العربي" او "شعر العرب" مثلاً. عندما يتحدث ناقد او بلاغي قديم، مهما كان جنسه او دينه او مقامه، وتكون اللغة التي يكتب بها هي العربية، فإن تسمية الشعر ترد مفردة، وتدل حتماً وفوراً على الشعر العربي دون سواه وكذلك الامر بالنسبة الى تسمية "الأدب".
لإفراد التسمية استراتيجية مزدوجة. هناك، من ناحية، احادية المرجعية الشعرية، وبالتالي احادية قواعد كتابة القصيدة او نظمها، وهو ما ولد سلطة المركز الشعري، ثم هناك، من ناحية ثانية، اعادة انتاج النموذج الشعري، بما هي صناعة وفية للتقنية والمتخيل في آن.
وفي العصر الحديث اصبح للتسمية وضع جديد، هو الكلمة الموصوفة او المضافة. لقد شرع العرب، اساساً، في اعلان تسمية - تسميات غير معهودة في تاريخ كل من النقاد والبلاغيين القدماء، الذين اشتغلوا على الشعر العربي. أشهر تسمية وأكثرها تداولاً هي "الشعر العربي" ضمن التعيين الزمني كالحديث او مستغنية عنه. وهذه التسمية تصريف للتسمية - الرحم "الأدب العربي"، التي ظلت محصورة في المنهج التاريخي الذي قسم الأدب الى عصور اولاً، وقبل كل شيء.
ونحن اليوم نلتقي في كلية الآداب في الرباط. هنا ندرس وندرس ونبحث. ومن بين شعب الكلية توجد "شعبة اللغة العربية وادابها". ونحن ننتمي اليها او الى غيرها. في هذا اللقاء يمكن ان نتأمل الشعر والبحث معاً. لو كانت هذه الشعبة موجودة في القديم، على غرار الدراسات القديمة، لكانت تسميتها هي "شعبة اللغة والأدب" بحذف "العربية" وافراد "الأدب" وبمثل هذه التسمية ستكون الدلالة واضحة. ولكن ما سبب ابدال التسمية وادخال الصفة والتعدد؟ وما دلالتها؟ وما حدودها؟
2 - في القديم، ساد التقسيم الزمني للشعر العربي. هذا معروف. وما يجب الانتباه اليه، قبل ذلك، هو الانفصال الذي حدث بين النقاد والبلاغيين من جهة، والمترجمين للشعراء ومصنفي كتب المختارات الشعرية والدواوين، من جهة ثانية. للأولين انشغال بأسبقة الزمان، الذي عليه ان يعود الى الماضي، في صيغة طريقة او قاعدة، وللآخرين تفاعل الزمان بالمكان. وتبدت مسألة المكان واضحة لدى هؤلاء المترجمين والمصنفين، وخصوصاً مع القرن الرابع الهجري. في المشرق هناك "يتمية الدهر" للثعالبي المقسم في اربعة اقسام، فجعل الاول لشعراء الشام ومصر والمغرب والأندلس، والثاني لشعراء العراق، والثالث لشعراء فارس، والرابع لشعراء خراسان وما وراء النهر، وهذا التقسيم المكاني، حسب الممالك الاسلامية، مترابط مع عنصر اساسي هو انتصار الثعالبي للشعر المحدث في القرن الرابع الهجري، في الاندلس هناك "الذخيرة في محاسن اهل الجزيرة" لأبن بسام، المقسم بدوره الى أربعة أقسام تقتصر جميعها على الأندلس.
العنصر الدال في الوضع الذي نشأ مع القرن الرابع هو ان الانتصار للحداثة انتصار للمكان بما هو متعدد. تماماً كما كان انتصار ابن قتيبة للحداثة هو ذاته انتصاراً للزمان المتعدد. ويكون المعيار، في الحالتين، هو النص الذي يتملك مرجعيته في داخله واستقلاله. ولكنه انتصار ظل هامشياً، لقرون، لأن الاندلسيين والمغاربة في المعنى القديم عانوا من آلام المكان الذي لاحق له في اقتسام المكان مع المركز الشعري، وهو ما نسميه الآن بمسألة اقتسام الاراضي الشعرية.
