كل شيء في الشرق الأوسط يبدو مجمداً مع السلام المعلق حتى إشعار آخر بانتظار ظهور نتائج الانتخابات العامة الإسرائيلية المقرر اجراؤها في 17 أيار مايو وتحديد هوية الفائز أو الفائزين وشكل الحكومة المقبلة واستقرارها وقدرتها على الاستمرار من خلال حجم الأصوات التي حصلت عليها وعدد النواب الذين سيقفون معها بعيداً عن المزايدات والشروط والضغوط. أمام هذا الواقع لا يملك العرب ورقة سوى الانتظار الذي أدمنوا عليه منذ زمن طويل فصارت حكايتهم مثل حكاية "إبريق الزيت" التي لا تنتهي أو "غودو" الذي لم يأت وليس في الأفق أية بارقة أمل بأنه سيأتي أصلاً. فمنذ هزيمة الخامس من حزيران يونيو وقع العرب ضحية لعبة مناورة رخيصة كأنها أغنية الشيطان: مبادرات أميركية وأوروبية وروسية ودولية ما أن يوافق العرب عليها وتسير في طريقها الطبيعي حتى نفاجأ بحركة مسرحية تطلب تجميد البحث قليلاً لأن حكومة اسرائيلية تجابه صعوبات أو أن موعد انتخابات الرئاسة أو الكونغرس في الولاياتالمتحدة قد اقترب أو أن اسرائيل لا تستطيع الاستمرار في التفاوض لأن موعد انتخابات الكنيست قد أزف فتسقط حكومة كانت تدعي القبول والموافقة وتأتي حكومة أخرى تطالب بمسح كل ما تم التوصل اليه والبدء من نقطة الصفر في سابقة لم تشهد لها العلاقات الدولية، ولا مفاوضات السلام، مثيلاً من قبل لأن الدول هي التي تفاوض وليس الحكومات وهي التي تلتزم بالاتفاقات والتعهدات وليس الأفراد. ولو مضت اسرائيل في غيها فإنه سيكون من حق العرب في المستقبل أن يردوا الصاع صاعين ويستخدموا المثل الإسرائيلي كعرف ومستند قانوني يعلنون بموجبه تخليهم عن الاتفاقات مع اسرائيل ورفض الالتزام بأي تعهد أو اتفاق التزمت به حكومة سابقة ويسحبون الاعتراف بإسرائيل وهو الورقة المهمة التي تقض مضاجع الصهاينة. ولا نستطيع أن نحكم على موقف الحكومة الإسرائيلية المقبلة من هذه "الهرطقة" السياسية قبل معرفة سياستها المعلنة ومواقفها من الاتفاقات ومسيرة السلام وما تم التوصل اليه من قبل على جميع المسارات، ولكن ما فعله بنيامين نتانياهو كان بداية مفجعة لاستراتيجية سياسية تهدف الى قتل السلام واحياء حلم اسرائيل الكبرى الذي ظن كثيرون أنه دفن في مؤتمر مدريد للسلام خريف عام 1991 إذ أنه رفض كل ما تم التوصل اليه وفرغ اتفاقيات أوسلو من معناها ومحتواها ومضمونها وطالب باستئناف المفاوضات على المسارين السوري واللبناني من نقطة البداية وليس من النقطة التي تم الوصول اليها خلال حكم حكومتي حزب العمل برئاسة اسحق رابين وشيمون بيريز. وكان اسحق شامير الذي شارك في مؤتمر مدريد على رأس وفد حكومة "ليكود" مرغماً بسبب ضغط الرئيس الأميركي جورج بوش ووزير خارجيته جيمس بيكر، لكنه كان يضمر الشر باستخدام عامل الوقت والمناورة والمماطلة وهو ما اعترف به بعد سقوط حكومته في الانتخابات العامة عندما قال أنه كان يعمل على إطالة أمد المفاوضات لأكثر من 10 سنوات يكون خلالها قد استكمل الخطط الاستيطانية