يوم غد الاثنين يبدأ العد التنازلي لصياغة اتفاق السلام لانهاء آخر اشكال الاقتتال الأهلي الطائفي في أوروبا الغربية بين الطائفتين البروتستانتية والكاثوليكية في ايرلندا الشمالية. والمدة المتاحة للتوصل الى اتفاق تنتهي يوم عيد الفصح في 13 نيسان ابريل المقبل، تمهيداً لطرحه في استفتاء عام في أواخر شهر أيار مارس المقبل. الرئيس الأميركي بيل كلينتون يدعم بقوة هذه الاستراتيجية، فهل يكتب لها النجاح هذه المرة؟ مصطفى كركوتي يحاول الاجابة: لا بديل هذه المرة أمام الصراع في ايرلندا الشمالية غير الموافقة على ما تتقدم به كل من الحكومتين البريطانية والايرلندية من أفكار واقتراحات لصياغة مشروع اتفاق السلام. فالاستراتيجية الراهنة ترتكز على رأي موحد بين دبلن ولندن تدعمه واشنطن وهو: من لا يلتحق بقطار السلام سيبقى خارج عملية السلام ويسقط من الحياة السياسية في اقليم اليستر ايرلندا الشمالية، لأن السلام آت لا ريب مع فرقاء الصراع أو من دونهم. هذه هي المرة الأولى التي يشعر بها فرقاء الصراع ثمانية أحزاب بروتستانتية وحزب "شين فين" الكاثوليكي، الذراع السياسي لمنظمة الجيش الجمهوري الايرلندي IRA المحظورة بأنه لا مجال أمامهم غير التأقلم الايجابي مع عرض دبلن ولندن. ولعل حال القرف العامة من استمرار الاقتتال الأهلي بين صفوف غالبية الطائفتين في الاقليم، والتغير الملحوظ عقائدياً وسياسياً في صفوف بريطانيا وجمهورية ايرلندا، هما العاملان الرئيسيان وراء التطورات الأخيرة. وقد سمعت من مصادر مقربة من اجواء المفاوضات التي جرت في الأسابيع الماضية في ستورمونت، مقر الادارة البريطانية في بلفاست، ان هناك شعوراً بالخجل لأنه سمح لهذه الحرب بالاستمرار حتى الآن "وكأنها تحدث في مناطق افريقيا النائية وليس وسط أوروبا المتحضرة". فالحقد والكراهية وانعدام الثقة التام لا تزال هي العناصر التي تحكم العلاقة بين أطراف الصراع، حيث لم يجر تبادل أي حوار أو تحية بين المفاوضين الكاثوليك والبروتستانت في قاعات التفاوض حتى الآن. الصراع الطائفي، كما هو معروف، كان قد بدأ منذ عقد العشرينات، ولكنه اتخذ منحى دموياً منذ 1968 عندما خرجت أول مظاهرة احتجاج سلمية يقودها الكاثوليك ضد الوجود العسكري البريطاني في اقليم اليستر. الا ان ميليشيات الطائفتين سيطرت على الصراع في شوارع وأزقة ايرلندا الشمالية منذ السبعينات حيث بلغ عدد قتلى الحرب الطائفية حوالى 3235 قتيلاً، مع عدد أكبر من الجرحى. فرقاء الصراع وافقوا قبل خمسة أشهر على الدخول في عملية السلام لاقتناعهم بأن العمل العسكري لن يؤدي الى كسب الحرب. وقد قابل هذا التحول تغير في تفكير السياسيين البريطانيين انفسهم الذين قبلوا في النهاية حقيقة ان المواجهة العسكرية مع الكاثوليك لن تؤدي الى رضوخ أبناء هذه الطائفة لشروط بريطانيا البروتستانتية. والمعروف ان الصراع في اقليم اليستر يدور بين أغلبية بروتستانتية 55 في المئة واقلية كاثوليكية 45 في المئة. ومفاوضات السلام التي تستأنف غداً الاثنين ستقرر مصير سكان الاقليم البالغ عددهم 1.6 مليون نسمة. الأحزاب البروتستانتية تصر على ان يبقى البلد جزءاً من المملكة المتحدة، بينما يطالب حزب "شين فين" بايرلندا