رياح السلام تلعب مجدداً في ساحة ايرلندا. لكن كي تتحول هذه الرياح الى قوة ديناميكية تعيد اتفاق "الجمعة العظيمة" للتسوية الى مساره، فهذا يبقى رهناً برد فعل الاتحاديين البروتستانت الذي رمى الجمهوريون الكاثوليك الكرة في ملعبهم. وقد جاء هذا مع اصدار منظمة الجيش الجمهوري الايرلندي IRA العسكرية، للمرة الاولى، بيانا علنيا حول قضية تسليم الأسلحة. فقد أعلنت المنظمة ان العنف لم يعد مجدياً لتحقيق أهدافها وقررت بالتالي وضع السلاح "خارج اطار الاستخدام"، كما حددت مدة تنتهي في حزيران يونيو 2000 تشرف خلالها هيئة مستقلة على تفريغ مخابئ أسلحتها فوق الأراضي الايرلندية. وكان قد سبق هذا الاعلان توصل رئيسي وزراء بريطانيا توني بلير وجمهورية ايرلندا بيرتي اهيرن في نهاية الاسبوع الماضي، الى تفاهم من اجل احياء العمل بالمؤسسات الدستورية المعلقة في اقليم ايرلندا الشمالية في 22 ايار مايو الجاري. وبالإضافة الى سلسلة اللقاءات المستمرة التي عقدها المسؤولون في البلدين منذ تعليق العمل بهذه المؤسسات في شباط فبراير الماضي والتي مهدت للتفاهم الأنغلو - ايرلندي، فإن لقاء جرى بسرية تامة أواخر نيسان ابريل الفائت بين زعيم حزب "شين فين" - الذراع السياسي لمنظمة الجيش الجمهوري - جيري آدامز وتوني بلير في مقر اقامته الريفي في تشيكر، وهو الذي حسم الأمر ووضع النقاط الرئيسية لمسار التحرك في المرحلة الراهنة. وتلا هذا اللقاء اجتماع سري آخر عقده بلير بعد ثلاثة ايام مع زعيم حزب "اليستر الاتحادي" البروتستانتي الموالي للعرش البريطاني ديفيد تريمبل، أطلع فيه بلير هذا الأخير على تفاصيل التفاهم المتفق عليه مع آدامز ودبلن، طالباً منه العمل لاقناع كوادر حزبه بالموافقة عليه للخروج من الطريق المسدود الذي وصلت اليه عملية السلام. فبعد استجابة الجمهوريين الكاثوليك للضغوط التي فرضها عليهم تعليق الادارة ومجلس النواب المحليين في بلفاست بموجب تشريع برلماني أصدرته حكومة العمال الجدد في شباط الماضي، لم يعد امام الاتحاديين أي خيار لرفض التسوية المطروحة في اقليم اليستر والعودة الى احياء المؤسسات الدستورية التي يتشاركون فيها مع الكاثوليك مناصفة. ويعقد حزب "اليستر الاتحادي" اجتماعاً حاسماً يوم الجمعة المقبل 20/5/2000 لمناقشة آخر التطورات حيث سيواجه تريمبل المتشددين في حزبه بموقف أفضل كثيراً من أي وقت سابق بخصوص تسليم الأسلحة. صحيح ان منظمة الجيش الجمهوري لم تعلن انها ستبدأ تسليم الاسلحة على الفور كما يطالب الاتحاديون، لكنها حددت في بيانها العلني مدة سنة من الآن. وهذا في حد ذاته موقف متقدم كثيراً عن المواقف السابقة. ويستطيع تريمبل الآن ان يقول لاعضاء المجلس السياسي في حزبه ان الجمهوريين خطوا هذه الخطوة جراء الضغط الذي مورس عليهم من قبل لندن، وهذا أقصى ما تستطيع ان تقوم به الحكومة البريطانية في هذه الظروف. فإذا أحسن الاتحاديون التعامل مع الكرة الموجودة في ملعبهم الآن، فمن الممكن القول ان السلام النهائي أضحى قاب قوسين أو أدنى. أما كيف تمكنت المنظمة الجمهورية المسلحة من التوصل الى الموقف الأخير، فإن لذلك تخريجاته الخاصة به والتي يقع معظمها تحت عنوان "انقاذ ماء الوجه". لقد كانت صدمة الجمهوريين كبيرة عندما قرر الوزير البريطاني لشؤون ايرلندا بيتر ماندلسون تعليق المؤسسات الدستورية في الاقليم ما لم يبدأوا تسليم الأسلحة، ولا سيما وأنهم كانوا يعتقدون ان ماندلسون لم يكن جاداً في استخدام تلك الورقة. ولكن بعد أكثر من شهرين من المداولات السرية عبر البحر الايرلندي وبين صفوف كوادر منظمة الجيش الجمهوري، وصل الجمهوريون الى صيغة "انقاذ ماء الوجه" الأخيرة بفتح ترسانة أسلحتهم أمام جهة غير بريطانية حددتها بالأمين العام السابق لحزب "المؤتمر الوطني الافريقي" في جنوب افريقيا سيريل راموفوسا، والرئيس الفنلندي السابق مارتي اهتساري، ورئيس لجنة نزع أسلحة الميليشيات الايرلندية الجنرال الكندي المتقاعد جون دي شاستيلين. وبالنسبة الى الحكومة البريطانية، فإن الاتفاق الأخير يقدم لبلير فرصة ذهبية للتعويض عن أول خسارة سياسية كبرى متعددة الجوانب يواجهها منذ انتصاره في انتخابات ايار 1997: فوز غريمه المفصول من حزب العمال النائب كين لفنغستون في انتخابات محافظ لندن، وتراجع حزب العمال في انتخابات المجالس المحلية وفقدانه اكثر من 500 عضو مجلس محلي في أنحاء بريطانيا لصالح حزب المحافظين المعارض ، وهزيمة مرشح العمال لانتخابات نيابية فرعية في مدينة رومسي، والتي جرت جميعها في يوم واحد. الآن امام حزبي "شين فين" و"اليستر الاتحادي" وزعيميهما آدامز وتريمبل مدة تزيد قليلاً عن السنة لانجاز مهمة السلام وتثبيت المؤسسات الدستورية والممارسة الديموقراطية وفقاً لاتفاق "الجمعة العظيمة". وكان سكان الاقليم صوتوا في استفتاء على اتفاق السلام قبل عامين بأغلبية تزيد على 85 في المئة، كما قاموا بانتخاب ممثلين لهم في البرلمان المحلي، وتلا ذلك تشكيل حكومة للادارة المحلية برئاسة تريمبل وزعت حقائبها بالمناصفة بين الطائفتين الكاثوليكية والبروتستانتية. وتجدر الإشارة الى ان الجمهوريين حصلوا بموجب الاتفاق الأخير على تعهد رئيس وزراء بريطانيا بأن يبدأ العمل على سحب القوات البريطانية من الاقليم، واعادة هيكلة جهاز قوى الأمن ليصبح اكثر تمثيلاً لسكان ايرلندا الشمالية من الطائفتين فور بدء عملية تسليم الأسلحة. لكن على رغم اجواء التفاؤل المنتشرة في اعقاب اعلان الاتفاق، حذّر البعض من حدوث خيبة أخرى لا سيما وان الصراع من اجل السلام في ايرلندا شهد تراجعات عدة العامين الأخيرين رغم اتفاق "الجمعة العظيمة". والخوف الآن هو من بعض خلايا الأقلية المتطرفة أو من المتضررين من صنع السلام كائناً ما كان الحزب الذي ينتمون اليه.