يجبر المنفى المرء على التفكير فيه ويا لها من تجربة فظيعة. انه الشرخ المفروض الذي لا التئام له بين كائن بشري ومكانه الاصلي، بين الذات وموطنها الحقيقي: فلا يمكن البتة التغلب على ما يولّده من شجن اساسي. واذا ما كان صحيحاً ان الادب والتاريخ يحفلان بحوادث بطولية، ورومانسية، ومجيدة، بل وظافرة حدثت في حياة النفي، الا ان هذه الحوادث لا تعدو ان تكون جهوداً يقصد منها التغلب على اسى الغربة الشالّ. فمآثر المنفى لا يني يقوّضها فقدان شيء ما خلفه المرء وراءه الى الأبد. ولكن اذا ما كان المنفى الحقيقي حالة فقدان مبرم، فكيف امكن له ان يتحول بتلك السهولة الى حافز قوي، بل ومخصب، من حوافز الثقافة الحديثة؟ لقد اعتدنا النظر الى الحقبة الحديثة على انها حقبة يتيمة ومغتربة روحياً، عصر القلق والغربة. وقد علّمنا نيتشه ألا نشعر بالارتياح للتقاليد، وعلّمنا فرويد ان نعد ألفة العائلة ذلك الوجه اللطيف المرسوم فوق غضبة قتل الآباء وغشيان المحارم. والثقافة الغربية الحديثة هي في جزء كبير منها نتاج المنفيين، والمهاجرين، واللاجئين. والفكر الاكاديمي، والنظري، والجمالي في الولاياتالمتحدة لم يصل الى ما هو عليه اليوم إلا بفضل اولئك الذين لجأوا اليها هرباً من الفاشية، والشيوعية، وسوى ذلك من الانظمة المجبولة على قمع الخارجين عليها وطردهم. بل ان الامر قد وصل بالناقد جورج شتاينر حد اقتراح اطروحة ثاقبة مفادها ان أدب "المهجر" يمثّل جنساً قائماً بذاته بين الاجناس الادبية في القرن العشرين، ادب كتبه المنفيون وعن المنفيين، ويرمز الى عصر اللاجئين. ... أليس صحيحاً ان النظرة الى المنفى امر دنيوي على نحو لا براء منه وتاريخي بصورة لا تطاق" وانه من فعل البشر بحق سواهم من البشر" وانه، شأن الموت انما من غير نعمة الموت الاخيرة، قد اقتلع ملايين البشر من منهل التراث، والأسرة، والجغرافيا؟ ان ترى شاعراً في المنفى يعني - بخلاف قراءة شعر المنفى - ان ترى تناقضات المنفى مجسدة وفاعلة بشدة فريدة. فمنذ سنوات عدة قضيت بعض الوقت مع فايز احمد فايز، اعظم شعراء الاوردية المعاصرين. كان نظام ضياء الحق العسكري قد نفاه من وطنه باكستان، ووجد نوعاً من الترحيب في بيروت التي مزقتها النزاعات. وكان من الطبيعي ان يكون اقرب اصدقائه هناك من الفلسطينيين، غير انني احسست، على رغم مما كان من ألفة روحية بينه وبينهم" ان ما من شيء كان منسجماً تمام الانسجام، لا اللغة، ولا التقاليد الشعرية، ولا تاريخ الحياة. مرة واحدة فقط، حين جاء إقبال احمد الى بيروت، وهو صديق باكستاني وزميل منفى، بدا على فايز انه قد تغلب على احساسه بالغربة المقيمة. جلسنا نحن الثلاثة في مطعم بيروتي معتم حتى وقت متأخر من احدى الليالي، بينما راح فايز يلقي قصائده. وبعد فترة، توقف هو وإقبال عن ترجمة أشعاره لي، غير ان ذلك لم يعد مهماً مع مرور الوقت. فما كنت ارقبه لم يكن بحاجة الى اية