كانت بلفاست، عاصمة ايرلندا الشمالية، رديفة للموت منذ مطلع القرن. فيها بُنيت "التايتانيك" وانطلقت لتواجه مصيرها الأسود العام 1912، وبعد سبع سنوات من الكارثة اندلعت الحرب الأهلية في شوارع المدينة فاقترنت في الذاكرة بصور الدم والخراب. لكنها بدأت تستعد للخروج من حلقة العنف المفرغة، فهاهم معظم قادة الأحزاب الكاثوليكية والبروتستانتية - ومعهم رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير ونظيره الايرلندي بيرتي اهارن - يتوصلون بعد سنتين من المفاوضات المضنية الى اتفاق لوقف النزاع. هكذا أخذت بلفاست تعد العدة للسير على خطى ساراييفو وجوهانسبورغ وطي صفحة الماضي، مع ان الفرقاء لم يصافحوا بعد بعضهم بعضاً على طريقة الرئيس ياسر عرفات ورئيس الوزراء الاسرائيلي السابق اسحق رابين. وانعقدت الآمال على نهاية وشيكة لأحد أشرس الصراعات الدامية التي تأججت في القرن الحالي، على رغم ضيق رقعته نسبيياً. فالنزاع الايرلندي الذي اقترب عدد ضحاياه في الثلاثين عاماً الماضية من 3 آلاف قتيل، وتورطت فيه لندن ودبلن - وواشنطن الى حد ما - لم يكن أقل ضراوة وتعقيداً من النزاعات الكبيرة التي شغلت النظام العالمي الجديد. بعد مخاض عسير دفع بلير وآهارن والمفاوضون الى الانهماك في المحادثات طوال20 ساعة متواصلة، جاء الحل على شكل خارطة توازنات دقيقة أعطت كل فريق بعض مطالبه لقاء اقراره بالتخلي عن بعضها الآخر. ولعل قوة الحل تكمن في اتاحته الفرصة أمام كل كل طرف من المتخاصمين للقول انه حقق انتصاراً ما. فرئيس أكبر الأحزاب البروتستانتية "اتحاديو الستر" ديفيد تريمبل بلغ الهدف الذي يسعى اليه منذ 25 عاماً على الأقل، حين حصل على وعد من دبلن بتعديل المادتين الثانية والثالثة من دستورها، وتنصان على ان التراب الايرلندي يشمل الجزيرة كلها بما فيها شمال ايرلندا. وعلى رغم قيمته المعنوية، فالتعديل الذي سيتم بعد موافقة الشعب الايرلندي عليه في استفتاء عام، لم يفاجئ أحداً شأنه شأن تعهد بلير بالتخلي عن ايرلندا الشمالية اذا أراد أبناؤها الانفصال عن المملكة البريطانية. وهذا التنازل كان دائماً من الأهداف الأساسية التي رفعها الزعيمان الوطنيان جون هيوم، رئيس أكبر الأحزاب الكاثوليكية "العمال الاشتراكي الديموقراطي"، وجيري آدامز رئيس "شين فين" الرديف السياسي لمنظمة "الجيش الجمهوري الايرلندي". لكن الاتفاق لم ينص على وحدة كامل التراب الايرلندي، التي تأتي في طليعة أهداف الأحزاب الوطنية الكاثوليكية، فذلك كان سينسف عملية السلام مع البروتستانت الذين يصرون على ان "بلادهم" تنتمي الى المملكة المتحدة البريطانية. حل نهائي؟ وتمخضت لعبة عض الأصابع عن حل توفيقي مزدوج يحفظ لايرلندا الشمالية استقلاليتها، بما يرضي الاتحاديين البروتستانت، من غير ان يعطيهم الحق في الانفراد في ادارته أو يفصله تماماً عن جمهورية ايرلندا. اذ ستقدم "جمعية ايرلندا الشمالية" المؤلفة من 108 أعضاء منتخبين، بمهمات التشريع واختيار 12 وزيراً من مختلف الأحزاب لادارة المقاطعة على أساس قرارات تتخذ بموجب االغالبية في المجموعتين البروتستانتية والكاثوليكية، مما يحرم الاتحاديين الذين يمثلون ثلثي السكان من التحكم بالجمعية. وسيُشكل "مجلس الشمال والجنوب الوزاري" للتنسيق بين شطري الجزيرة: "البريطاني" والايرلندي. ومع ان المجلس لا يتمتع بصلاحيات تخوله الاشراف على "جمعية ايرلندا الشمالية"، كما يريد الوطنيون، فهي لا تستطيع تجاهله أو حله. اما بقية بنود الاتفاق التي تتعلق باقامة مجلس لممثلي برلمانات دبلن ولندن وكارديف ويلز وادنبره اسكوتلندا، وتحقيق التكافؤ في مجالات اللغة وحقوق الانسان بين أبناء الطائفتين، فيأتي معظمها تلبية لمطالب الجمهوريين الكاثوليك بالمساواة مع جيرانهم. واستطاع جيري آدامز انتزاع الموافقة على قبول ممثلي "شين فين" أعضاء في "الجمعية" من دون ان يتخلى أعضاء الجيش الجمهوري عن أسلحتهم، نزولاً عند رغبة الأحزاب البروتستانتية. لكن هل سيحظى الاتفاق برضى أبناء ايرلندا الشمالية الذين سيصوتون عليه الشهر المقبل؟ ولاتضمن دقة الاتفاق له الحصول على التأييد الشعبي المطلوب، خصوصاً أن لكل من الزعماء المتفاوضين زملاء متشددين يحاولون عرقلة عملية السلام. وبراعة مهندسي الحل لا تجعله في منأى عن الفشل التام. فالاقليم شهد اتفاقات عدة بين دبلن ولندن وممثلي الطائفتين، تحولت كلها مصائد للغبار على رفوف الوثائق التاريخية في المتاحف. وآخر هذه الحلول الموؤودة كانت "اتفاق سانينغديل" الذي سهرت لندن ودبلن على انجاحه العام 1973، ولم يُعمر سوى خمسة أشهر. والأدهى ان هذا الاتفاق سقط وأقيل رئيس حزب "اتحاديو الستر" الذي صار بموجبه رئيساً لوزراء الاقليم، بفعل معارضة انطلقت من صفوف الحزب بقيادة مجموعة من الشباب في مقدمهم ديفيد تريمبل، المرشح الرئيسي لمنصب الوزير الأول الجديد. صحيح ان الاتفاق السابق لم يأت ثمرة مفاوضات موسعة.، ولم تشارك في اعداده "شين فين" أو أي من "الأحزاب" التي تمثل واجهات سياسية للمنظمات البروتستانتية المسلحة. لكن الوصول الى صيغة سياسية توفيقية تُرضي الغالبية، لا يكفي في حد ذاته مقدمة لاستتباب الأمن في ايرلندا الشمالية، ذلك ان للعنف جذوراً اقتصادية عميقة. ويدل اطلاق بعض معارضي الاتفاق من البروتستانت على ديفيد تريمبل اسم "دي كليرك ألستر" الى الفجوة الواسعة بين الكاثوليك الذين يشبهون مواطني جنوب افريقيا السود أيام زمان، والبروتستانت الذين يذكرون بأبنائها البيض. والمقارنة مع جنوب افريقيا في محلها. فنهاية نظام التمييز العنصري قبل 4 سنوات وحصول المواطنين السود على حقوقهم السياسية المشروعة لم يعد يعني الكثير بالنسبة الى أولئك السود الذين لا يزالون بلا مأوى أو عمل وتضطرهم الحاجة الى الانسياق في تيار عنف من نوع آخر: الجريمة. وهناك من يخشى على الرئيس مانديلا من خيبة أمل الغالبية السوداء بنظام "الاتحاد الوطني الافريقي" الذي لاتزال بعض وعوده احلاماً تنتظر التنفيذ. قطيعة تاريخية والفوارق الاقتصادية في المقاطعة كرست القطيعة بين السكان الذين حولتهم السياسة مع الأيام الى شعبين