في رواية محمد ديب الجديدة، الصادرة حديثاً عن دار "ألبان ميشال" Albin Michel في باريس، في عنوان "لو أراد إبليس"، لا يدع الكاتب الجزائري باللغة الفرنسية مجالاً للشك في انه هو صاحب الكلام النثري كله، جملة وتفصيلاً. وقد يستغرب البعض عن حق هذا التوصيف السريع الزاعم التقاط وجه الخصوصية في هذه الرواية، ونحسب انه سوف يتساءل على الفور عن قيمة ومغزى هذا التوصيف ما دام بديهياً ومن قبيل تحصيل الحاصل ان الكاتب هو الذي ينشئ، وعلى طريقته وبأسلوبه، شخصيات وحوارات وأزمنة وأمكنة روايته. والحق ان التوصيف المذكور يرمي الى القول بأن الكاتب الجزائري المرموق، والحائز على غير جائزة أدبية كبيرة في فرنسا الجائزة الكبرى للفرنكوفونية التي تمنحها الاكاديمية الفرنسية مثلاً، يحذف ويمحو تقريباً كافة "الوسائط" الروائية النثرية المعهودة التي تجعل الكاتب يتحدث من خلف او بواسطة شخصيات قائمة برأسها ومقيمة في مكان وزمان معلومين هما مادة وجودها وحياتها وقوامها. وفي هذه الحال، لا يعود في وسعنا، نحن القراء، ان نسأل الكاتب او ان نحاسبه على صدقية وصلاحية شخصياته بمقاييس روائية، ما دام لم يلتفت أصلاً ومنذ البداية الى استقلال هذه الشخصيات بعالمها وتمثيلاتها وطرائق تعهدها لمصيرها وتجاذباتها. ويعني هذا ان الكاتب محمد ديب ارتأى ان يحلّ في شخصياته حلولاً صوفياً بحيث تذوب الى حد بعيد المسافة المفترضة بين الذات الكاتبة وبين عناصر عالمها الأدبي والتعبيري. بعبارة أخرى، يضع محمد ديب روايته في منطقة متحركة بين الشعر والنثر، يضغط عبارته حيناً ويرسلها حيناً آخر، ويستبقي من شخصياته وحواراتها الملامح واللحظات التي ينعقد فيها المعنى الجامع لوجود ما بدون توسع سردي، ونراه، الى ذلك، ينقل مداورة صيغ الكلام النثري بين المفرد المتكلم، الفردي والجمعي، وبين المخاطب والغائب، يحصل ذلك في المقطع الواحد. ويتألف من جملة هذه العناصر المذكورة باختصار نسيج أدبي ذو طابع رؤيوي بامتياز. والراجح ان محمد ديب ارتأى الاعتماد على هذا المنظار الرؤيوي للتعبير عن تشخيصه الكتابي القلق للمأساة الجزائرية. وهذا الانتقال الدائم من الجملة النثرية القصصية الى الجملة الشعرية القائمة على التلميح والاختزال والتكثيف، ومن العبارة السردية الى العبارة الرؤيوية المشفوعة بتأملات فكرية مشحونة، هذا الانتقال لا يمنع من وجود اطار حكائي او لنقل هيكلية حكائية. والحكاية هذه تدور على رجل وامرأة عجوزين في قرية نائية اسمها تادارت في عمق الريف الجزائري. ويرتسم عالم الرجل، واسمه الحاج مرزوق، والمرأة واسمها ييما جوهر، على ايقاع التقاليد والعادات الريفية الجزائرية وعلى اللحظات البارزة من الحياة الزراعية حيث تعاقب الفصول ودورة الزمن الطبيعي والحيوانات تحظى كلها بحضور يكاد يستحوذ على مادة الوجود البشري في هذه الأمكنة. ذات يوم يصل الى بيت العجوزين شاب اسمه يمران، قادماً من ضواحي باريس الرمادية والحزينة حيث تتكدّس داخل المباني العالية والمرصوصة عائلات المهاجرين الجزائريين. والشاب هو ابن اخت الرجل وقد ولد وترعرع وكبر داخل نسيج حياة الضواحي الباريسية، وقرّر العودة الى مسقط رأس امه التي ماتت في الغربة بعد ان طلبت منه ان يذهب الى القرية الجزائرية حيث يقيم شقيقها وزوجته الطاعنان في السن. ويفرح هذان العجوزان بقدوم قريبهما اليافع، إذ انهما بقيا بمفردهما من دون ذرية ولا أقارب، على ما يبدو. ويأخذ الشاب في اكتشاف وجوه الحياة الريفية الجزائرية ويلتقي فتاة هي ابنة المؤذن في القرية، ويقوم بمغامرة جنسية معها حاسباً ان يكون هذا الأمر عادياً وسهلاً كما هي الحال في مدارس وأحياء باريس وضواحيها. وتداركاً للفضيحة وسوء السمعة تذهب المرأة العجوز الى بيت المؤذن وتلتقي زوجته لتطلب منها تزويج الشاب والفتاة "صفيّة"، كما تقتضي تقاليد الحياة القروية. في اثناء ذلك، وبموجب تقاليد وعادات شائعة تطاول جوانب شبه اسطورية من حياة الأرياف، ترسل القرية كلباً بعد لفّ رقبته بوشاح أحمر، في أيام البرد القارس، لمواجهة "السبع" او