قبل مدة قصيرة استضاف السفير الاميركي في تل ابيب، ادوارد ووكر مجموعة من النواب العرب في الكنيست الاسرائيلي. وفي معرض حديثه عن التطورات السياسية داخل اسرائيل قال ووكر انه ليس لديه أي شك في انه لو جرت انتخابات عامة جديدة فان بنيامين نتانياهو سيفوز فيها. ومن الواضح ان كلام السفير الاميركي صحيح. فبعد مرور عامين على فوز نتانياهو المفاجئ في الانتخابات الاخيرة، اصبح رئيس الوزراء الاسرائيلي في وضع اقوى مما كان عليه في اي وقت مضى، بل وصار مركزه داخل اسرائيل اقوى الآن مما كان عليه مركز أي رئيس سابق للوزراء. اذ لم يعد نتانياهو يهيمن على الساحة السياسية الاسرائيلية الداخلية فحسب، بل ايضاً على سير عملية السلام والمفاوضات مع جميع الاطراف العربية التي اشتركت في مؤتمر مدريد ويفرض جدول اعمال تلك المفاوضات مثلما يروق له. كذلك اصبح نتانياهو يتمتع بشعبية وتأييد داخل الكونغرس الاميركي تفوق ما يتمتع به الرئيس الاميركي بيل كلينتون نفسه. ولكن على رغم كل ذلك هناك حدود لقوة نتانياهو فلم يعد هناك أحد في أي مكان يصدّق ما يقوله بيبي، كما ان الكثيرين يمقتونه على رغم قوته السياسية التي لا يجرؤ احد الآن على تحدّيها. ولا تقتصر كراهيته على معارضيه السياسيين بل تشمل حلفاءه ايضاً. والمسؤولون الاميركيون، بداية بالرئيس كلينتون ومروراً بجميع الآخرين، لا يثقون به وانما يرتابون دائماً في دوافعه. وحتى في الكونغرس حيث تنال سياسة نتانياهو تأييداً يفوق ما تناله سياسة كلينتون هناك مشاعر من القلق بين كثير من اعضاء مجلسي الشيوخ والنواب، من الطريقة التي يلجأ اليها نتانياهو لخدمة مصالحه وسياساته بضرب الكونغرس بالرئيس الاميركي واستغلال السياسة الاميركية عموماً لتحقيق اهدافه. أما في العالم العربي فلا حاجة للإسهاب في الحديث عن مدى الغضب من سياسة نتانياهو. اذ يكفي ان نشير الى ان الملك الحسن الثاني يرفض لقاءه، كما ان الرئيس ياسر عرفات يشعر بأن مراوغة نتانياهو وتملّصه من اعادة انتشار القوات الاسرائيلية في الضفة الغربية سيؤديان الى "وأد" عملية السلام. كذلك لا يكف الملك حسين عن الاعراب عن مشاعر الاحباط والأسف من سياسة نتانياهو وتصرفاته الهوجاء. اما الرئيس حسني مبارك فقد اعلن صراحة انه لم تعد لديه اي ثقة في صدقية الرجل. ولكن على رغم كل هذا، في وسع المرء ان يرى حين يلقي نظرة فاحصة على المنطقة اليوم، ان نتانياهو اصبح في مركز اقوى من جميع خصومه على الساحتين الداخلية والخارجية. ففي اسرائيل ليس هناك ادنى شك في انه اقوى الشخصيات السياسية: اذ ان نتانياهو شتّت تلك المجموعة من "اقوياء ليكود" الذين كان الجميع يتوقعون لهم ان يرثوا تركة آبائهم السياسية بعد تقاعد رئيس الوزراء السابق اسحق شامير، ومن بينهم بيني بيغن ودان ميريدور اللذان قررا الانسحاب من حكومة نتانياهو املاً في تفجير انقلاب ضده، لكنهما انتهيا اليوم في عزلة سياسية وخارج نطاق السلطة برمتها. كما ان روني ميلو الذي كان وزيراً في حكومة مناحيم بيغن ترك ليكود الى الأبد، بعدما استقال من رئاسة بلدية تل أبيب ليخوض معركة قيادة الحزب ضد نتانياهو ومني بالهزيمة. في هذه الاثناء يواصل اعضاء الحكومة الحالية بذل جهودهم على امل تحويل سياسات نتانياهو الى الاتجاه الذي يحبذه هذا الوزير او ذاك. وعلى رغم تهديدات الوزراء فان نتانياهو يتجاهلها. فقد هدد كل وزير تقريباً بالاستقالة ما لم يغيّر نتانياهو هذه السياسة او تلك، لكنه تجاهل كل تلك التهديدات وواصل تسيير السياسة كما يروق له. وكانت آخر تهديدات الاستقالة قد صدرت عن وزير الدفاع اسحق موردخاي ووزير البنى التحتية أرييل شارون. ومع ذلك ظل كلاهما اسيرين لبريق المنصب وما ينطوي عليه من مزايا، كما أذعنا لنداء غريزة البقاء السياسية الى الدرجة التي لم يعد يصدر