موحدة، طبعاً، ليس من المتوقع ان تنتهي مفاوضات السلام بتفضيل وجهة نظر على أخرى، الا انه من المنتظر للخروج من الأزمة الراهنة ان يتراجع طرفا الصراع عن موقفيهما الحالي والتوصل الى حل وسط. وتأمل لندن ودبلن ان تنتهي أوراق العمل المطروحة للمناقشة في الأسابيع الثلاثة المقبلة بمشروع اتفاق للسلام يطرح على الاستفتاء في ايرلندا الشمالية وجمهورية ايرلندا في أيار المقبل، على ان يلي ذلك انتخاب برلمان محلي لاقليم اليستر في حزيران يونيو اللاحق. وتسعى الاستراتيجية الجديدة الى تحقيق صدمة ما تدفع أكبر الأحزاب البروتستانتية حزب اليستر الاتحادي الذي يتزعمه دافيد تريمبل الى التحدث مع "شين فين" الكاثوليكي. اما العقبة الرئيسية فتتمثل في اقناع البروتستانت بحقيقة واقع الكاثوليك ومطالبهم في الاقليم وعدم تجاهل مشاعرهم تجاه الجنوب دبلن. والذي يسبب الغيظ لزعماء الأحزاب البروتستانتية هو التقدم الذي يحققه الكاثوليك في اليستر على الصعد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. جيري آدامز وزعيم حزب العمال الديموقراطي والاجتماعي في الاقليم جون هيوم الذي يدعو الى حل سلمي منذ زمن طويل، يمثلان جيلاً من السياسيين الكاثوليك يحظى باحترام محلي وأوروبي. كما ان ممثلي اقليم اليستر في مجلس العموم البريطاني كان يقتصر على 12 بروتستانتياً حتى مطلع السبعينات. اما عدد نواب الاقليم في مجلس العموم فيبلغ الآن 18 نائباً بينهم خمسة كاثوليك و12 بروتستانتياً موزعين على ثلاثة أحزاب، يضاف الى ذلك ان بعض الكاثوليك حققوا اختراقات مهمة في مختلف نواحي الحياة العامة وبدأوا يتبوأون مناصب ووظائف رئيسية في مجتمع ايرلندا الشمالية البروتستانتي. المفاوضات الراهنة لا سبيل لنجاحها غير القبول بحلول وسط. وهذا يعني ان "شين فين" سيتخلص - على الأقل في الوقت الراهن - من حلم "ايرلندا الموحدة"، فيما يقبل البروتستانت - وهذا هو الأهم - ان تلعب دبلن دوراً في شؤون ايرلندا الشمالية. وبعبارة اخرى، تكمن صعوبة تحقيق السلام بانتقال فرقاء الصراع من حال "الرابح والخاسر" التاريخية، الى حال "الكل رابحون". ولعل هذا يفسر غيظ البروتستانت الذين يرون ان أي نتيجة تنتهي اليها المفاوضات ستكون لصالح الكاثوليك، وبعد الاستفتاء الذي وعد الرئيس الأميركي نفسه انه سيروّج فيه كلمة "نعم" لاتفاق السلام عبر زيارة يقوم بها الى ايرلندا الشمالية عشية الاستفتاء، سيخضع اقليم اليستر لثلاث هيئات رسمية: مجلس نواب محلي، ومجلس وزاري تشترك فيه لندن ودبلن، ومجلس استشاري للمتابعة يستمد اعضاءه من البرلمانين البريطاني والايرلندي. وستشكل مفوضيات مشتركة للاشراف على الأمن والسجناء ونزع السلاح والتفرقة الطائفية في مواقع العمل والمدارس الخ… لقد حصلت عشرون عملية اغتيال طائفي عشوائية منذ أوائل العام 1998 ولكن من دون ان تحرف عملية السلام وتلغي المفاوضات. لندن ودبلن ردتا بحزم من خلال الطرد الموقت لبعض الفرقاء الى خارج قاعة المفاوضات والتهديد بالطرد النهائي والمضي في عملية السلام من دونهم. كل الدلائل تشير الى ان هذه الاستراتيجية تحصد ثماراً طيبة وتضع التسوية عند نقطة اللاعودة مهما كانت رغبات فرقاء الاقتتال الطائفي في ايرلندا الشمالية.