بعد أكثر من 30 عاماً من المواجهات ذات الطابع الطائفي، تخطو إيرلندا الشمالية هذه الأيام خطوة جديدة في طريق تقرير مستقبلها، وتحديد طبيعة علاقتها مع جارتها الكبيرة الى الشرق بريطانيا عموماً وإنكلترا خصوصاً، وجارتها الصغيرة الى الجنوب جمهورية إيرلندا. إنها طريق شائكة لا شك. فالهوة بين إطراف النزاع واسعة، ومطالب كل منهم تكاد تكون مماثلة للقاعدة الحسابية "خطان متساويان لا يلتقيان": طرف، بروتستانتي، ينشد البقاء مع "أمه الحنون" بريطانيا، وطرف ثان، كاثوليكي، ينشد العودة الى "أحضان إخوته" في الجزء الجنوبي من الجزيرة. البروتستانت، وهم الغالبية في إيرلندا الشمالية حالياً 900 ألف نسمة، يخشون إيرلندا موحدة يصبحون فيها أقلية. أما الكاثوليك 600 ألف نسمة، فهم بالطبع يريدون وحدة ترفع عن كاهلهم عبء العيش أقلية في بحر بروتستانتي، لا يشمل فقط إيرلندا الشمالية بل كل المملكة المتحدةلبريطانيا العظمى بما فيها إنكلترا وأسكتلندا وويلز. الخطوة الأولى في تحديد المسار المستقبلي لإيرلندا الشمالية وإدارة شؤونها بيد أهلها في بلفاست، وليس من لندن، بدأت قبل أيام. تنازلان مهمان قدّمهما إطراف النزاع ومهّدا لعودة الحكومة المحلّية الى النشاط بعد تجميد دام أربعة أشهر. التنازل الأول قدّمه "الجيش الجمهوري الإيرلندي"، وهو الحركة المسلّحة الرئيسية التي تسعى الى توحيد شطري إيرلندا وطرد البريطانيين منها. إذ أعلن أنه "يضع سلاحه على نحو دائم" في وضع "عدم الإستعمال". التنازل الثاني قدّمه الحزب الأساسي البروتستانتي "حزب ألستر الوحدوي" بقبوله إعلان "الجيش الجمهوري"، على رغم غموضه، علماً ان هذا الحزب كان يُصّر طوال الفترة الماضية على ضرورة "تسليم سلاح" الجمهوريين وليس فقط التعهد بعدم إستخدامه قبل الجلوس مع ممثليهم السياسيين في حكومة واحدة. ما هي أسباب النزاع في إيرلندا الشمالية؟ من هم اللاعبون الأساسيون فيه؟ وما هي مطالبهم؟ سيحاول الإجابة عن هذه الأسئلة تحقيق أُجري على هامش جولة في بلفاست نظّمتها وزارة الخارجية البريطانية لعدد من الإعلاميين العرب الأسبوع الماضي. يُعتبر تقسيم جزيرة إيرلندا، سنة 1921، الى قسمين، جنوبي ويضم المقاطعات التي تضم غالبية ساحقة من الكاثوليك، وشمالي ويضم غالبية برتستانتية، أساس النزاع الحالي الدائر في الجزء الشمالي في الجزيرة. إذ يعتبر مؤيدو وحدة شطري إيرلندا ان هذا التقسيم الذي أعلنته الحكومة البريطانية غير منطقي وغير شرعي. غير منطقي لأنه يجافي حقيقة تاريخية مفادها ان الإيرلنديين كانوا على مد العصور، وقبل بدء غزوات النورمان لأراضيهم إنطلاقاً من إنكلترا سنة 1169، يُعتبرون مجموعة وطنية واحدة. وهم كانوا يُحكمون حتى السنة 1921 كمجموعة سياسية واحدة تحت الإستعمار البريطاني. ضم البريطانيون إيرلندا الى "المملكة المتحدة" سنة 1801، لكنهم قرروا الإنسحاب من جزئها الجنوبي إثر حملات سياسية وعسكرية شنّها الوطنيون الإيرلنديون بين العامين 1916 و1921. أما ان التقسيم غير شرعي - في نظر مؤيدي وحدة الشطرين - فلأنه تقرر في لندن من دون عرضه على الشعب الإيرلندي لأخذ رأيهم فيه. إذ ان البريطانيين، حرصاً على أرواح جنودهم ومصالحهم، قرروا تقسيم الجزيرة بقرار من برلمانهم صدر سنة 1920 نُفّذ بعد ذلك بسنة. ونص القرار وقتها على إنشاء دولتين: "دولة إيرلندا الحرة" لاحقاً، في 1949، جمهورية إيرلندا وضمّت 26 مقاطعة من أصل 32، و"إيرلندا الشمالية" وتضم المقاطعات الست الباقية والتي تُعرف بإسم "ألستر". ويشير مؤيدو الوحدة الإيرلندية، في هذا الإطار، الى ان "ألستر" نفسها ليست فقط المقاطعات الست التي تتكون منها حالياً، بل