ان اطلاق الصاحب بن عباد "هذه بضاعتنا ردت الينا" في حق كتاب "العقد الفريد" لابن عبد ربه، سيتحول في المتخيل الثقافي العربي الحديث الى حكم مطلق لا تاريخانية له ولا نسبية، فيما هو يقدم لنا صيغة تلتبس فيها سلطة المركز بمطالب الذاتية، التي هي وحدها امضاء الخطاب الادبي. كل هذا يحتاج لاعادة القراءة. ولكن ابن بسام، الذي قدم الجواب الاول عن سؤال الآخر - المشرق، لن يعاني آلام المكان وجرح الحكم المطلق بمثل ما عاناه ابن دحية، في كتاب "المطرب من اشعار اهل المغرب" او المقري في كتاب "نفح الطيب". فابن دحية، مثلاً، يختتم تقديمه للكتاب قائلاً:
"وبالجملة، فقد نتلت في هذا المجموع كنانة محفوظاتي في المعارف الأدبية. ولم أخله من اخاير ذخائر ما التقطته من افواه مشايخي من مشكل علمي الغريب والعربية. الا اني لم اقصد جمع ذلك على الترتيب، ولا سلكت فيه مسلكي المعهود في التبويب والتهذيب، بل استرسلت فيه مع الخاصر على ما يجود به ويسمح، ويعن له ويسنح. فالناظر فيه يسرح في بساتين، ويمرح في ميادين، ويخرج من فن الى فنون، والحديث ذو شجون" ص. 2.
هنا تكمن بذرة القراءة العاشقة لشعر الاندلس والمغرب. ان ابن دمية ينصت لما يسميه ب"الخاطر" الذي هو وحده الآمر بالكتابة، على المراد الذي لا سلطان للمعتاد في "الترتيب" و"المسلك" عليه. لذلك انتهى التقديم بكلمة "شجون" الناطقة بسر الجرح.
مع العصر الحديث تبدلت تسمية الشعر، التي كان متداولة بين القدماء، فأصبحت مقرونة بصفة او اضافة. "الشعر العربي" او "شعر العرب". هذان التعبيران جديدان كلية في التداول النقدي كتسمية. والمركز الثقافي العربي الحديث هو المعلن لها. أقصد، هنا، مصر التي اصبحت تمثل نموذج التحديث وسلطته في آن. على ان تعبير "الشعر العربي" الغى التاريخ تماماً، هذا الذي ربط بين الحداثة وتعدد الأزمنة بدءاً، ثم الحداثة وتعدد الأمكنة لاحقاً، كما اشرنا الى ذلك،
جاء النموذج المصري ليحصر صفة العروبة في المصري اولاً. وبفعل تواجد الشاميين في مصر، نتيجة الهجرة من سورية ولبنان هرباً من البطش العثماني، اتسعت العروبة، وبصعوبة شديدة، لتشمل مصر والشام. وتظل مصر هي مصدر التسمية. مع المركز الثقافي العربي الحديث، ونموذج الحداثة، كان لنا موعد مع الحداثة المعطوبة. انها حداثة الواحد الذي لا يتعدد اسم لا عدد.
في القاهرة اقامت نخبة من الأدباء والمثقفين العربي الوافدين من المحيط الثقافي، ومنه المغرب العربي، من بين الاسماء البارزة التي اقامت في بداية القرن في القاهرة يمكن ذكر احمد الامين الشنقيطي، مؤلف كتاب "الوسيط في تراجم أدباء شنقيط". وعلى رغم ان هذا الرجل من المؤلفين العرب النادرين في العصر الحديث، ومن الذين كان لهم فعلهم في المحافظة على الذاكرة اللغوية والأدبية، وواضع كتاب عن شعراء منطقة عاشور بالشعر وللشعر، فإن المركز الثقافي لم يعترف بزحمد الامين الشنقيطي الا كمنفذ لطلب المركز في تصحيح المخطوطات، وليس كحامل رواية للشعر كمتعدد، وللشعر الموريتاني كصوت للمتعدد، الذي يطالب بحقه في الارض الشعرية المشتركة ان احمد الامين الشنقيطي عثر، مثل ابن دحية، على من يدعوه الى تأليف الكتاب، وهو محمد أمين الخانجي، الكتبي القاهري، الا ان الحاجز وجده في النخبة، التي قال الشنقيطي عنها:
"وقد أخبرت بذلك أي الاجابة عن طلب الخانجي في تأليف الكتاب بعض نبهاء مصر، فاستغرب لذلك، ظناً منه ان الآداب العربية لا يتصف بها غير الأقطار المشرقية، ولم يقل ذلك عن سوء نية، ولا خبث في الطوية" الوسيط، ص. 3.