عنهما اي اعتراض على ما يقوله او يفعله نتانياهو. وفي غمرة فوز نتانياهو في الانتخابات وهزيمة حزب العمل بزعامة شيمون بيريز سارع حزب العمل الى اختيار ايهود باراك زعيماً جديداً له، ليخوض الحرب السياسية ضد نتانياهو. وبدأ حزب العمل يعتقد بأن إلحاق الهزيمة برئيس الوزراء وليكود ليست سوى مسألة وقت بعدما ورّط نفسه في ازمة تلو الاخرى، كما ازدادت ثقة العمل في الفوز نظراً الى ما يحظى به باراك من سمعة عسكرية ممتازة وشعبية واسعة النطاق، ولما يتمتع به باراك شخصياً من خصائل فردية وعنفوان شباب. فما الذي حصل؟ لقد دبّ الانقسام في صفوف قيادة حزب العمل الجديدة وصارت شخصيات الصفّ الثاني تتنازع في ما بينها وتركز اهتمامها على انتزاع زعامة الحزب بعد باراك، بدلاً من تركيز جهودها على محاربة ليكود. والسبب في ذلك النزاع وتلك الخلافات داخل حزب العمل هو ان باراك اخفق في السيطرة على اولئك الزعماء الذين فاز عليهم في انتخابات زعامة الحزب من امثال يوسي بيلين وافرايم سنيه وافرام بيزغ، كما اخفق في بسط نفوذه على عدد كبير من اعضاء الكنيست العماليين. كما ان شيمون بيريز يواصل حملته لجمع التبرعات المالية في الخارج من اجل خدمة طموحاته السياسية وبرنامجه الخاص على حساب باراك وحساب حزب العمل. وفوق كل ذلك يرى الكثيرون داخل حزب العمل وخارجه ايضاً ان سياسات باراك الجديدة ليست سوى انعكاس لسياسات الحكومة الليكودية الحالية. والاحساس العام هو ان سياسات العمل الراهنة برغم جاذبيتها الليبرالية الظاهرية لا تختلف في مضمونها وجوهرها عن السياسات التي ينتهجها نتانياهو. وعلى سبيل المثال في المفاوضات مع الفلسطينيين يرى باراك ان السياسية الاسرائيلية يجب ان تنطلق من مبدأ فصل الفلسطينيين في الاراضي المحتلة عن اسرائيل، وهي سياسة اكثر تشدداً من سياسة نتانياهو الحالية التي تسمح لأكثر من مئة الف فلسطيني بالعمل داخل اسرائيل. كذلك ينتقد باراك سياسة نتانياهو التي تغضب الاميركيين وتقوّض روح التعاون والثقة المتبادلة معهم، التي أرساها كل من اسحق رابين وشيمون بيريز، وينتقد سياسته القائمة على المماطلة في المفاوضات مع الفلسطينيين. لكن باراك نفسه اعلن تأييده المطلق للمستوطنات في الضفة الغربية وهو يوافق ايضاً على اعلان نتانياهو وجوب الاحتفاظ بنسبة خمسين في المئة على الاقل من اراضي الضفة الغربية في أي تسوية نهائية، ولم يقبل الاجتماع الى ياسر عرفات إلا على مضض. ولم يعد باراك الآن يهتم برسم سياسة لحزب العمل بهدف الإطاحة بسلطة ليكود ونتانياهو، وانما صار يركّز على محاربة خصومه داخل الحزب من اجل الابقاء على استمرار حياته السياسية بعدما أطلق اولئك الخصوم صيحات قوية تطالب باختيار بديل لباراك. وفي واقع الامر اصبح باراك الآن العقبة الرئيسية في حزب العمل الذي يشعر اعضاؤه باليأس من قدرة باراك على اطاحة نتانياهو. إلا ان هذا لا يعني ان نتانياهو في مأمن كامل، لأن المدّ السياسي ربما يتحول ضده فجأة. فقد ظل منذ اشهر في مأمن من الهجمات الانتحارية الفلسطينية. وأدى توقف هذه الهجمات المسلحة الى انخفاض عدد القتلى بين المدنيين الاسرائيليين بنسبة 80 في المئة اي الى اربعين فقط مقارنة بمئتين خلال السنتين اللتين مرتا على توليه الحكم. وفي أحكامه وقراراته السياسية المتهورة مثلما حدث في ايلول/ سبتمبر 1996 في واقعة نفق القدس، وفي محاولة اغتيال مشعل في الاردن في ايلول 1997 ما قد يجرّ الكارثة عليه. صحيح ان سياسته التي قامت على اعادة صياغة اتفاقات اوسلوومدريد طبقاً لأغراضه لم تعد عليه بضرر داخل اسرائيل، لكنها في الوقت نفسه أخفقت في تحويل الغضب الفلسطيني الى غضب عربي عارم. وحتى هذه اللحظة ايضاً لم تدرك الولاياتالمتحدة، راعية نتانياهو، ان الثمن الذي ستكلفه سياساته، اعلى كثيراً مما يجب