هي تسع مقاطعات أُزيل منها ثلاث لأنها تضم مؤيدين للوحدة الإيرلندية. أدى قبول "شين فين"، الحزب الأكبر في البرلمان المحلي في دبلن سنة 1921، قرار التقسيم الى إندلاع حرب أهلية دامت سنتي 1922 و1923 وانتهت بهزيمة "الجيش الجمهوري الإيرلندي" المعارض لتقسيم الجزيرة. خلفيات النزاع إذا كان تقسيم الجزيرة السبب المباشر للنزاع الإيرلندي، فإن خلفياته دينية أساساً. ذلك ان أهل الجزيرة كاثوليك، في حين أن مستعمريهم الإنكليز بروتستانت. وشن الإيرلنديون ثورات عدة ضد الإنكليز الذين ردوا عليهم بحملات عسكرية واسعة تركّز أهمها في مقاطعة ألستر الشمالية حيث هُزم الثوار فيها سنة 1607. ولضمان إستتباب الوضع في هذه المقاطعة، لجأ الإنكليز، في القرن السابع عشر، الى توطين أعداد كبيرة منهم ومن الإسكتلنديين البروتستانت في ألستر. وحُسم الوضع لمصلحة البروتستانت سنة 1690 عندما هزم ويليام أوف أورانج لاحقاً الملك ويليام الثالث الملك الكاثوليكي جيمس الثاني في معركة بوين نهر يقع في جمهورية إيرلندا. وعندما قرر البريطانيون تقسيم الجزيرة سنة 1920، فإنهم بالطبع حاولوا قدر الإمكان تلبية رغبات حلفائهم البروتستانت عندما إندلعت الحرب العالمية الأولى سنة 1914، تطوّع بروتستانت ألستر بالآلاف في صفوف الجيش البريطاني. وتكبّد هؤلاء خسائر فادحة في الحرب، بينها خمسة الآف قتيل في اليوم الأول من معركة السوم في فرنسا. في أي حال، تعامل بروتستانت ألستر من الكيان الجديد الذي أنشأه البريطانيون في إيرلندا الشمالية بوصفه وطناً للبروتستانت، في حين تجاهل الكاثوليك هذا الكيان ورفضوا التعامل معه. ومع مرور الأيام، تكّرس هذا الشعور: البروتستانت يتصرفون كأنهم هم فقط "أهل البيت"، والكاثوليك كان الكيان الإيرلندي الجديد لا يعنيهم. في النصف الثاني من الستينات، بدأ الكاثوليك ينظّمون صفوفهم في إطار جماعات حقوقية تعمل لرفع الغبن عنهم، خصوصاً في مجالات الإسكان والتعليم والعمل، إضافة الى السعي الى تمكينهم من حقوقهم السياسية في الإنتخابات رفعوا وقتها شعار "رجل واحد = صوت واحد"، ذلك ان نظام الدوائر الإنتخابية الذي يسيطر عليه البروتستانت كان يحرم الآلاف من الكاثوليك من حق الإقتراع. وتطورت هذه الحملة الحقوقية، في 1969، الى مواجهات بين المتظاهرين الكاثوليك وقوات الأمن التي يقودها البروتستانت بالطبع، قبل ان تتحول لاحقاً الى حرب عصابات يشنّها "الجيش الجمهوري الإيرلندي" ضد البروتستانت. وأدى ذلك بالحكومة البريطانية، سنة 1972، الى تعليق البرلمان المحلي في إيرلندا الشمالية مقره ستورمونت وفرض حكم مباشر عليها من لندن. لم يستطع الحكم البريطاني المباشر فرض الهدوء فوراً في إيرلندا الشمالية. بل أدى الى العكس تماماً. إذ وسّع "الجيش الجمهوري" عمليات عنفه في إيرلندا الشمالية، لتشمل كل بريطانيا. وقتل مسلّحو "الجيش الجمهوري" نحو 900 شرطي وجندي بريطاني، وثلاثة نواب. ومن أبرز عملياتهم تفجير فندق في برايتون سنة 1984 كان يعقد فيه حزب المحافظين الحاكم مؤتمره السنوي، والهجوم بالمدفعية على مقر رئاسة الحكومة في داونينغ ستريت خلال إجتماع وزاري سنة 1991. الطبقة السياسية تنقسم الطبقة السياسية في إيرلندا الشمالية، عموماً، الى قسمين هما: الإتحاديون الذين يريدون بقاء الوحدة في إطار "المملكة المتحدة" التي تضم إنكلترا وأسكتلندا وويلز، إضافة الى إيرلندا الشمالية، والوطنيون أو الجمهوريون الذين يريدون علاقات أوثق مع جمهورية إيرلندا أو حتى الإتحاد معها. وفي حين يتألف الإتحاديون من أتباع الطائفة البروتستانتية، فإن الجمهوريين يتبعون الكنيسة الكاثوليكية. وليس من دليل أوضح على عمق