ترجمة: كان ضرباً من الأداء الذي يمثل عودة الى الوطن يعبر عنها من خلال التحدي والخسران، كأنهما يقولان: "ضياء الحق، نحن هنا". وبالطبع فإن ضياء الحق هو الذي كان في الوطن فعلاً وهو الذي ما كان ليسمع صوتيهما المتهللين. راشد حسين مثقف فلسطيني. ترجم بياليك، وهو واحد من اكبر شعراء العبرية الحديثة، الى العربية، وقد بوأته فصاحته في مرحلة ما بعد 1948 سدة الخطابة والوطنية بلا منازع. وكان في البداية قد عمل في الصحافة الناطقة بالعبرية في تل أبيب، وأفلح في إقامة حوار بين كتّاب يهود وعرب، وعلى رغم اعتناقه الناصرية والقومية العربية. وبمرور الوقت، لم يعد بمقدور راشد حسين ان يتحمل ما كان يثقل كاهله من الضغوط، وغادر الى نيويورك. تزوج امرأة يهودية وبدأ يعمل في مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في الأممالمتحدة، لكنه لم يكن يكف عن إثارة رؤسائه بأفكاره الخارجة عن المألوف وبلاغته الطوباوية. وفي 1972 عاد الى العالم العربي، لكنه لم يمكث هناك سوى بضعة شهور عاد بعدها الى الولاياتالمتحدة: فقد شعر بالغربة في سورياولبنان، وبالتعاسة في القاهرة. وآوته نيويورك من جديد، انما كذا فعلت فترات متطاولة من السكر والتبطل. كانت حياته خراباً، لكنه ظل من أكرم البشر وأحسنهم ضيافة. ومات بعد ليلة من السكر الثقيل حين امتدت النار من لفافة كان يدخنها في فراشه ووصلت الى مكتبة صغيرة من الأشرطة معظمها لشعراء يلقون قصائدهم. لقد اختنق راشد حسين بدخان الاشرطة. وأُعيد جثمانه الى الوطن لكي يدفن في مصمص، تلك القرية الصغيرة في اسرائيل حيث لا تزال تقيم أسرته. هؤلاء وسواهم الكثير من الشعراء والكتّاب المنفيين يضفون كرامة على شرط شرّع له ان ينكر الكرامة، وان ينكر هوية الشعب. ومن الواضح من خلال امثال هؤلاء انك كيما تركز على المنفى بوصفه ضرباً من العقاب السياسي المعاصر لا بد ان ترسم خرائط لنطاقات من التجربة تتعدى تلك التي رسمها أدب المنفى ذاته. عليك اولاً ان تضع جانباً كلاً من جويس ونابوكوف وتفكر عوضاً عن ذلك بأعداد لا حصر لها ممن أُنشئت لأجلهم وكالات الأممالمتحدة. عليك ان تفكر باللاجئين الفلاحين الذين لا يحدوهم اي امل بالعودة الى ديارهم، ولا يملكون سوى بطاقة الإعاشة والرقم الذي اعطتهم اياه وكالة ما. وقد تكون باريس عاصمة مشهورة بمنفييها الكوسموبوليتانيين، غير انها ايضاً مدينة قضى فيها الكثير من الرجال والنساء المغمورين سنوات من الوحدة البائسة: فيتناميون، وجزائريون، وكمبوديون، ولبنانيون، وسنغاليون، وبيروفيون. عليك ان تفكر ايضاً بالقاهرة، وبيروت، ومدغشقر، وبانكوك، ومكسيكوسيتي. وكلما بعدت بك المسافة عن العالم الاطلسي، كلما اتسع ذلك القفر المهجور الرهيب: الاعداد الضخمة التي تبعث على اليأس، والبؤس المضاعف الذي يرزح تحته اولئك البشر "بلا وثائق" ممن ضاعوا على حين غرة، دونما تاريخ تمكن حكايته. ولكي تتأمل في