السباع التي يخشى ان تهاجم القرية وتفتك بحيواناتها وأحياناً ببعض سكانها. وهذه العملية التي تجري بطريقة طقوسية بعض الشيء يطلق عليها اسم "ليلة السباع"، وفي العادة يذهب الكلب ولا يعود. غير ان الكلب رجع هذه المرة ومعه أنثى وجراء هجينة ووقف على تخوم القرية كما لو انه ما عاد يعرفها وما عاد يعرف صاحبه الأصلي "هاشمي". وفي يوم عيد الأضحى واثر نحر الخراف تهجم الكلاب المسعورة على القرية بعد ان اشتمت رائحة الدم. يأخذ الرجل العجوز بندقيته، تلك التي استخدمها أيام حرب الاستقلال والتحرير، ويذهب لمواجهة الكلاب الوحشية التي استذأبت على ما يظهر. وتحصل معركة يشارك فيها الحاج مرزوق وشابان توأمان من أبناء القرية، ثم يقع الرجل ومن بعده أناس آخرون على جثة فتاة في حقل قريب يبدو ان الكلاب نهشتها، وهذه الفتاة هي نفسها "صفية" التي كان من المفترض ان تصبح زوجة الشاب يمران. أمام هذه الأحداث لا يبقى أمام الشاب الحائر والتائه وسط عادات وتقاليد جديدة عليه، سوى ان يعود الى فرنسا، خلافاً لرغبة أمه الراحلة، ذلك ان مكانه الطبيعي هو هناك، أي في المكان الفرنسي الذي يظلّ بالنسبة للشاب وطن الاقامة والغربة في آن. من نافل القول ان الكاتب الجزائري محمد ديب لجأ الى الأمثولة والحكاية الرمزية كي يفصح ليس فحسب عن المأساة الجزائرية الدائرة امامنا على ايقاع المجازر والمذابح المتتالية، بل كذلك عن كبرى المحاور والخطوط التي تضم وتختصر حياة الجزائريين وتاريخهم الحديث الممزق والقاتم والموزّع بين أمكنة وأزمنة ولغات وثقافات قد يكون من الصعب جمعها وترتيبها في حياة تعرف السكينة والطمأنينة وقد تبدو لنا الحبكة القصصية واشتغالها القائم على الترميز وتسقط العبرة، حاملة لقدرٍ لا بأس به من السذاجة. غير ان هذه السذاجة المزعومة والمقصودة على الأرجح، ليست هي في الحقيقة مدار رواية "لو أراد إبليس"، بل يسعنا ان نميل الى الظن بأن الروائي يتوكأ على عناصر ووجوه حكاية ذات مغزى أخلاقي، كي يستولد منها وفيها فسحات للكتابة، وهي فسحات تبدو، في عرف محمد ديب، المكان الوحيد، إن لم يكن البلد الأخير، لوجود يتأرجح بين الحنين الى الوطن الأصلي وبين غربة ذات بعد وجودي يتعهده الكاتب بطريقة صوفية أو شبه صوفية. وفي هذه الحال، لا يعود ثمة أي معنى لمحاسبة الكاتب على قيمة شخصياته الروائية ومدى صلاحيتها واقامتها الفعلية في عالمها بالذات. ذلك ان الرواية ليست سوى التعبير عن قلق وجودي عميق وعن ايجاد بلد له، وهو بلد سوف يبقى موقتاً ومتنقلاً ومرتحلاً لأنه بالضبط بلد الكتابة لا غير. وعليه يستطيع الروائي ان يستوقف لحظات السكوت او الهمس او التردد او اضطراب الكلام وتعثره، كي يستخرج منها تأملات وتقويمات وتقديرات تتسم على العموم بطابع رؤيوي. فنحن نراه مثلاً يتوقف عند مشهد وأصوات قادمة من حول ضريح "سيدي أفالكو"، الأمر الذي يحدث حيرة لدى الشاب يمران، ثم يستطرد محمد ديب قائلاً: "التحدث انطلاقاً من مكان نفترض اننا موجودون فيه، وحيث يروق لنا ان نحسب بأننا موجودون فيه مع علمنا الكامل بأننا لسنا فيه حقاً، وبأننا لم ننفذ اليه إلا عن طريق الحنين المحض. التحدث من هذا الفضاء الذي لا تعرفه وهو فضاء قائم برأسه، في ذاته، وهذه الرغبة في ان يخاطبك هذا الفضاء بدوره، وأن يحدثك عن نفسك فيما هو يتحدث عن نفسه". ويستطيع محمد ديب ان ينسب الى المرأة العجوز الآخذة في مخاطبة ام الفتاة، القول بأن الأمل يهجرنا فقط عندما ننسى الجانب الطيب للأشياء، عندما ندير ظهرنا له وعندما نترك، بسبب اليأس، الشقاء يفعل فعله، لا لشيء سوى التلذذ برؤيته وهو يصنع صنائعه. ثم نرى محمد ديب يضع حواراً ذاتياً بين الشاب يمران وبين صوت قادم لا نعرف من أين، وعندما يسأل الشاب هذا الطيف من هو، يجيب هذا الأخير بلغة شعرية: "أنا؟ من أكون؟ لكنني الشمس في أوج توهجها والتي لا يقوى احد على النظر اليها! الصياد المجهول المقيم داخل فناء كلامه! العين التي تجفف الفضاء. رمل الحاضر قبل رمل الماضي. المستقبل في صيغة الماضي والحاضر. الروعة".