خسر بنيامين نتانياهو الكثير من حلفائه الحزبيين والسياسيين وفي مقدمهم وزير الدفاع السابق في حكومته اسحق موردخاي. وظهر اداء نتانياهو السيئ في المناظرة التلفزيونية التي جرت بينه وبين موردخاي، وتغيب عنها زعيم حزب العمل ومرشحه للرئاسة ايهود باراك. ويواجه نتانياهو في الوقت نفسه ضغطاً من مرشح اليمين الاسرائيلي المتزمت سياسياً وعقائدياً، بيني بيغن. لكن، على رغم ذلك، اشارت استطلاعات الرأي الى ان نتانياهو ما زال يتمتع بقوة جذب وتأييد بين الاوساط اليهودية الشرقية والتقليدية والمتدنية، وهذه تشكل الاكثرية في البلاد. واكدت هذه الاستطلاعات ان نتانياهو ما زال يتمتع بجاذبية انتخابية وانه يحظى بتأييد قاعدة قوية تجعل فوز باراك عليه في انتخابات الرئاسة امراً غير ممكن في هذه الظروف، اذا لم يتحالف مع موردخاي والعرب. بات مثل هذا التحالف شرطاً لالحاق الهزيمة بنتانياهو. وما يزيد الامر تعقيداً بالنسبة لباراك ويعزز فرص نتانياهو هو اليمين كنهج سياسي، ومزاج شعبي، تعزز في اسرائيل. صحيح ان احزاب اليمين شهدت انقسامات داخلية، لكنها تفاعلت كظاهرة انفلشت على معظم مساحة الخريطة السياسية، وانتشرت في معظم الاحزاب واصبحت لها الغلبة حتى في حزب مثل "شاس" فالاخير لم تكن قيادته متطرفة ايديولوجياً في يوم من الايام كما هو الآن، ونجد الامر نفسه في حزب العمل وقائمة "اسرائيل واحدة" التي يرأسها باراك. باراك اكثر يمينية من سابقه شمعون بيرز، وكتلة "اسرائيل واحدة" التي شكلها حزبه مع حركة "غيشر" الشرقية العلمانية وحركة "ميماد" الدينية المعتدلة التي تشمل المستوطنين وبعض الشخصيات السياسية والعسكرية، تشهد هي ذاتها تحولاً نحو اليمين. ويبدو ان جناح "احدوت هعفودا" الذي جاء منه رابين، وينضوي تحت رايته باراك والجنرال ماتان فيلنائي، هو الذي يقود الحزب اليوم. ويأخذ هذا الحزب مسافة كبيرة عن احزاب المعارضة مثل "ميرتس" ومرشحها يوسي ساريد كذلك عن الاحزاب العربية التي لا يعطيها باراك اهمية معتبراً انها في "الجيب". الى ذلك ان موردخاي، مرشح حزب المركز الوسط ما زال ضعيفاً ولم يسعفه فوزه بالنقاط في المناظرة التلفزيونية على نتانياهو في تحسين مواقعه. ومع ذلك نراه يرفض الانسحاب من المنافسة على رئاسة الحكومة من الجولى الاولى. ان رفض موردخاي الانسحاب من الجولة الاولى سيرجح جولة ثانية في انتخابات رئاسة الحكومة تعقد في الاول من حزيران يونيو، وتؤكد الدلائل انها ستجرى بين نتانياهو وبارك. وسيحتاج باراك لمن هو اكثر تطرفاً قومياً منه مثل ممثل حزب "المركز" موردخاي وليس حزب "الوسط" كما يرد في الصحافة العربية فهو يمثل اليوم قطاعاً مهماً من العسكريين ورجال الاعمال. وموردخاي، كما اكد متباهياً، في مناسبات عدة هو صاحب رصيد السياسة الامنية لحكومة نتانياهو. وهو الذي قام باختراع تقسيم الضفة الغربية الى مناطق أ، ب، ج بمساعدة امنون شاحاك. ومن الناحية المقابلة ترشح بيغن، ابن رئيس الوزراء السابق مناحيم بيغن، الذي انشق عن حزب الليكود ليعيد تشكيل حزب "حيروت" المتطرف الذي تزعمه والده، ودخل في تحالف برلماني مع اكثر الاسرائيليين تطرفاً على الخريطة السياسية، من نمط رحبعام زئيفي الذي يؤيد