يقودنا محمد ديب في روايته الأخيرة التي يمكن ترجمة عنوانها ب "كيد الشيطان"، إلى عالم سحري تتفاعل فيه الأسطورة بالواقع، ويتقاطع الشعر بالنثر، والأنا بالآخر، ويتلبّس التأمل الفلسفي بالحزن الصوفي الرقيق، ويتداخل الراهن الجزائري الدامي بالخرافة التاريخية. وهذا المسعى يختزل المسافة الفاصلة بين اليومي والرمزي، فإذا بالأول ظل الثاني أو صورته معكوسة على مرآة الزمان الرتيبة التي لا يجد بطلا الرواية العجوزان ما يشغلان به أيامهما سوى التأمل فيها. يسترجع الحاج مرزوق ويمّا الجوهر ذكرى الأيام الخوالي والأحبة الذين رحلوا، في خريف عمر لم يعد منه سوى بقية رمق. يرتشفان قهوتهما المسائية، في هدوء قرية تادارت الرابضة في "خلاء ما"، في جبل أزرو أوفرنان في منطقة "القبائل" البربرية. وفي هذا المكان غير البعيد عن ضريح الوليّ الصالح سيدي أفالكو، يترقّبان النهاية كما يترقب المرء ضيفاً عزيزاً تأخّر وصوله، لكنه متيقن من مجيئه لا محالة... لكن الضيف القادم لكسر رتابة حياة تادارت القروية البسيطة، ليس النهاية الحتمية التي كان العجوزان يعتقدان أن العمر لم يعد يسمح لهما بالتطلع إلى شيء آخر سواها. فذات صبيحة شتوية، يأتي شاب تأخذ معه الحياة انطلاقة جديدة. انه حفيدهما عمران العائد من المنفى الباريسي حيث وُلد وتربّى، نزولاً عند رغبة والدته زهرة التي أوصته، وهي على فراش الموت، بالعودة إلى مسقط رأسها للتعرّف إلى والديها العجوزين. في قرارة نفسه، كان عمران يتوقع أن يجد في هذه الرحلة إلى القرية الاجابات الشافية على تساؤلاته الكثيرة، وأن يضع حدّاً لشعور المنفى الذي يلازمه في "الأحياء الاسمنتية" الموحشة. لكن الصدمة بين القيم المعاصرة التي نشأ عليها في ضواحي باريس، وبين عادات وتقاليد تادارت التي لا تزال تتحكم فيها الذهنيّة الاقطاعية، تؤدّي في النهاية إلى مضاعفة شعوره بالغربة. وفي تخبّطه بين "الهُنا" و"الهناك"، بين العصرنة التي نشأ عليها، لكنها ظلت دوماً غريبة عنه، وبين التقاليد الأصلية التي جاء يبحث فيها عن ملاذ من غربته، فإذا بمنفاه فيها منفيين... يرتكب عمران "جُرماً" لا يغتفر في عُرف القرية، حين يقع في غرام صفية، وينتزع منها قبلة عابرة، معتقداً أن ذلك مباح كما تعوّد أن يفعل في مدارس وأحياء مراهقته في فرنسا. وإذا بتلك القبلة تُحدث فوضى عارمة في نظام الحياة الذي سارت عليه القرية منذ عصور. حيث أن صفية الحسناء التي يلقِّبها الجميع ب "خطيبة الربيع"، كان يجب أن تبقى طاهرة كي يسيل "دم شرفها" غزيراً في ليلة الزفّة، بما يعادل دم حمامتين ذبيحتين، كي تتجنب القرية نقمة السماء المعطاء التي تدر عليها بالأمطار الغزيرة. ليلة السِّباع تحاول يما الجوهر الالتفاف على النقمة العارمة التي تتهدد عمران، عبر التآمر مع والدة صفية لعقد قرانهما، وتسعى لاقناع الحاج مرزوق بأنهما بهذا الزواج يصيبان عصفورين بحجر واحد، حيث يبعدان عن عمران نقمة القرية من جهة، ومن جهة يضمنان بتزويجه أنه سيبقى في القرية نهائياً، ويعزف عن التفكير في العودة إلى هناك... إلا أن الحاج يبدو منشغلاً بهمّ غامض يملأ عليه وحدته. وهذه الهواجس والأفكار السوداوية تهاجمه "مثل ذباب الأمسيات الخريفية، بقدر ما اجتهد في محاولة طرده، بقدر ما يزداد إصراراً على مهاجمتي وازعاجي". وفي خضم وساوسه الغامضة، يتساءل الحاج في قرارة نفسه، كمن يحدِّث شخصاً آخر: "يا مرزوق! ليكن هذا الكلام بيننا، ولكن تلك البندقية التي تعود إلى زمن بعيد، تلك التي خضت بها حرب التحرير، قد لا يكون أمراً سيئاً أن تفكر في اخراجها من مخبئها. عليك باخراجها ثانية لتفقّدها، والتحقق من مدى صلاحيتها اليوم. من يدري؟ فثمة شيء ما، لا يعجبك، تحسّ أنه موشك على الحصول. شيء لا تدرك ما هو بالضبط، لكنك تعرف أنه من الأفضل أن يبقى حيث هو، وألا يحصل...". كلما اشتد الشتاء يخاف أهل تادارت من أن تهاجمهم السِّباع الجائعة. لذا درجت القرية على اقامة احتفال طقوسي يسمى "ليلة السِّباع"، ينتهي باختيار أحد كلاب القرية، واحاطة رقبته بوشاح أحمر، ثم ارساله إلى خارج القرية ليواجه السباع أو ليكون قرباناً لها. لكن الكلب الذي وقع عليه الاختيار هذه السنة، بدل أن يختفي بلا رجعة، عاد بعد أيام إلى أطراف القرية، ومعه كلبة وجراء هجينة. والأدهى من ذلك أنه لم يتعرف على صاحبه الهاشمي، بل راح ينظر إليه واجماً وهو يترجّاه أن يعود إلى البيت برفقة أنثاه وجرائه... ولم تكن الحادثة لتشغل بال أحد في القرية، لولا اصابة الهاشمي على أثرها بحالة تقارب الجنون. صار هذا الأخير يذهب يومياً إلى المكان الذي احتله كلبه عند أطراف القرية، ليقضي الساعات وهو يحدثه ويترجاه أن يعود إلى البيت. وحده الحاج مرزوق لاحظ أن الكلب أنكر مولاه، وصار يكتفي بالتحديق فيه بنظرات بليدة تنم عن أنه لم يعد يذكره، ولا يأبه بتوسلاته. "ما الذي جعل الكلب يفقد كل ما لديه من انسانية!؟" تساءل الحاج، مستشرفاً بوادر كارثة لا تحمد عُقباها. وتخوّفات الحاج كانت للأسف في مكانها. ففي صبيحة العيد، بعد ذبح الأضحية، تعرضت القرية لهجوم عشرات الكلاب المماثلة، بعد أن اشتمّت رائحة الدم ولحم الخرفان المذبوحة. ولم تتردّد تلك الكلاب في نهش أجساد أصحابها السابقين. وهذه الكلاب كان يُفترض أنها غادرت القرية في "ليلة السباع"، عاماً بعد آخر، لتفدي القرية... فإذا بها تعود لتفترس أهلها نيابةً عن السباع! فضلاً عن الاحالات الرمزية الواضحة التي تتضمنها الرواية بخصوص الراهن الجزائري الملتهب، يكتسب هذا العمل فرادته وتميزه أساساً من أسلوب الكتابة الذي يقفز برشاقة بين الشعر والنثر، بين الأنا والآخر، وبين المفرد والجمع، الغائب والمخاطب، ماحياً الحدود الفاصلة بين هذه الثنائيات. فصاحب "الحريق" و"الدار الكبيرة" يقدم في هذه الرواية - الوصية خلاصة كل التجربة الابداعية والنضالية والانسانية التي راكمها على مدى نصف قرن... ورحلة محمد ديب الغنيّة، بدأت كما هو معروف في الأربعينات، عندما نشر الكاتب الشاب المولود في تلمسان ربيع 1920، نصوصه الابداعية ومقالاته الصحافية الأولى في جريدة "ألجي ريبوبليكان"، حتى صدور ثلاثيته الأولى التي لاقت رواجاً كبيراً، ونصّبته "محامياً يُرافع باسم شعبه وقضيته"، وقادته في الآن نفسه إلى "المنفى الأول"، سنة 1958، بقرار من السلطات الاستعمارية التي رأت في رواياته "إخلالاً بالأمن العام". وفي خضم حركة التحرر الوطني تبلورت على يد محمد ديب، وشلة من رفاقه، الملامح الأولى للأدب المغاربي الحديث. لكن "الأب الروحي للرواية الجزائريّة"، سرعان ما انفتحت عيناه على خيبات الدولة في سنوات الاستقلال الأولى، وقاده ذلك إلى المنفى ثانية، سنة 1964، بعد أن صفّى حساباته في "الثلاثية الثانية" مع السلطة الجديدة التي اغتالت الأحلام الثورية على مذبح البيروقراطية والاستبداد والتفرد بالرأي. بعد ذلك انقطع ديب عن الكتابة عن بلاده لأكثر من عقدين، منصرفاً إلى انجاز "ثلاثية الشمال"، ومجموعة أعمال روائية تدور أحداثها في وسط أوروبي. إلا أنه في هذه الرواية الجديدة يثبت أن سنوات المنفى الطويلة لم تحد من قدرته الفائقة على الامساك بتفاصيل الأشياء وخصوصيات المكان. فالصفحات الأولى التي تصوّر بطليه العجوزين في حالة الهدوء الرتيبة قبيل عودة عمران، تعيدنا إلى أجواء ثلاثيته الأولى التي عبّرت بدقّة وبراعة عن واقع القرية الجزائرية بتفاصيلها وعطورها وناسها وعاداتها الصغيرة، وتأرجحها الدائم عند الحافة الفاصلة بين الحداثة والعصرنة وبين المعتقدات الأسطورية والقيم الاقطاعية المتوارثة منذ عصور. أما حين يتناول الراهن الجزائري و"دموية الكلاب التي فقدت آخر ما لديها من انسانية"، فإن صاحب "إغفاءة حواء" لا يجد وسيلة أفضل من اللجوء إلى الشعر: "حرب حالكة/ الليل فيها يَعدُّ طلقات الرصاص/ والنهار يَعدُّ الموتى.../ بانتظار غد أفضل/ يوم يسقط قناع الحرب/ تسيل دمعة من هذه العين وأخرى/ من العين المترصّدة بها./ ولعل الأنامل ذاتها التي تمسح الدمعة الأولى/ ستمسح أيضاً الدمعة الأخرى!".