أمر المسلمين المنفيين من الهند، او الهايتيين في اميركا، او البكينيين في اوقيانيا، او الفلسطينيين في ارجاء العالم العربي لا بد لك من ان تترك الملجأ المتواضع الذي توفره الذاتية وتفزع بدلاً من ذلك الى تجريدات السياسة واسعة النطاق. مفاوضات، وحروب تحرر وطني، وشعوب أُلقيت خارج اوطانها ودفعت، او نقلت، او سيقت الى اراضٍ مسدودة المسالك في مناطق اخرى: ما هي حصيلة مثل هذه التجارب؟ أليس من الواضح ويكاد ان يكون من المتعمد ان ليس ثمة سبيل الى اصلاحها او معالجتها؟ ونأتي الى القومية واقترانها الصميمي بالمنفى. فالقومية هي تأكيد على الانتماء الى مكان، وشعب، وتراث. وهي تؤكد على الوطن الذي خلقته جماعة تتقاسم اللغة، والثقافة، والعادات" وهي، بفعلها هذا، انما تدرأ النفي، وتقاتل للحيلولة دون ما يجره من خراب. والحق، ان التفاعل بين القومية والمنفى هو اشبه بديالكتيك العبد والسيد عند هيغل، حيث يعمل كل من هذين الضدين على إملاء الآخر وتشكيله. فكل القوميات في مراحلها الاولى تتطور انطلاقاً من حالة الغربة. والكفاحات التي خيضت من اجل نيل اميركا استقلالها، ومن اجل توحيد ألمانيا او ايطاليا، ومن اجل تحرير الجزائر هي كفاحات تلك الجماعات القومية التي أُبعدت - أو نفيت - عما يعتبر طريقتها الملائمة في الحياة. وبذا فإن القومية الظافرة، او المتحققة تبرر، على نحو استعادي ومستقبلي في آنٍ معاً، ذلك التاريخ الذي يخاط معاً بصورة انتقائية في ضرب من الشكل السردي: هكذا يكون للقوميات جميعاً آباؤها المؤسسون، ونصوصها الاساسية شبه الدينية، وبلاغتها الانتمائية، ومعالمها التاريخية والجغرافية، وأعداؤها وأبطالها الرسميون. ... فمنطقة عدم الانتماء المحفوفة بالمخاطر تقع بعد الحد الفاصل بين"نا" وبين "الخارجيين" مباشرة: وهي المنطقة التي كان يُطرد اليها البشر في زمنٍ بدائي، والمنطقة التي تتسكع فيها في الحقبة الحديثة تجمعات ضخمة من البشر لاجئين ومهجّرين. والقوميات امر يتعلق بالجماعات، اما المنفى فهو عزلة تُعاش خارج الجماعة باحساس بالغ الحدة: حيث يشعر بضروب الحرمان لعدم وجود المرء مع الآخرين في الموطن المشترك. فكيف للمرء، اذاً، ان يتجاوز عزلة المنفى دون ان ينزلق الى لغة التفاخر القومي، والعواطف الجمعية، وأهواء الجماعة، تلك اللغة الجامعة والراعدة؟ وما الجدير بانقاذه والتمسك به بين افراطات المنفى من جهة اولى، والتأكيدات الشرسة التي تطلقها القومية من جهة اخرى؟ هل للقومية والمنفى أية صفات ضمنية وجوهرية؟ أهما مجرد تنويهين متصارعين من تنويعات البارانويا؟ هذه اسئلة تتعذر الإجابة عنها اجابة وافية اذ يفترض كل منها ان من الممكن مناقشة المنفى والقومية على نحو محايد ومنفصل، دون ان يحيل أحدهما الى الآخر. والحال، ان ذلك من غير الممكن. فهذان المصطلحان كلاهما يشتملان على كل شيء من أشد العواطف الجمعية جميعة الى أشد الانفعالات الخصوصية خصوصية، بحيث لا يكاد ان يكون ثمة لغة تفي بكليهما. غير ان من المؤكد ان ما من شيء يتعلق بمطامح القومية العامة والشاملة يمس لب ورطة المنفى. ذلك ان المنفى، بخلاف القومية، هو في جوهره حالة متقطعة من حالات الكينونة. فالمنفيون مجتثون من جذورهم، ومن أرضهم، ومن ماضيهم. وهم عادة بلا جيوش أو دول، مع أنهم غالباً ما يبحثون عنها. ولذا يشعر المنفيون بتلك الحاجة الملحة لاعادة تشكيل حيواتهم المحطمة، وذلك عادة عن طريق اختيارهم ان ينظروا الى انفسهم على انهم جزء من ايديولوجيا ظافرة او شعب متجدد. والشيء الحاسم هو ان حالة النفي الخالية من هذه الايديولوجيا الظافرة - المصممة للم شتات تاريخ المنفى المحطم في كل جديد - هي حالة لا يمكن احتمالها في النهاية، وهي في النهاية حالة مستحيلة في عالم اليوم. انظروا الى مصير اليهود، والفلسطينيين، والأرمن. نوبار صديق أرمني متوحد. اضطر ذووه الى مغادرة تركيا في العام 1915، بعد ان تعرّضت عائلتاهما للمذابح: حيث قُطع رأس جده لأمه. مضى والد نوبار ووالدته الى حلب، ومنها الى القاهرة. وفي اواسط الستينات، غدت الحياة عسيرة في مصر على غير المصريين، فسافر والداه، مع اطفالهما الاربعة، الى بيروت بمساعدة منظمة دولية للإغاثة. وفي بيروت، عاشوا في نزل لفترة قصيرة ثم تكدسوا في غرفتين من منزل صغير خارج المدينة. كان المال يعوزهم في لبنان وانتظروا: بعد ثمانية اشهر، تمكنت وكالة الاغاثة من نقلهم بالطائرة الى غلاسكو. ومن ثم الى جاندر. وبعدها الى نيويورك. ومن نيويورك ركبوا حافلة من حافلات غري هاوند الى سياتل: كانت سياتل هي المدينة التي وقع عليها اختيار الوكالة لاقامتهم في اميركا. وحين سألت نوبار: "سياتل"؟ ابتسم مستسلماً، كأنه يقول: سياتل أفضل من ارمينيا - التي لم يعرفها ابداً - أو تركيا، حيث ذبح الكثيرون، أو لبنان، حيث كان لا بد له ولأسرته من المخاطرة بحياتهم. فالمنفى أفضل في بعض الاحيان من البقاء او عدم الخروج: إنما في بعض الاحيان وحسب. رلأن ما من شيء في المنفى آمن أو مضمون، فإن المنفى هو حالة من الغيرة. فما تحققه هو بالضبط ما لا تتمنى ان تتشاطره مع احد، وبرسمك الخطوط من حولك ومن حول ابناء بلدك إنما تبرز أسوأ الجوانب في حالة النفي: ذلك الاحساس المفرط بتضامن الجماعة، وذلك العداء المشبوب تجاه من هم خارجها، بمن فيهم اولئك الواقعون في ذات الورطة مثلك. فأي صراع يفوق في عناده الصراع بين اليهود الصهاينة والفلسطينيين العرب؟ فالفلسطينيون يشعرون انهم قد تحولوا الى منفيين على ايدي اليهود، ذلك الشعب الذي يُضرب به المثل في النفي، غير ان الفلسطينيين يعلمون ايضاً ان احساسهم بالهوية الوطنية قد ترعرع في وسط المنفى، حيث كل من لا تربطهم به صلة الدم هو عدو، وحيث كل متعاطف هو عميل لهذه القوة المناوئة او تلك، وحيث ادنى انحراف عن خط الجماعة المقبول هو فعل من أبشع افعال الخيانة والخروج. ولعل هذا ان يكون اغرب مصير بين مصائر المنفى: ان تكون منفياً من قبل منفيين، ان تتجدد عملية الاقتلاع فعلاً على ايدي منفيين. لم يبق فلسطيني الا وتساءل في صيف عام 1982 اي دافع خفي دفع اسرائيل، التي سبق لها ان اقتلعت الفلسطينيين في عام 1948، لأن تواصل طردهم من بيوت ومخيمات اللجوء في لبنان. وكأن التجربة الجمعية اليهودية التي اعيد بناؤها، على النحو الذي تمثله اسرائيل والصهيونية الحديثة، لا تطيق ان تتواجد بجانبها قصة اخرى من قصص الاستلاب والضياع، وهذه عدم اطاقة لطالما عززها العداء الاسرائيلي لوطنية الفلسطينيين، الذين عانوا اشد المعاناة طوال ستة واربعين عاماً وهم يلمون في المنفى شتات هوية وطنية. اننا نجدد هذه الحاجة الى لمِّ شتات الهوية انطلاقاً من انكسارات المنفى وانقطاعاته في القصائد الباكرة لدى محمود درويش، الذي يرقى عمله الكبير لأن يكون ضرباً من الجهد الملحمي الرامي الى تحويل اغاني الضياع الى دراما العودة المؤجلة حتى اشعار آخر. ... ولعل حكاية "إيمي فوستر" لجوزيف كونراد ان تكون أقصى تمثيل للنفي كتب الى الآن. فكونراد كان ينظر الى نفسه كمنفي من بولندا، حيث تحمل اعماله كلها تقريباً فضلاً عن حياته علامة لا مجال للخطأ فيها هي علامة هاجس المهاجر المرهف الذي يهجس بمصيره ومحاولاته اليائسة لاقامة صلة مرضية مع الاوساط الجديدة. و"إيمي فوستر" تقتصر بمعنى ما على مشكلات المنفى، ولعلها قد اقتصرت على ذلك الى درجة لم تتح لها ان تكون واحدة من بين قصص كونراد المشهورة. اليكم، على سبيل المثال، هذا الوصف لآلام شخصيتها المركزية، يانكو غورال، ذلك الفلاح الأوروبي الشرقي الذي تغرق سفينته، في طريقها الى اميركا، فتقذفه الامواج الى الساحل البريطاني: "إنه لمن العسير حقاً على المرء ان يجد نفسه ضائعاً وغريباً في ركن مجهول من اركان الارض، بلا حول ولا قوة، ومن اصل غامض، دون ان يجد من يفهمه. غير ان احداً من بين المغامرين الذين تحطمت سفنهم وقذفت بهم الامواج في جميع أرجاء العالم النائية، لم يكتب له ان يعاني، كما يبدو لي، ذلك المصير المأساوي الذي عاناه الرجل الذي احكي عنه، ذلك المغامر البريء الذي لفظته الامواج". ... ويقضي المنفيّ معظم حياته في التعويض عن خسارة مربكة بخلق عالم جديد يبسط سلطانه عليه. ولذا ليس من المدهش ان نجد بين المنفيين كثيراً من الروائيين، ولاعبي الشطرنج، والناشطين السياسيين، والمفكرين. فهذه المهن جميعاً لا تتطلب سوى حد ادنى من التوظيف في الأشياء إذ تضع الحركة والمهارة في المقام الأول. غير ان من المنطقي القول ان عالم المنفي الجديد هو عالم غير طبيعي تشبه اللاواقعية التي يتسم بها عالم القص والتخييل. ولقد شدد جورج لوكاش، في نظرية الرواية، على ان الرواية، ذلك الشكل الأدبي الذي يُخلق من لا واقعية الطموح والاستيهام، هي الشكل الخاص ب"التشرد المتعالي". ففي حين تصدر الملاحم الكلاسيكية، كما