وبموقف النخبة تصبح دلالة المركز الثقافي العربي الحديث محددة في الغاء المختلف والمتعدد.
أشرت، سابقاً، الى اننا ننتمي الى كلية الآداب المتوفرة على "شعبة اللغة العربية وآدابها" ترد كلمة "الآداب" متعددة، مثلما وردت في تقديم الشنقيطي. هل التعدد، في التسمية هنا، نقد للواحدية هناك؟ هل التعدد في المغرب نفي للواحدية في المشرق؟ او هل التعدد خصيصة المحيط الواحدية خصيصة المركز؟ سؤال يغرينا، حقاً، ونحن نستغل على اللغة بحد ذاتها. ننبه الى ان دلالة التعدد نستقيها من السياق. وهي محصورة في الزمنية. والأدب العربي عبر عصوره. الأدب العربي من خلال مركزين هما: المشرق والأندلس. والى جانبهما "شيء" من الأدب المغربي. استعمل كلمة "شيء" بمعنى اللامحدد او ما يستعصي على التحديد.
الزمان، هنا، هو المالك السلطة الكلام. اما المكان فهو المركز اساساً. بهذا المعني فإن حضور الادب المغربي لا يدل على تعدد المكان بالضرورة، فيما هو غير حاضر كعنصر فاعل في صياغة الذات الوطنية وأجوبتها.
3 - كان ابو القاسم الشابي اول شاعر حديث من منطقة المغرب العربي، تمكن من الوعي بضرورة اقتسام الأرض الشعرية، التي جعل منها المركز الثقافي، في القاهرة، ملكية شخصية لا تقبل التعدد والقسمة. وفي هامش المركز، جماعة ابولو، وخصوصاً زكي ابو شادي، عثر على الصداقة الشعرية. وأبو القاسم الشابي، المؤمن بأن الذات هي مصدر التعدد، هو نفسه الذي قام بزول قراءة عاشقة لشعر المغرب العربي، خارج تونس. اقصد به مختارات الشعر المغربي التي جمعها محمد بن العباس القباج في كتاب "الأدب العربي في المغرب الاقصى". ومع ذلك فقد سبقت السياسة الادب في تسمية المنطقة، حيث اسس وطنيون من المغرب والجزائر تونس "مكتب المغرب العربي" في القاهرة سنة 1947 بمبادرة من الدكتور الحبيب ثامر.
تأخر تسمية "أدب المغرب العربي" او "شعر المغرب العربي" ناتج عن عاملين هما: عدم التطابق بين البنيتين الشعرية والسياسية، ثم سلطة المركز الثقافي في التسمية، وهو ما لم يحصل. ان المبادرة ستأتي من حقل ثقافي مغامر هو، اساساً، تراكم اعمال باللغة الفرنسية لكتاب من الاقصار الثلاثة، استوعب دلالته محمد عزيز الحبابي، مؤسس "اتحاد كتاب المغرب العربي".. لقد كان الحبابي مدركاً لسلطة التسمية، ودافع عنها في ممارساته وأعماله، واذا كانت فكرة كتاب المغرب العربي اصطدفمت بالسياسي وبالوطنيات، فإن تسمية "أدب المغرب العربي" او "شعر المغرب العربي" ظلت غير مفكر فيها، باللغة العربية.
