على عكس سكان انكلترا واقليم الويلز، مرشحين ومقترعين في آن، المنشغلين بهموم الخدمات الاجتماعية ومعدلات ضريبة الدخل والسياسة الاقتصادية والمالية واليورو، لا هم لدى سكان ايرلندا الشمالية أليستر، عشية تنافس أكثر من تسعين مرشحاً من الطائفتين على 18 مقعداً في مجلس العموم البريطاني، غير هاجس الحرب والسلم. والأجندة الانتخابية في الاقليم الايرلندي تختلف عن الأجندة الانتخابية القومية، إذ أن محورها والعنصر الذي سيقرر مصير المرشحين لا يزال هو "اتفاقية الجمعة العظيمة" التي جاءت حصيلة جهود وساطة شاقة باشراف السناتور الأميركي السابق جورج ميتشل، والتي حددت إطار الحل السلمي بتصويت أغلبية سكان الاقليم عليها في استفتاء عام في 1998. هذه الاتفاقية لا تزال مثيرة للجدل، لا سيما وسط الجالية البروتستانتية التي تأبى أوساط سياسة وكنسية واسعة النفوذ فيها أن تكف عن رفضها، ممارسة التهديد لزعامة أكبر حزب بروتستانتي في الاقليم: "حزب أليستر الاتحادي". فتحت ضغط شرس من هذه الأوساط التي تقاوم فكرة الخروج من ثقافة الحرب والعداء، اضطر زعيم الحزب والوزير الأول في الاقليم المتفرع والمحكوم ذاتياً، ديفيد تريمبل، إلى تسليم رئاسة مجلس النواب المحلي استقالة خطية من زعامة الحزب وبالتالي من رئاسة الحكومة المحلية. والاستقالة ستصبح سارية المفعول اعتباراً من أول تموز يوليو المقبل، ما لم تبدأ منظمة الجيش الجمهوري الايرلندي الكاثوليكية عملية نزع الأسلحة. وكانت "اتفاقية الجمعة العظيمة" نصت على قيام ميليشيات الطائفتين البروتستانتية والكاثوليكية تسليم أسلحتها إلى لجنة دولية مستقلة، ضمن بنود أخرى عدة أهمها إصلاح جهاز قوى الأمن وانسحاب قوات الجيش البريطاني من الاقليم. ومعروف ان الجيش الجمهوري كان تعهد في إطار دعمه عملية السلام أن يضع قواته العسكرية "خارج نطاق الاستخدام الكامل"، وفتح لأعضاء اللجنة الدولية، مرتين على الأقل خلال عام واحد، مخازن أسلحته للتفتيش والتدقيق. ويقول حزب "شين فين" الجمهوري الكاثوليكي والذراع السياسي للمنظمة الممثل بوزيرين في حكومة تريمبل في بلفاست، إن تخلي الجمهوريين عن السلاح يجب أن يتم بشكل متواز مع تنفيذ بقية بنود اتفاقية الجمعة العظيمة. لكن تعاظم الضغوط على تريمبل من أعضاء المكتب التنفيذي ومجلس حزبه العام، دفعه إلى الإقدام على كتابة استقالته المبكرة كخطوة رآها البعض تكتيكية تهدف إلى تحييد منافسيه على زعامة حزب أليستر الاتحادي وتخفيف ضغوط المتشددين. ويواجه تريمبل في الحملة الانتخابية الراهنة ضغوطاً أخرى خارجية مصدرها "حزب أليستر الديموقراطي" المتطرف الرافض طبعاً لاتفاقية الجمعة العظيمة، والرافض أيضاً أي شكل من أشكال التعايش الأهلي، والذي يتزعمه القس ايان بايزلي. ويصل التنافس بين الحزبين البروتستانتيين إلى درجة حادة وحرجة في أوساط البروتستانت، لا سيما وأن بايزلي يرى الآن إمكانية متوافرة لفوز حزبه بمقاعد أكبر من الحزب المنافس، للمرة الأولى منذ ثلاثة عقود. ويقود القس البروتستانتي حملة شرسة ضد تريمبل والزعامات الملتفة حوله، مستخدماً في عظاته المتكررة خطاباً يستمده من "ثقافة التكفير والتخوين"، مديناً كل بروتستانتي يصافح أو يصالح كاثوليكيا. ومن آخر ابتكاراته "التكفيرية" تحريمه لضرب جديد من أنواع الرقص المحلي المعروف باسم Line Dancing الذي يشارك فيه الرجال والنساء، بذريعة أنه قد يؤدي إلى تلاقي جسد الرجل بجسد المرأة، "وهذا أمر محرم من الكنيسة، وجهنم هي مصير كل من يرتكب هذه الخطيئة". إلا أن الحقيقة أن هناك جانباً سياسياً لتحريم بايزلي، إذ أن عدد النوادي الاجتماعية تزايد مرات عدة في بلفاست ومدن ايرلندا الشمالية الأخرى منذ الاستفتاء على اتفاقية السلام، وأضحت ملتقيات لم تكن متوافرة سابقاً للاختلاط بين أبناء وبنات الطائفتين. لكن تريمبل يستطيع أن يتفاءل بعض الشيء في ضوء نتائج استطلاعات الرأي الأخيرة بين صفوف البروتستانت التي بدأت تعبر عن تغير ايجابي في تيارها المؤيد للجمعة العظيمة. فقد تبين في آخر هذه الاستطلاعات ان مؤيدي الاتفاقية بين البروتستانت يبلغ معدل 52 في المئة مقارنة ب 39 عام 1998. ويربط المحللون هذا التحول بشعور البروتستانت بمزايا سياسية التفرع Devolution وما تعود به من فوائد اقتصادية واجتماعية على الاقليم. فايرلندا الشمالية، إلى جانب الويلز واسكوتلندا، باتت مؤهلة للاستفادة من العون الأوروبي وفقاً لسياسة الأقاليم Regional Policy في الاتحاد الأوروبي، وجاذبة لرؤوس الأموال للاستثمار في مشاريع صناعية تتجه الى حيث تنخفض أكلاف الانتاج، فضلاً عن استفادتها من أموال خزانة الدولة المركزية في لندن، وفقاً لشروط سياسة التفرع. فالعامل الاقتصادي يلعب دوراً مهماً في تغيير المفاهيم ويساهم في دحر ثقافة الحرب والفصل الطائفي. وفي الوقت نفسه، أظهر الاستطلاع الأخير تراجعاً ملحوظاً في شعبية حزب بايزلي لم يشهد مثيلاً له منذ عامين، وارتفاعاً في تأييد الاحزاب السلمية. وليس من المستبعد أن يحصد الحزبان الكاثوليكيان الجمهوريان حزبا هيوم وآدامز للمرة الأولى نسبة لا بأس بها من أصوات البروتستانت في معظم دوائرهم. فهذان يخوضان الانتخابات للمرة الأولى في جميع الدوائر الانتخابية التسعين في الاقليم، بما في ذلك دائرة غرب تايرون البروتستانتية قلباً وقالباً، والتي يمثلها في البرلمان البريطاني النائب ويلي تومسون المناوئ لزعيم حزبه تريمبل، والمعارض الشرس لاتفاقية الجمعة العظيمة. نتائج انتخابات ايرلندا الشمالية ستقدم للرأي العام والعالم في آن، وللمرة الأولى منذ تنفيذ اتفاقية السلام، صورة ملموسة عن مدى التحول أو عدمه، في مجتمع سيطرت عليه ثقافة الحرب والحقد أكثر من أربعة قرون.