ترحيل "الترانسفير" الفلسطيني، وزعيم الاستيطان حنان بورات الذي انشق عن حزب "المفدال" الوطني الديني المتطرف لانه ليس متطرفاً بما فيه الكفاية. وسيشكل بيغن وكتلته البرلمانية قوة جذب مهمة جداً باتجاه اليمين. وتشترط في دعمها لنتانياهو، في حال انتخابه، تراجعاً تاماً عن معادلة الارض مقابل السلام. وتشكلت هذه القائمة بالذات لوضع الخطوط الحمر لنتانياهو في قضايا الانسحابات والاستيطان وخصوصاً في مفاوضات الحل النهائي، او حتى "تصليح" الضرر و"تصحيح المسار" كما جاء في برنامجها الانتخابي. باختصار، شكل ترشيح بيغن وموردخاي حال جذب لحزب العمل دفعته اكثر فأكثر نحو اليمين ولم يسفر هذا عن تشرذم اليمين، على عكس ما يبدو ظاهراً. ونستطيع تصور حال باراك في الجولة الثانية اذا ما انضم موردخاي اليه، وبعد ان يكون نتانياهو تمكن من استرجاع قسم كبير من انصار اليمين الذين لم يمنحوه ثقتهم في الجولة الاولى، واقترعوا لموردخاي او بيغن. ترشيح عربي لرئاسة الحكومة في مثل هذه الظروف، التي تجنح فيها الخريطة السياسية الاسرائيلية نحو اليمين، تبرز اهمية الصوت العربي، خصوصاً في الجولة الثانية. وتبرز كذلك اهمية ترشيح عربي لرئاسة الحكومة هو النائب عزمي بشارة. اذا كان المزاج الشعبي في اسرائيل يعزز قوى اليمين ومواقعه على الخريطة السياسية، واذا كان نتانياهو يغازل اكثر الاوساط تطرفاً بغية كسبها، واذا كان باراك يحوّل نظره وتوجهه اكثر فاكثر للحصول نحو اليمين للفوز بثقة اوساط يمينية لا تريد التصويت لنتانياهو او حتى لموردخاي، فإن بروز مرشح عربي لرئاسة الحكومة سيحد من اندفاع باراك نحو اليمين، ويرغمه على اخذ الصوت العربي بجدية في الجولة الثانية. وهذا معناه ان يتبنى باراك عدداً من المطالب السياسية، الوطنية والمدنية الملحة والاساسية، التي يطالب بها العرب في اسرائيل. اي انه سيجد نفسه مضطراً الى الالتزام بما لهم من حقوق ومطالب. والا ومن دون هذا سيكون من الصعب تشجيع الناخبين العرب ودفعهم الى المشاركة النشيطة والمكثفة في الجولة الثانية من انتخابات رئاسة الحكومة، ولن يخرج الكثير من العرب للتصويت لصالح باراك. هنا تأتي اهمية ظهور بشارة بالذات، رئيس التجمع الوطني الديموقراطي كمرشح عربي يسعى لتعديل الخلل الحاصل في توازن الخريطة السياسية الاسرائيلية، التي تنحو نحو اليمين، ووضع حد للانحدار العربي نحو "الاسرلة" تحت مظلة حزب العمل الذي ينحو هو الآخر الى اليمين. وشاع خطأ مفاده ان ترشيح بشارة يضر بباراك لمصلحة نتانياهو، فرفع "التجمع" شعار "صوّتوا لبشارة لاسقاط نتانياهو". وفعلاً سيساعد بشارة على جذب الخريطة السياسية باتجاه اليسار ويجعل باراك يستمع الى مطالب بشارة قبل الجولة الاولى او بعدها للتوصل معه الى اتفاق على حقوق المواطنين العرب وقضايا التسوية. وتعطي اقل التقديرات في استطلاعات الرأي بشارة ما يكفي من الاصوات لترجيح كفة باراك على نتانياهو اذا ما تكررت تجربة انتخابات 1996 حين فاز نتانياهو على بيريز بأقل من واحد في المئة او 16 الف صوت او فارق 31 ألفاً بين الاثنين. الى ذلك ان ترشيح عربي لرئاسة الوزراء في ظل عجز مرشح المعارضة في الفوز على نتانياهو بنسبة تزيد على 