لم يقدم على التسمية كل من المركز الثقافي العربي او السلطة الثقافية في المغرب العربي. لنترك المكبوت مكبوتاً. ولنترك المنسي منسياً. ربما كان لا وعينا، في المركز والمحيط المغرب العربي على السواء، يطمئن لمثل هذا النداء. ولكن الارض الشعرية، الثقافية، الأدبية تحتاج دائماً لتسمية، بمجرد ان تمتلك الارض سلطة بدايتها. وذلك ما حدث عندما وردت علينا من الفرنسية تسمية La litterature Maghrebinea أدب الأقطار المغربية متصلة اما بالفرنسية او بالفرنكوفونية. وهما تسميتان متباينتان تماماً. ثم عثرنا على مادة "أدب الأقطار المغربية" محصورة في الأدب المكتوب باللغة الفرنسية، ضمن مقررات "شعبة اللغة الفرنسية وآدابها" من هنا نكون، عبر أقطار المغرب العربي، بدءاً، امام مركزين مختلفين تماماً، مركز عربي لا يسمى ومركز فرنسي يسمى، وأمام متخيلين تنتجهما التسمية وعدمها في آن.
تؤطر التسمية الفرنسية متخيلنا الأدبي في لغة منتجة للنص والذات والهوية، معترف بها، هي الفرنسية، ولغة لا نص ولا ذات ولا هوية لها، هي العربية التي لا احد يعترف بها. ذلك هو "أدب الأقطار المغربية" او "أدب الأقطار المغربية الفرنكوفوني"، الموجود والمتداول بتسمية النص والذات والهوية. فيما "أدب" او "شعر المغرب العربي"، لا تسمية ولا وجود له، شرقاً وغرباً، ذاتاً وآخر.
اللغة تفعل فعلها في الجسد والمتخيل معاً، وبها يتسمى الوجود. ان العربية، في المركز والمحيط، لا تسمي هذا الشعر او الادب الخاص بالمغرب العربي. تمنع التسمية او تلغيها والمركز الثقافي العربي، او الذات الشخصية في المغرب العربي كمحيط، غير قلقين على وضعية الذات بالادب وفي الادب ذلك سؤال مطروح علينا كباحثين في اللغة والادب لأن عملنا هو البحث في المعنى والسؤال عن المعنى.
اسئلتنا يمكن ان تتحول الى لائحة. ولا شيء يفاجئنا ما دمنا، جميعاً، في المغرب العربي، لم نتخذ من السؤال عن الادب والتسمية مصاحباً يلازمنا في رحلة الوجود تنوع وتفرع الاسئلة بحاجة للباحثين الذين يرصدون الاسئلة وهي تسيج ادب المغرب العربي وشعره.
اننا، اليوم، وفي نهاية القرن العشرين، حيث مصير الادب اصبح مهدداً من جهات وخطابات متعددة، تتعاضد في الغاء الادب كتجربة متفردة، لها اعادة خلق اللغات، وتمايز الذاتيات، والمحافظة على اللانهائي للمتخيل البشري، وتمجيد حرية الانسان، انه مصير الآداب المسماة، والتي لتسميتها سلطة تاريخية وراهنة معاً. مصير يضاعف الاعلام والاستهلاك من كارثته. واذا كان ذلك مصير ما له تسمية وسلطة، فما هو مصير الآداب غير المسماة، الآداب التي لا ارض لها، اصلاً، ضمن الواقع الراهن، جهوياً وعالمياً؟ استطيع القول بأنني من بين من يرون ان الآداب والفنون هي الخالقة لمفهوم الشعوب والامم، ومن ثم فانه اكثر من كونها لغة واشكالاً. انها مسألة الوجود بامتياز.