وحقق التفوق العسكري الكامل ليتمكن بعدها من التخلص من كل الإلتزامات. ولعب من بعده رابين ثم بيريز دوراً مماثلاً بشكل أقل حدة وعلانية عبر المماطلة والتسويف وإطالة أمد التنفيذ ووضع العراقيل والعقبات الى أن جاءت عملية اغتيال رابين لتدق مسماراً في نعش السلام وتحمل بيريز الى الواجهة مشحوناً بمواقف مترددة وضعيفة انتهت بإعلان تجميد المفاوضات حتى انتهاء الانتخابات العامة التي أسقطته وحملت نتانياهو وليكوده الى الحكم وباقي حكاية "إبريق الزيت" معروفة. وبين "حانا" العمل و"مانا" الليكود ضاعت لحية العرب وحقوقهم وأراضيهم ومصالحهم وهم يتفرجون على هذه اللعبة المملة أو المسرحية المضحكة المبكية ويمنون النفس بخير من هذا أو بأمل من ذاك أو بالمن والسلوى من هذا الزعيم لأنه معتدل أو الحسم من آخر لأنه قوي وقادر على مواجهة المعارضين مع أن التجارب علمتنا أن العمل والليكود هما مجرد وجهين لعملة واحدة يتفقان على استراتيجية واحدة تخدم مصالح اسرائيل ومطامعها التوسعية وتكريس الأمر الواقع وضم أكبر قدر ممكن من الضفة الغربية وعدم تغيير الوضع الراهن للقدس ومنع قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وسرقة المياه ومنع عودة اللاجئين. ولكن مع هذا... فإنه من المفيد متابعة الانتخابات المقبلة ومراقبة تصريحات المتنافسين ومواقفهم من عملية السلام بكل وقائعها وتفاصيلها لأن المعركة المقبلة ستكون حاسمة ليس بالنسبة للعرب ومصير السلام فحسب بل بالنسبة لإسرائيل ومستقبلها السياسي وأبعاد الصراع بين التيارات المتنافسة من أجل السيطرة والإمساك بزمام الأمور: بين المتطرفين والمعتدلين وأنصار الوسط الذين يحاولون أن يثبتوا وجودهم بين التيارين الرئيسيين، وبين المتدينين والعلمانيين، وبين اليهود الشرقيين والغربيين، وبين أنصار السلام وأعداء السلام، وبين تيار المستوطنين الذي يزداد قوة ونفوذاً ولا سيما الروس منهم وبين الإسرائيليين الذين استوطنوا من قبل. وفي ظل هذه الأجواء تطرح تساؤلات منطقية قبل أسابيع قليلة من موعد الانتخابات المبكرة التي أرغم نتانياهو على خوضها، أو كما يقال اضطر لإعلانها بعد أن حشر في زاوية توقيع اتفاقية "واي ريفر" مع الفلسطينيين التي تفرض عليه التزامات وانسحابات من الضفة تمهد لمفاوضات الحل النهائي التي لا يستطيع المضي فيها على رأس حكومة مهزوزة ومنقسمة على نفسها يشارك فيها مجموعة من الصقور المتصارعة والحاقدة والطامعة بقلب نتانياهو أو طعنه من الخلف والقفز الى زعامة الليكود أو الحصول على أكبر قدر من المكاسب والمغانم وهو ما حصل أخيراً حيث تفرق "العشاق" وأعلن أكثر من طامع تخليه عن نتانياهو والليكود وترشيح نفسه أو الانضمام للمنافسين. من بين هذه التساؤلات: هل سيعود نتانياهو أقوى مما كان أم سيعود مقصوص الجناحين أسير المواقف المتشنجة؟ وهل ستعود معه الأحزاب الدينية والمتطرفة أقوى أم أضعف؟ أم أن ايهود باراك سينتزع الفوز من نتانياهو ويعيد الحكم الى حزب العمل؟ ولكن أي فوز؟ فوز محجم محكوم بمواقف الأحزاب الصغيرة يسارية أو دينية أو من الوسط؟ أم فوز ساحق وهو أمر مستبعد؟ وهل ستعود الدوامة من جديد كما كانت في كل انتخابات جرت منذ أكثر من ربع قرن: حزبان رئيسيان متنافسان، يفوز أحدهما في الانتخابات من دون أن يحصل على الأكثرية في الكنيست فيضطر للرضوخ لابتزاز الأحزاب الصغيرة من أقصى اليسار وأقصى اليمين وما بينهما حتى يستطيع أن ينال ثقة مريحة وبالتالي يصبح أسيراً لهذه الأحزاب وشروطها وسطوتها ويسقط عند أول هبة ريح فيضطر لحل الكنيست والدعوة لانتخابات مبكرة لتعاد الكرة من جديد وكأننا "لا رحنا لا جينا"! ولكن هل ينجح شاحاك ومعه مردخاي الكردي اليهودي العراقي وأول زعيم شرقي ينافس الصقور وينهي حكم الحزبين لأكثر من نصف قرن. والسؤال الكبير المخيم على الأجواء سواء أربح نتانياهو أم باراك أو الوسط بزعامة مردخاي هو هل هناك قرار مسبق بتجاوز الدوامة هذه المرة بالاتفاق على تشكيل حكومة ائتلافية أو ما يطلقون عليها اسم "حكومة وحدة وطنية" بين الحزبين الرئيسيين لإنهاء أسطورة سطوة الأحزاب الصغيرة واتخاذ القرارات الحاسمة بالنسبة لقضايا مصيرية مثل الأمن والسلام والاقتصاد؟ الاتجاه السائد اليوم ان هذا الخيار ممكن ومرجح خصوصاً وأن الأيام القليلة التي سبقت الإعلان عن موعد الانتخابات المبكرة شهدت اجتماعات سرية وعلنية بين قادة الليكود والعمل برئاسة نتانياهو وباراك وبحضور بيريز تم خلالها صياغة ورقة عمل الإئتلاف المرتقب تضمنت نقاط الاتفاق ووسائل ترجمتها ونقاط الاختلاف ووسائل حلها وركزت على الموقف من الاتفاقات مع الفلسطينيين من "وارسو" الى "واي" ومن الدولة الفلسطينية وشكلها ومن المفاوضات على المسارين السوري واللبناني مع التركيز على فصل المسارين والموافقة على الانسحاب من أجزاء مهمة من مرتفعات الجولان السورية المحتلة. وحسب اعلان بيريز فإن حكومة الوحدة الوطنية هي وحدها القادرة على صنع السلام مع سورية واحياء "الشرق الأوسط الجديد" مشروعه الموؤود فيما وعد باراك نتانياهو بتسليمه وزارة الخارجية على أن يتسلم امنون شاحاك وزارة الدفاع كما وعد ديفيد ليفي رئيس حركة غيشر بوزارة مهمة، فيما لم تعرف حصة الأحزاب الدينية المتشددة مثل شاس والمفدال ويهدون هتوراه التي كانت تملك 23 مقعداً في الكنيست المنحل. إلا إذا شكل حزب الوسط بيضة الميزان وأصبح البديل المنطقي للأحزاب الصغيرة واللاعب الرئيسي في المستقبل. ولكن أين يقف العرب من كل هذه الاحتمالات؟ وهل من دور عربي فاعل في الانتخابات المقبلة؟ أو على الأقل في تغيير مجرياتها واتجاهاتها؟ وربما في حسم هذه النتائج لصالح هذا التيار أو ذاك؟ قبل أن ننسى لا بد أن نشير الى أن نتانياهو فاز على بيريز في انتخابات عام 1996 بأقل من 30 ألف صوت فقط قيل أنها تمثل الأصوات العربية التي امتنعت عن دعمه بسبب مجزرة قانا الرهيبة في جنوبلبنان. ولا ننسى أيضاً العمليات الانتحارية التي جرت قبل الانتخابات بأسابيع قليلة وأسقطت عدداً من القتلى والجرحى وأسقطت معها بيريز لدرجة أن أعداء "حماس" من الفلسطينيين يتهمونها بأن صوتها هو الذي أوصل نتانياهو وليكوده الى الحكم ويتساءلون عن سر عدم قيامها بعمليات مماثلة لإسقاط نتانياهو وتدمير استراتيجيته القائمة على الأمن قبل الانتخابات المقبلة. ومع أن العمليات الانتحارية مثل تفجيرات القدس وغيرها ستؤثر في مجريات الانتخابات إلا أنها ليست الحل الأمثل، بل أن نتانياهو قد يستغلها لصالحه. كما أن أية عملية في مستعمرات شمال فلسطينالمحتلة الجليل قد يستغلها الليكود للقيام بعملية عسكرية استعراضية أو بافتعال نصر زائف يساعد على تجاوز امتحان الانتخابات بتغيير اتجاهات الرأي العام ولا سيما الفئات المترددة منه بعد التطورات الأخيرة في الجنوب والعمليات النوعية التي استهدفت النخبة من ضباط وجنود العدو وهزت اسرائيل ولكنها لم تمنح نتانياهو ورقة الرد بسبب حالة الارتباك، والخوف من النتائج. التأثير الكبير للدور العربي يكمن في الحذر من أي تصرف أو عمل يصب في صالح المتطرفين وعلى رأسهم نتانياهو، وتأكيد الرغبة في السلام الشامل وفضح المواقف التي أدت الى مخاطر على اسرائيل قبل العرب بسبب سياساتهم المتعنتة. أما بالنسبة للفلسطينيين فإن من المؤكد أنهم يحرصون على عدم إعطاء أية ورقة رابحة لنتانياهو أو منحة ذريعة ما لتبرير تعنته ولا شك أن الموافقة على تأجيل قيام الدولة المستقلة الى ما بعد الانتخابات تصب في هذا الاتجاه حتى لا يستغلها نتانياهو في آخر لحظة. وتبقى كل هذه التأثيرات جانبية أمام الصوت العربي في الداخل أي ما يسمى "عرب اسرائيل" أو عرب الداخل في فلسطينالمحتلة عام 1948 فقد دلت آخر الإحصاءات أن عدد سكان اسرائيل تجاوز في نهاية عام 1998 الستة ملايين نسمة تشكل نسبة اليهود منهم 79 في المئة وهم موزعون على الشكل التالي حسب الإحصاءات الإسرائيلية: 4 ملايين و783 ألف يهودي و254،1 مليوناً من غير اليهود 8،20 في المئة هم: 901 ألف مسلم و129 ألف مسيحي و99 ألف درزي و125 ألفاً لم تسجل لهم ديانة!! فإذا نجح عرب الداخل الذين يشكلون حوالي 20 في المئة من أصوات الناخبين في الاتفاق على موقف موحد فإنهم سيستطيعون بلا شك تحديد مصير الانتخابات المقبلة ليس في حصد أكثر من 12 مقعداً في الكنيست فحسب بل في ترجيح كفة أي تيار يمكن اعتباره الأقل تطرفاً والأكثر تمشياً مع متطلبات مسيرة السلام. ومن هنا نخلص الى الإجابة على السؤال الأساسي وهي: نعم هناك دور عربي مؤثر في الانتخابات لو أحسن استخدامه وتغلبت الحكمة على العواطف ونجح عرب الداخل والخارج في إثبات وجودهم لأن مصير السلام سيتحدد خلال الفترة الممتدة بين 17 أيار مايو ونهاية عام 1999 خاصة بعد نجاح الرئيس كلينتون في تجاوز أزمته وإقفال ملف "مونيكا غيت" واستعادة قدرته على التحرك كما جرى خلال أحداث الجنوب حيث لعبت الديبلوماسية الأميركية دوراً كبيراً في كبح جماح الإسرائيليين وجنوح نتانياهو للانتقام. * كاتب وصحافي عربي