50 في المئة من الاصوات سيسمح للعرب ان يصوّتوا مرتين: الاولى ضميرية للمرشح العربي والثانية سياسية براغماتية لمرشح المعارضة اليهودي الاسرائيلي. وكذلك يمكن ان يرفع المرشح العربي من نسبة التصويت بين العرب في الجولة الثانية على خلاف ما جرى في انتخابات 1996، ويقلل من نسبة تصويت الاوراق البيضاء بين العرب لرئاسة الوزراء كما حدث في الانتخابات الماضية وخصوصاً في حال حصول اتفاق مع باراك. واذا كان الحدس السياسي يرجح كفة نتانياهو، فان الارقام الباردة ترجح كفة باراك وهذه الاخيرة تؤكد على ان انسحاب موردخاي من الليكود وانسحاب "غيشر" وزعميها ديفيد ليفي من تحالفه مع الليكود كذلك انسحاب دان ميريدور وروني ميلو من الليكود الى حزب المركز - كل ذلك اضعف قوة نتانياهو. وبهذا المعنى فان انضمام موردخاي الى معسكر باراك في الجولة الثانية او حتى في الجولة الاولى سيؤدي الى فوز باراك على نتانياهو. الا ان الارقام الباردة ليست مقنعة لاصحاب الحدس السياسي الاسرائيلي الذين يتخوفون من تكرار تجربة 96 حين بقي بيريز متقدماً على نتانياهو بالارقام حتى اليوم الاخير الى ان خسر الانتخابات بسبب تفوق اداء نتانياهو الانتخابي عليه وبسبب التفجيرات في القدس وتل ابيب وعملية "عناقيد الغضب" في لبنان. وهذا الحدس ليس مبنياً على مجرد التجربة او الاداء الانتخابي بل على تحليل سياسي - اجتماعي مفاده ان الخارطة السياسية كلها تنحو باتجاه اليمين وان الجيل الجديد من الشباب المصوّت اكثر تطرفاً من الجيل القديم، وان الاحزاب الدينية التي تشكل قواعدها 20 في المئة من المصوّتين تطرّفت اكثر فأكثر وستعطي كل اصواتها لنتانياهو في الجولة الثانية، ان لم يكن في الجولة الاولى. وبهذا المعنى اذا تحرك بعض الاجسام والافراد داخل الفضاء السياسي الاسرائيلي فان قدرته على التغيير اضعف من التغيير العام الطارئ على وجهة الاسرائيليين السياسية. حتى هذه، يقول اصحاب الرأي الحسابي، تتعادل في تأثيرها على موقف الاسرائيليين المتأثر بالازمة الاقتصادية التي تسببت بها سياسة نتانياهو وأدت الى تراجع الاستثمارات الدولية في غياب الاستقرار الذي يساعد على الازدهار الاقتصادي. وهو ما جعل باراك يرفع شعار "انه الاقتصاد يا غبي" كما حصل في حملة كلينتون الانتخابية سنة 1992، التي رجحت الاقتصاد والتهدئة السياسية على عسكرة جورج بوش ويمينيته. مرة اخرى ليس هناك ما يمكن للفلسطينيين العرب ان يفعلوه. وحين يأتي السؤال عما يمكن عمله او عدم القيام به من اجل اسقاط نتانياهو، يكون الرد من اسرائيل: مهما فعل العرب او لم يفعلوا سيشغل نتانياهو ذلك للتأكيد على صحة موقفه او صحة سياسته. اذا قام العرب بأي عمل "عدواني" سياسي او عنفي، سيذكّر نتانياهو الاسرائيليين بموقفه القائل انه لا يمكن الثقة بالعرب والفلسطينيين وانه لا بد من قائد محنك مثله لوقفهم عند حدهم. واذا لم يعمل العرب شيئاً لوقف استمرار الاستيطان والتضييق والحصار على الفلسطينيين كما هو الامر اليوم، سيؤكد نتانياهو على صحة سياسته القائلة انه يمكن تخفيض سقف التوقعات الفلسطينية ويمكنه ان يستمر بتنفيذ الحد الاعلى من المطالب الاسرائيلية من دون دفع اي ثمن. * صحافي فلسطيني.