غيّب الموت قبل ايام في باريس الروائي والشاعر الجزائري محمد ديب عن 82 عاماً. وكان ولد في 20 تموز يوليو 1920 في مدينة تلمسان غرب العاصمة الجزائرية. حاز ديب عام 1982 جائزة الفرنكوفونية التي تمنحها الاكاديمية الفرنسية وكرّسته واحداً من كبار الكتّاب العرب والعالميين الذين يكتبون باللغة الفرنسية. وكان اختار باريس منفى اختيارياً بدءاً من العام 1945. هنا قراءة في عالمه الشعري والروائي وشهادتان من الكاتبتين الجزائريتين احلام مستغانمي وفضيلة الفاروق وهما تنتميان الى جيلين روائيين مختلفين. استهلّ الكاتب الجزائري محمد ديب حياته الأدبية شاعراً ثمّ لم يلبث أن انتقل الى الرواية ليعود من جديد الى الشعر ويصبح شاعراً وروائياً في الحين نفسه. وظلّ يحافظ على هاتين "الصناعتين" حتى أيامه الأخيرة متنقلاً بين شعريّة السرد والنثر وكثافة اللحظة الشعرية. وعلاوة على هذين النوعين كتب القصة القصيرة واليوميات والمسرح والسيناريو والنقد. ولعلّ كتابه الأخير الذي كان صدر قبل شهرين من وفاته وعنوانه "سيمورغ" دار ألبان ميشال، باريس يدلّ كثيراً إلى فضاء "الكتابة الحرّة" التي لجأ اليها أخيراً دامجاً بين اليوميات والتأملات والسرد والشعر. وبدا في هذا الكتاب "عابر حدود" كما يقال عنه، إذ تخطى فيه سلطة الأنواع والأساليب. وإن كان محمد ديب شاعراً صعب المراس ودؤوباً وصاحب تجربة بارزة حاز لها جائزة مالارميه في العام 1998 فانّ صفة الروائي طغت على صفة الشاعر وخصوصاً على المستوى الشعبي، فراجت رواياته وخصوصاً "ثلاثيته الجزائرية"، وظلّ شعره وقفاً على هواة الشعر وقرائه وهم قلّة. ولعلّ المقارنة بين نتاجه الروائي ونتاجه الشعري تكشف كم أنّ البون شاسع بينهما على رغم النزعة الشعريّة التي تحكم معظم رواياته وعلى رغم ورود بعض الموضوعات الأثيرة إليه. والدواوين التي أصدرها بدءاً من الستينات راحت تزداداً انغلاقاً على نفسها منتهية الى حال من "الهرمسية" الصعبة القائمة على "كيمياء" اللغة الشعرية. وهذه اللغة تقوم بدورها على ما يسمى "تراسلات" بين المفردات والايقاعات والأصداء. وقد تساهم النزعة الأروسية التي تسم شعره في اذكاء نار اللغة عبر المواجهة بين الجسد والكتابة في القصيدة نفسها. وكان لا بدّ من أن يغدو شعره صعباً وعصياً على الترجمة نظراً الى كثافته أوّلاً أو نقصانه التركيبيّ المقصود وانصهاره اللغوي الذي يعيد الى الذاكرة صنيع مالارميه مثلاً وقد كانت المفردات نفسها عماده الأوّل. يرسم محمد ديب في احدى قصائده صورة شاعر مجهول قائلاً: "أن يجلس/ مثل رجل مجهول/ أن يضع يديه/ على الطاولة/ أن يطلب/ بالنظر فقط/ مأوى/ وإذناً/ أن يستخدم خبزاً/ وناراً/ لم يصنعهما/ بنفسه/ أن يجمع الفتات/ في الختام/ ليحمله/ الى العصافير/ ألاّ يقول/ من هو/ من أين أتى/ ولا لماذا/ أن يحفظ الكلام/ لأمر آخر/ وأن يضع الكرسيّ/ أمام النافذة". ويقول في قصيدة أخرى: "مرآةً أفتح نفسي/ طريقاً أحدّ نفسي/ بغابة خضراء". إلا أنّ محمد ديب لم يصل الى هذه الحالة الشعرية إلا في مرحلته الثانية. فهو بدا في ديوانه الأوّل "الظل الحارس" 1961 متأثراً قليلاً بشاعر الحب بول إيلوار ورازحاً تحت هاجس الهويّة، هو الجزائري الذي يكتب بالفرنسية. وعندما نشر محمد ديب قصيدته الأولى وعنوانها "فيغا" في العام 1947 مفتتحاً بها حياته الأدبية بدا شاعراً حقيقياً وطريفاً وذا قماشة خاصة. وقد تبدّى في تلك القصيدة حنين الشاعر الشاب الى أندلس الفنون والعشق وكذلك إغواء الفكر الصوفي و"الباطني" أو الايزوتيريكي. ولم تخلُ القصيدة تلك من أثر السورياليين الذين كان بدأ الشاعر يقرأهم. نتاج محمد ديب الروائي يفوق نتاجه الشعري غزارة وشهرة ولكن ليس نوعاً أو خصوصية وتميّزاً. ستة دواوين فقط هي حصيلة تجربته الشعرية فيما تتخطى رواياته العشرين. ويتوزّع نتاجه الروائي على مرحلتين أو مراحل ثلاث، تختلف واحدتها عن الأخرى في موضوعاتها ولغتها ومقاربتها الروائية. هذا التعدّد لن يعني التشتت أو التبعثر أبداً. فالكتابة لدى محمد ديب تسلك مسرى واضحاً وغامضاً في وقت واحد، وخاضعاً للتحوّلات اللغوية والأسلوبية و"الموضوعاتية". أولى روايات محمد ديب حملت عنوان "البيت الكبير" وصدرت في العام 1952، وستكون هذه الرواية أولى "الثلاثية الجزائرية" التي ستضم لاحقاً "الحريق" 1954 و"مهنة النسيج" 1957 أو "المنسج" كما يترجمها البعض. هذه الثلاثية ستظلّ هي الأشهر وستطغى على سائر أعماله الروائية رواجاً و"شعبية"، مع أن بعض رواياته اللاحقة ستكون أهمّ منها، سواء في صناعتها وبنائها ولغتها أم في قضاياها وأبعادها. ولعل ما ساهم في رواج "الثلاثية" كونها أشبه بالجدارية الروائية التي ترتسم من خلالها تفاصيل الحياة اليومية التي يعيشها أهل بلدة تلمسانمسقط الكاتب نفسه والبلدات المجاورة في الغرب الجزائري. وكانت هذه الثلاثية من الأعمال الروائية الجزائرية السبّاقة الى ادخال الشخصية "الأهلية" أو "المحليّة" كما قيل كثيراً حينذاك في صميم المشهد الروائي الذي دأب على صنعه أدباء "الكولونيالية" أو الاستعمار الفرنسي. وقد استبعد هؤلاء الشخصية الأصلية الجزائرية عن أعمالهم ناظرين اليها نظرة مبتسرة أو دونية. وهكذا تبنّت "ثلاثية" محمد ديب "أطروحة" تهدف الى المصالحة بين الشخصية الجزائرية المهمّشة والعالم "الفرنكوفوني"، حافزة هذا العالم الى التآلف معها كشخصية "بلدية" أو "أهلية" طالما قدمتها الايديولوجيا الكولونيالية كحالة غريبة و"بربرية". أعادت "الثلاثية" الى الشخصية الجزائرية الكلمة التي صودرت منها. واللافت ان استعادة "الكلمة" تمّت في لغة المستعمر أو المحتل نفسه وبمهارة وتفوّق. عالم "الثلاثية" هو تحديداً عالم "البيت الكبير" أو "دار سبيطار" كما يقول الجزائريون، وهو عبارة عن عمارة قديمة تسكنها عائلات عدّة. لكنّ "الثلاثية" لن تكتفي بهذا "البيت" بل ستشمل امتداداته أيضاً: الشارع، المدرسة، المقهى الموريسكي، المنسج... ولن يتوانى محمد ديب عن دفع بطله الشاب عمر الى اكتشاف هذا العالم ليكتشف من خلاله المآسي الاجتماعية والسياسية والوجودية التي يعانيها الشعب الجزائري الخاضع للاستعمار. وقد تغدو "الثلاثية" نفسها سيرة مزدوجة: سيرة البطل عمر منذ طفولته التعيسة والسعيدة في تعاستها حتى ولوجه عالم العمل والعمال الذي يسيطر عليه مناخ من القلق والكآبة، وسيرة تلك المدن الصغيرة والبيئات والمجتمعات الرازحة تحت الاستعمار. وإذ تجرى أحداث "الثلاثية" خلال أجواء الحرب العالمية الثانية فهي ترسم الجوّ الاجتماعي والسياسي للجزائر عشية اندلاع حرب التحرير. وفي هذا العالم المثخن بالجروح والآلام يبرز الوعي الفردي مقابل الوعي الجماعي وهما سيقودان معاً الى حركة الثورة والتغيير. وبدا عنوان الرواية الثانية في "الثلاثية" وهو "الحريق" كأنه يستبطن معنى النار التي ستهبّ لاحقاً لتحرق سلطة الاستعمار. يقول محمد ديب في هذه الرواية: "لقد اشتعل الحريق وهو لن ينطفئ أبداً". اعتبر بعض النقاد أن "الثلاثية" تنتمي الى الأدب الواقعي والى المرحلة الأولى من تجربة محمد ديب وهي تنتهي في رواية "صيف أفريقي" 1959. على أن مرحلة ثانية تبعتها سمّيت مرحلة "الانفجار الغنطاسي" أو الغرائبي، وتضم روايات مثل: "مَن يتذكّر البحر" 1962 و"جريان على الضفة المتوحشة" 1964. وتلتها مرحلة "الواقعية الجديدة" ومن رواياته خلالها: "رقصة الملك" 1968 و"معلّم الصيد" 1973. وجمعت هذه المرحلة في طريقة لافتة بين واقعية ذات خلفية رمزية وتفسير باطني أو "ايزوتيريكي" للعالم، ممّا أبعدها عن منابت "الواقعية الجديدة" التي تجلّت مثلاً في الأدب والفن الإيطاليين. غير أنّ من يقرأ محمد ديب جيداً ويطلع على مراحله يكتشف صعوبة تقسيم عالمه أو تجربته الى مراحل مستقلّة ومنفصلة. فبعض الروايات تخترق حدود المراحل أو الأنواع وتنفتح على المشروع الروائي ككل. واستخدام النوع الغنطاسي والغرائبي في بعض الروايات لا يعني بالضرورة نشوء مرحلة خاصة بهذا النوع. أما المرحلة الأولى المتمثّلة ب"الثلاثية" فيصعب وصفها فقط ب"الواقعية" حتى وإن بدت وثيقة الارتباط بالواقع الجزائري الخاضع للاستعمار. ويجب عدم اغفال الروايات التي استوحاها محمد ديب من العالم الباريسي هابل، 1977 أو من عالم الشمال البارد خلال اقامته لسنوات الثمانينات في فنلندا، ومن تلك الروايات: "مصاطب أورسول" 1985 و"نوم حواء" 1989 و"ثلوج المرمر" 1990. وفي هذه الروايات يستعين محمد ديب ببعض الأساطير الشمالية موظفاً اياها ضمن مخيّلته الروائية ليكتب "أدب منفى" يحمل الكثير من السمات الجديدة. فالشخصيات التي تحفل بها هذه الروايات هابل، عائد، صلح، وأنا الراوي... تواجه مدناً غريبة وفضاءات "متاهية" تمثل العالم الآخر والمجهول، مثلما ترمز الى مسرى الفكر والرغبة واللاوعي. وممّا يوحّد عالم محمد ديب أيضاً، الواسع والمتعدّد، بعض "الموضوعات" أو القضايا التي لا تفتأ تتردّد في رواية وأخرى أو في مرحلة وأخرى، أو حتى بين ديوان ورواية: الحب المجنون، هاجس الموت، البحث عن الذات، البحث عن اللغة الأصلية، البحث عن المعنى الخفي للأشياء، سطوة الأنوثة، أسرار المدن، جمال البحر، النظرة والغناء كأداتين للتواصل... ينتمي محمد ديب الى الجيل المؤسس في الحركة الأدبية الفرنكوفونية في الجزائر، وهو يضمّ مولود فرعون ومولود معمّري ومالك حداد وكاتب ياسين. وقد يكون محمد ديب وكاتب ياسين في طليعة هذا الجيل الذي استطاع أن يتحدّى الاستعمار الفرنسي عبر لغته نفسها وأن يكتب أدباً روائياً جديداً فرنسي اللغة، جزائري الروح والهموم. يقول محمد ديب في هذا الصدد: "يُهيّأ الينا أنّ ثمّة عقداً يربطنا بشعبنا. ويمكننا أن نسمّي نفسنا ب"كتابه العامّين". نحو هذا الشعب نلتفت أوّلاً، ثم نلتفت من جديد نحو العالم لنشهد على هذه الخصوصية، ولكن أيضاً، لنشير كم أنّ هذه الخصوصية تندرج في الكوني". لم يشعر محمد ديب بعد أن غادر الجزائر نهائياً في العام 1959، هرباً من شرطة الاستعمار، أنّه يعيش في منفى قاس وكئيب. فهو الذي وجد في اللغة الفرنسية أداة للتعبير والمعرفة والشهادة والمقاومة خلق لغته في صميمها، كما يعبّر. ولغته التي يقصدها هنا تتكوّن من اللاوعي اللغوي الذي تركته فيه العربية المحكية أو الجزائرية أي اللغة الأم واللغة الفرنسية أو "الخارجية" والتي تعلّم القراءة بها. لكنّه لم يخف أبداً اعجابه بهذه اللغة التي أتقنها مثل كبار مبدعيها. وكتب الشاعر لويس أراغون في تقديمه ديوان محمد ديب "الظل الحارس" ما يؤكّد هذا الاتقان، إذ يقول: "هذا الرجل، الآتي من بلاد لا علاقة لها بأشجار نافذتي، ولا بأنهر ضفافي ولا بحجارة كاتدرائياتنا، يتحدّث بكلمات فيّون وبيغي". ولم يسمّ أراغون هذين الشاعرين اللذين هما من كبار اللغويين في العالمين الكلاسيكي والمعاصر، إلا اعترافاً منه بقدرات محمد ديب اللغوية وهي تبدّت خصوصاً في قصائده المنحوتة نحتاً والمصفّاة والقائمة على اختبار اللغة الفرنسية ومحاورتها. يقول محمد ديب: "تتكلّم اللغة الفرنسية عن أعمال القلب بأدوات العقل"، معتبراً أنّ هذه اللغة قادرة على الجمع بين ما يُسمى نقلاً وعقلاً، بين سلطة الشعور الدفين وسلطان الوعي، بين الانحياز العاطفي والالتزام العقلاني. ماذا ترجم من أعمال محمد ديب الى العربية؟ قد تصعب الاجابة عن مثل هذا السؤال في عالم عربي ما زالت حركة النشر فيه تعاني الكثير من الارتباك والفوضى وترزح تحت وطأة المحلّية أو الاقليمية. وفيما باشرت بعض الدور الفرنسية نشر مؤلفات محمد ديب في سلاسل "كتب الجيب" دلالة على رواجها الشعبي، يبحث القارئ العربي عن كتاب له مترجم الى العربية فلا يجد أو لا يجدْ بسهولة. ترى هل ترجم محمد ديب الى العربية، كما ينبغي أن يترجم كاتب يملك أسرار اللغة الفرنسية أو روائي وشاعر أضاف الى لغة "الآخر" سحر لغة الذات؟