هل هناك متأمل، بعد ابن خلدون، في ادب المغرب العربي؟ بمجرد ان نبلغ عتبة الاستراتيجيات المصيرية، تبدو امامنا قضايا الدرس الادبي، والبحث الادبي، ابعد من اطمئنان ومحدودية التقنية، بل وأبعد من انفصالها عن السياقات النظرية، بل وابعد من انفصالها عن السياقات النظرية، الفكرية والفلسفية، التي توجهها وتعين وظيفتها، تبعاً لذلك اسأل: وما اهمية تسمية "شعر المغرب العربي"؟
بهذا السوال تؤجل ما نسأل به عن غياب التسمية، وبه ايضاً ننتقل من "فقهيات الادبش الى حقل الشعرية، ان "شعر المغرب العربي" هو بامتياز جزء من الشعر العربي، وبالتالي فهو مندمج في القضايا العامة والقواعد المخصوصة التي يصدر عنها. مع ذلك فان هذا الاطار العربي العام غير مهيأ لاستيعاب الاوضاع المتباينة للبنيات زماناً ومكاناً بل تاريخانية الواحد الذي لا يتعدد زماناً ومكاناً ولغة.
ان الادب والفن هما اللذان لا يمكن لأي شعب ان ينوب عن غيره في انتاجهما بقصد التعبير عن الذاتيات المختلفة، عكس التقنيات التي يمكن اقتراضها. وتاريخ شعر المغرب العربي، كان باستمرار يعلن عن آلام التعبير وعن حق الذات في التعبير عن نفسها، منذ الفترات البعيدة، حيث كانت السلطة الادبية واقعة خارج حدود المغرب العربي، في روما لما قبل الاسلام، ثم في كل من المشرق والاندلس لمرحلة اساسية في ثقافتنا العربية - الاسلامية القديمة، ثم في كل من المشرق وفرنسا في العصر الحديث. تاريخنا القديم يتفاعل مع حاضرنا المشترك، لا المشترك السياسي او الاجتماعي، بمفردهما، بل المشترك النصي، الذي هو مرتكز التأمل.
احياناً يستولي علي الدوار، وأنا احاول الاقتراب من الكلمات ومن العالم. وفي رأسي، الآن، دوار يتضاعف وانا بين الثنيات اتأمل. حقاً، لي ان اتأمل في السؤال الاخطر، الا يعتبر التفكير في تسمية "شعر المغرب العربي" ضرباً من الحنين؟ هوذا الجدار الاخير الذي يظل جداراً، اننا، الان، في نهاية القرن العشرين، ولكننا ايضاً في نهاية افكار عن انفسنا، عن الادب، عن اللغات، وعن العالم ولنا ايضاً ان نسأل: ما معنى الحديث عن "العروبة" متصلة بالمغرب المغرب العربي وعن شعرها، في زمن نجدها مهددة بخطابات تدعو لنفيها، على رغم انها خطابات متعارضة في ما بينها: "الشعر الفرنكفوني" و"الشعر الاسلامي" كخطابين معممين على "شعر المغرب العربي" ومشتغلين بوجهات نظر وفرضيات نصية وادبية.
سؤالان متواشجان، يعودان بنا الى اللغة والادب اساساً، الى بحث مصيرهما، الى جانب بحث بناء القصيدة في المغرب العربي من اجل التسمية ذهاباً حراً نحو لا نهائية الذات، ولا نهائية "شعر المغرب العربي" الذي علينا الانصات لشعرائه وهم يكتبون لنا بحريتهم نصوصاً لا تمثل فيها اللغة اداة للتواصل، ولا "مسكن الكائن" بتعبير هيدغر، ولكن حياة ثانية للغة لا تنوب ولا تتكرر. هنا نشرع في السؤال عن الشعر واللغة في "شعر المغرب العربي" حواراً مع المتعدد الشعري، الذي نسميه بارادة ان يستمر الشعر كما كنا نحلم به دائماً، ارضاً متفردة لذاتيات تهيأت لحريتها، من اجل ان يكون في عالم يحافظ على اللغات والآداب كنزاً بشرياً، به نتآلف ونتجاوب في اللانهائي.
* شاعر وناقد مغربي، آخر اصداراته "كتابة المحو" دار توبقال - 1994. وهذا النص الذي خص به "الوسط"، هو "الدرس الافتتاحي" الذي دشنت به "جمعية الطلبة الباحثين في الآداب واللغة" في كلية آداب الرباط، أنشطتها العلمية لسنة 94/95.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.