مستقلين تقريباً، فايرلندا الشمالية تكاد تكون على المستوى الانساني بلدين. والتاريخ لا يشجع الطرفين على التواصل، خصوصاً أن البروتستانت، في حقيقة الأمر، انكليز أو جاء بهم الجيش الانكليزي المحتل من اسكوتلندا كي يقوي مركز لندن في مواجهة الغالبية الايرلندية الكاثوليكية. والوافدون الذين تعاظمت هجرتهم بدءاً من القرن السابع عشر، دأبوا على الاستقرار في ست مقاطعات تشكل حالياً "ايرلندا الشمالية"، وهذه تعادل من حيث المساحة سدس الجزيرة الايرلندية. ومع الزمن صار المهاجرون يؤلفون اكثرية ساحقة تعادل ثلثي سكان الاقليم، ويتمركزون في المناطق الريفية الشمالية والشرقية فضلاً عن معظم المدن. والأهم ان أبناء الطائفتين يعيشون عموماً في احياء مستقلة يكاد كل منها يكون "نقياً" تماماً من أفراد الطائفة الأخرى. وتكرس هذا "الاستقلال" حتى تحول مع الأيام الى شيء يشبه القاعدة الثابتة. ففي لندن ديري، ثاني أكبر مدن الاقليم، التي يمثل الكاثوليك 75 في المئة من سكانها، يعيش البروتستانت في مناطق معزولة. اما في بلفاست، حيث تقدر نسبة السكان الكاثوليك بحواليپ30 في المئة، فالوضع أكثر قسوة، والقطيعة أشد وضوحاً. وعلى سبيل المثال، يتوزع الجزء الغربي الذي يضم معظم المعامل والمؤسسات الصناعية الى منطقتين تمتدان على طول طريقين رئيسيين اسم الأول "فولز" وتجاوره بيوت كلها كاثوليكية مئة في المئة، فيما يخترق الطريق الثاني "شانكيل" أحياء بروتستانتية بالكامل. وكان الطريقان الشهيران دائماً مسرحين لعمليات ارهابية شنها فريق ضد الآخر، مما أدى الى اقامة سور فاصل عند نقاط التماس الحساسة أُطلق عليه "جدار السلام". واللافت ان بعض اجزائه تحول معارض في الهواء الطلق للرسوم السياسية ويافطات لشعارات هذا الحزب أو ذاك. والطريف انه يخضع لعملية ترميم واسعة بدأت قبل نهاية المفاوضات بأيام، مما يوحي ان الثقة بين الطائفتين لا تزال مفقودة. اذن كيف تسكت البنادق، وكل من الطرفين يعتبر الآخر غريباً ينبغي الاحتراث منه؟ في جعبة المتفائلين أسباب تدعو الى الأمل، في طليعتها وقوف مزيد من أبناء الطائفتين على منصة واحدة لانجاز مهمات اجتماعية أو سياسية. والدور "الثانوي" الذي تؤديه هذه التجمعات المشتركة مثل الحزب الليبيرالي وتجمع نساء الاقليم، أو ضآلة عدد أفرادها، لا يدفعان المتفائلين الى الشعور باليأس. والتفاوت الاقتصادي سيجد علاجه الناجع، كما يعتقد المتفائلون، بفضل مساعدات اميركية وأوروبية. فمن الأرجح ان استتباب الأمن سيفتح الباب امام استثمارات يأتي معظمها من الأميركيين من أصل ايرلندي الذين يمثلون مجموعة كبيرة نافذة في الولاياتالمتحدة. ويضاف الى عناصر السيناريو المتفائل، تحمس أشخاص من قماشة آهارن وبلير ووزيرة ايرلندا الشمالية مو مولام، وشجاعة قادة سياسيين يحاولون ترسيخ السلام الذي بدأ الاعداد له في لندن ودبلن قبل نحو خمس سنوات. لكن ايرلندا الشمالية أشبه بحقل ألغام قد ينفجر أحدها في أي لحظة، وهناك استفتاءات ستقرر نتائجها حظ الاتفاق من نجاح لا يزال برسم المستقبل.