كتب لوكاش، عن ثقافات مستقرة تكون فيها القيم جلية، والهويات راسخة، والحياة ثابتة، فإن الرواية الأوروبية تقوم على اساس تجربة معاكسة تماماً، هي تجربة مجتمع متغير يسعى فيه بطل جوّاب ومحروم من ابناء الطبقة الوسطى، او بطلة، الى بناء عالم جديد يشبه بعض الشيء ذلك الذي خلّفه وراءه، او خلّفته وراءها، الى الأبد. وفي حين لا نجد في الملحمة اي عالم آخر، وإنما إبرام هذا العالم فحسب - حيث يعود اوديسيوس الى ايثاكا بعد سنين من التجوال، وحيث يموت اخيل لأنه لا يستطيع الفرار من قدره المحتوم - فإن الرواية تقوم لأن عوالم اخرى يمكن ان تقوم، وتشكّل بدائل بالنسبة للمضاربين، والجوّابين، والمنفيين البرجوازيين. ومهما حقق المنفيون من نجاحات، فإنهم يظلون على الدوام اولئك الشذّاذ الذين يشعرون باختلافهم حتى وهم يستثمرونه في كثير من الأحيان على انه نوع من اليتم. وكل من هو شريد حقاً إنما يعتبر تلك العادة المتمثلة برؤية الغرابة والجفوة في كل ما هو حديث نوعاً من التصنع... والمنفي، إذ يتشبث باختلافه مثل سلاح سيستخدم بعزيمة لا تلين، إنما يلح بغيرة على حقه او حقها في رفض الانتماء. وعادة ما يتحول هذا الى ضرب من العناد الذي يصعب تجاهله. فالتصلب، والغلوّ، والإسراف: تلك هي الأساليب المميزة لكونك منفياً، والطرائق التي تتبعها لإجبار العالم على تقبّل رؤيتك، التي تجعلها ابعد عن القبول لأنك لا تريد في الحقيقة ان تكون مقبولة. فهي رؤيتك في النهاية. وبذا فإن الهدوء والسكينة هما آخر الأشياء التي تقترن بأعمال المنفيين. فالفنانون في المنفى من ابعد الناس عن اللطف بلا جدال، وعادة ما يتسلل عنادهم حتى الى أرفع اعمالهم. فرؤية دانتي في الكوميديا الإلهية هي رؤية هائلة القوة من حيث كونيتها وتفاصيلها، غير ان السلام والغبطة اللذين يتحققان في الفردوس لا يزالان يحملان، هما نفساهما، آثاراً من حقد وقسوة الحساب في الجحيم. ومن غير منفي مثل دانتي، المطرود من فلورنسا، يمكن ان يجعل الأبدية مكاناً لتصفية الحسابات القديمة؟ لقد اختار جيمس جويس ان يعيش في المنفى: كيما يعزز موهبته الفنية. ... بيد ان نجاح جويس كشخص منفيّ يؤكد على اسئلة تمضي الى لبّ الأمور: هل يبلغ المنفى من الشدة والخصوصية ما يجعل كل استخدام له كأداة او وسيلة ضرباً من التسطيح في جوهره؟ كيف أمكن لأدب المنفى ان يتبوأ مكانته كموقع من مواقع التجربة الإنسانية الى جانب ادب المغامرات، أو التربية، او الاكتشاف؟ اهذا هو ذات المنفى الذي يقتل يانكو غورال بالمعنى الحرفيّ ويسفر عن تلك العلاقة الباهظة، والمذلّة للإنسان في الغالب، بين منفى القرن العشرين وقوميته؟ ام انه ضرب حميد بعض الشيء وأقل خطورة من ضروب المنفى؟ يمكن ان نردّ قسطاً وافراً من الاهتمام المعاصر بالمنفى الى ذلك التصور الباهت بعض الشيء والذي يرى ان بمقدور غير المنفيين ان يشاركوا المنفيين منافع المنفى بوصفه موتيفاً من موتيفات الافتداء. والحال، كما ينبغي ان نقرّ، ان ثمة شيئاً من المعقولية والحقيقة في هذه الفكرة. فعلى غرار البحاثة المتجولين في القرون الوسطى او العبيد اليونان المتعلمين في الامبراطورية الرومانية، يُسهم المنفيون - خاصة الاستثنائيين من بينهم - في تنشيط بيئاتهم وإضفاء الحيوية عليها. و"نحن" عادة ما نركز على هذا الجانب المستنير من جوانب وجود "هم" بيننا، وليس على بؤسهم او مطالبهم. غير اننا إذ ننظر إليهم من المنظور السياسي المحزن المستمد من حالات الاقتلاع الضخمة الحديثة، نجد ان المنفيين الأفراد يدفعوننا الى تبين ذلك المصير المأسوي الذي ينطوي عليه التشرد في عالم هو بالضرورة عالم بلا قلب. منذ جيل مضى، طرحت سيمون فيل معضلة المنفى بتلك الإحاطة التي لم يسبق لأحد ان توصل إليها. قالت: "لعل حاجة المرء الى الجذور ان تكون اهم حاجات النفس البشرية وأقلها تبيّناً واعترافاً". ومن ثم فقد رأت فيل ايضاً ان معظم العلاجات التي تُبذل لمداواة الاقتلاع في هذه الحقبة من الحروب العالمية، وضروب الترحيل، وصنوف الإبادة الجماعية تكاد ان تكون بمثل خطورة ما تبتغي ان تعالجه. ومن بين هذه العلاجات، فإن الدولة - او الدولتية، بصورة ادق - هي واحد من اشدها مكراً، إذ تنزع عبادة الدولة الى استئصال جميع الروابط الإنسانية الأخرى والحلول محلّها. ... ويعلم المنفي أن الأوطان، في عالمٍ علماني وعارض، موقتة وعابرة على الدوام. بل ان الحدود والحواجز، التي تسيّجنا بأمان المنطقة المألوفة، يمكن أن تغدو سجوناً ومعازل، وغالباً ما يُدافع عنها وتُحمى بلا مبرر أو ضرورة. أما المنفيون فيعبرون الحدود، ويحطّمون حواجز الفكر والتجربة. لقد كتب هوغو هذا المقطع الذي يظل محتفظاً بجماله عن سانت فيكتور، وهو راهب سكسوني من القرن الثاني عشر: "إنه لمصدر عظيم، إذاً، من مصادر الفضيلة لدى العقل المتمرس أن يتعلم في البداية، شيئاً فشيئاً، تغيير نظرته الى الأشياء الظاهرية والعابرة، كيما يتمكن بعدئذٍ من تركها ورائه الى الأبد. فمن يجد وطنه عزيزاً وأثيراً لا يزال غرّاً طرياً" أما الذي يجد موطنه في كل أرض فقد بلغ القوة" غير ان المرء لا يبلغ الكمال قبل أن يعتبر العالم أجمع أرضاً غريبة. فالنفس الغضة تركز حبها على بقعة واحدةٍ من العالم" والرجل القوي يشمل بحبّه كل الأماكن" أما الرجل الكامل فهو الذي يطفئ جذوة الحبّ لديه". أما ايريك أورباخ، عالم الأدب العظيم في القرن العشرين، والذي قضى سنوات الحرب منفياً في تركيا، فقد أورد هذا المقطع كمثال لكلّ من يرغب في تخطّي الحدود القومية والاقليمية. فباعتناق مثل هذا الموقف وحسب يمكن للمؤرخ أن يبدأ بفهم التجربة الإنسانية وسجلاتها المكتوبة بما فيها من تنوّعٍ وخصوصية" وإلاّ لظل أشد التزاماً بضروب الإقصاء وردود الفعل المتحيّزة منه بالحرية التي ترتبط بالمعرفة. ولكن فلنلاحظ ان هوغو قد أوضح مرتين أن "القوي" و"الكامل" يحقق استقلاله وانفصاله عن طريق العمل من خلال الصلات وضروب الارتباط، وليس عن طريق رفضها. فالنفي يدلُّ ضمنّاً على وجود حب المرء لوطنه الأصلي وارتباطه به" وما يصح على كل منفيّ ليس فقدان الوطن وحبّه، بل تأصّل هذا الفقدان في وجودهما كليهما بالذات. فلننظر الى التجارب كما لو أنها على وشك الزوال. فما الذي يرسيها في الواقع؟ ما الذي ستحفظه وتحميه منها؟ ما الذي ستتركه؟ وحدهم أولئك الذين حققوا الاستقلال والانفصال، أولئك الذين يرون أن وطنهم "عزيز وأثير" إلا أن ظروفهم تحول تماماً دون استعادة تلك العذوبة والإثرة، وحدهم من تمكن لهم الإجابة عن هذه الأسئلة. فمثل هؤلاء الأشخاص يجدون أيضاً أنّ من المستحيل نيل الرضا من تلك البدائل التي تزيّنها الأوهام أو العقائد الجامدة. قد يبدو هذا أشبه بوصفةٍ لعلاج نظرةٍ كئيبةٍ لا سبيل الى التخفيف منها ومعها ضربٌ من الرفض المتجهّم على الدوام لكل حماسة أو بهجة روحية. غير ان الأمر ليس كذلك بالضرورة. فمع انه قد يبدو غريباً أن نتكلم على لذائذ المنفى، إلا أن هنالك بعض الأشياء الإيجابية التي يمكن قولها بشأن قلّة قليلة من ظروفه. فرؤية "العالم أجمع أرضاً غريبة" تمكّن من تكوين رؤية أصيلة. وفي حين لا يعرف معظم الناس سوى ثقافة واحدة، وخلفية واحدة، ووطن واحد" فإن المنفيين يعرفون اثنين على الأقل، وتعددية الرؤية هذه تولّد وعياً بالأبعاد المتزامنة، وعياً هو وعي طباقي، كما يقال في لغة الموسيقى. فعادات الحياة، أو التعبير، أو النشاط في البيئة الجديدة لا بد أن تجرى، بالنسبة للمنفي، بعكس ما يتذكره عن هذه الأشياء في البيئة الأخرى. وهكذا تكون البيئتان كلتاهما، الجديدة والقديمة، حيّتان، وقائمتان، تقعان معاً على نحوٍ طباقي. والحال، أن ثمة لذّة فريدة في هذا الضرب من الإدراك، خاصةً إذا واكبه لدى المنفيّ وعيٌ بالتجاوزات الطباقية الأخرى التي تحدّ من الأحكام المتزمّتة وتسمو بالتعاطف والتفهّم. كما أن هنالك أيضاً ذلك الإحساس المميز بالإنجاز والتحقق الناجم عن تصرّف المرء كما لو أنّه في وطنه حيثما صدف له أن يكون. بيد أن ذلك يظلّ منطوياً على خطورة: فعادة التظاهر مرهقة ومتلفة للأعصاب على السواء. والمنفى ليس أبداً حالة رضا، أو دعة، أو أمان. المنفى، كما يقول والاس ستيفنس، "عقل شتاء" تكون فيه أنفاس الصيف والخريف قريبة بقدر تباشير الربيع لكنّها لا تُطال. ولعل هذه ان تكون طريقة أخرى للقول ان حياة المنفى تسير بحسب روزنامة مختلفة، روزنامة أقلّ فصولاً واستقراراً بالقياس الى الحياة في الوطن. فالمنفى هو حياة تُعاش خارج النظام المعتاد. حياة مترحّلة، طباقية، بلا مركز" وما إن يألفها الإنسان ويعتاد عليها حتى تتفجّر قواها المُزعوعة من جديد. * جزء من كتاب "تأملات في المنفى... ومقالات اخرى" يصدر قريباً عن دار الآداب - بيروت ويضم دراسات للكاتب الراحل ترجمها عن الإنكليزية ثائر ديب.