الإنقسام السياسي في إيرلندا الشمالية من نتائج الإنتخابات التي تجري فيها والتي تُظهر ان 90 في المئة من الناخبين يُصوّتون إما للأحزاب الوحدوية أو للأحزاب الجمهورية. ثمة أحزاب أخرى بالطبع تسعى الى جذب أصوات من أتباع كلا الطائفتين، مثل حزب "الألايانس" و"حزب العمال". هذا الإنقسام في الطبقة السياسية الإيرلندية، بين إتحاديين ووطنيين/جمهوريين، يتبعه إنقسام مماثل في داخل كلا المعسكرين. فالمعسكر الإتحادي ينقسم، مثلاً، الى قسمين أساسيين هما الحزب الإتحادي لألستر والحزب الديموقراطي الإتحادي. أما المعسكر الوطني/الجمهوري فينقسم بدوره الى قسمين أساسيين هما الحزب الإجتماعي الديموقراطي والعمالي وحزب الشين فين. ولكل من الإتحاديين والجمهوريين جماعات مسلحة سرية أهمها "الحزب الجمهوري الإيرلندي" آي آر إيه، وهو المنظمة العسكرية الأساسية لدى الجمهوريين، ورابطة الدفاع عن ألستر يو دي أيه وقوة متطوعي ألستر يو في أف. نوعان من الإتحاديين النقطة الجوهرية لدى الإتحاديين، بكافة فصائلهم، هي بقاء الإتحاد الدستوري القائم مع بريطانيا. لكن هناك تيارات عديدة مختلفة بين الإتحاديين أنفسهم بالنسبة الى درجة الإتحاد مع بريطانيا ونوعه. وأبرز نوعين من الإتحاديين هنا هما: إتحاديو ألستر، واتحاديو بريطانيا. يرى التيار الأول ان الأولوية هي لبقاء ألستر بروتستانتية، في حين تأتي الوحدة مع بريطانيا في الدرجة الثانية. ويربط هذا التيار الوحدة مع بريطانيا ببقاء تاجها الملك أو الملكة للبروتستانت. وهو يرى ان عدم سيطرة البروتستانت على السلطة في إيرلندا الشمالية سيعني هزيمتهم الحتمية على المدى الطويل. ويستمد هذا التيار مبادئه من أفكار المتعصّبين داخل الطائفة البروتستانتية التبشيرية، ويركّز في أدبياته على "الإنتصارات" التي حققها البروتستانت على الكاثوليك والجمهوريين في إيرلندا الشمالية خصوصاً إنتصار ويليام أوف أورانج في معركة نهر البوين. أما التيار الثاني، أي إتحاديي بريطانيا، فهو يعتمد على إتحاد مع بريطانيا مماثل للإتحاد القائم بين دولها حالياً إنكلترا وأسكتلندا ومقاطعة ويلز، ويركّز على مبادئ الديموقراطية البرلمانية التي يقوم عليها النظام البريطاني في وستمنستر. وعلى رغم الإختلاف بين أحزاب التيار الإتحادي، بين متشدد الحزب الديموقراطي الإتحادي بزعامة القس إيان بايسلي ومعتدل الحزب الإتحادي لألستر بزعامة ديفيد تريمبل، فإنهما يجتمعان على قواسم مشتركة عدة أهمها رفض وحدة إيرلندا، الإبقاء على الحدود القائمة، بقاء دولة إيرلندا الشمالية جزءاً من بريطانيا العظمى، واستمرار القيادة السياسية في يد الإتحاديين. ومثلما توضح الإنتخابات التي جرت على مدى السنوات الماضية في إيرلندا الشمالية، فإن المتشددين الإتحاديين هم أقلية نسبية 20 نائباً في الإنتخابات الأخيرة في 1998، في حين تذهب غالبية الأصوات الى المعتدلين ممثلين بحزب ألستر الإتحادي 28 نائباً. نوعان من الوطنيين تؤيد الأقلية الكاثوليكية في إيرلندا الشمالية قيام نوع من أنواع الوحدة الوطنية للإيرلنديين في شمال الجزيرة وجنوبها. وهم على هذا الأساس، يعتبرون ان إيرلندا الشمالية لا يجب ان تكون جزءاً من "المملكة المتحدةلبريطانيا العظمى"، وبالتالي فإن نظام الحكم القائم في شمال الجزيرة غير عادل وغير شرعي. وإذا كانت هذه المبادئ تجمع الغالبية العظمى من كاثوليك إيرلندا الشمالية، فإن سُبل تحقيقها تقسمهم الى مُعتدلين ومتشددين. ففي حين يرى حزب "شين فين" و"الجيش الجمهوري الإيرلندي" جواز إستخدام العنف لتحقيق هدفهم السياسي المتمثل في إخراج البريطانيين من شمال الجزيرة وتوحيد شطريها، فإن هذا الأسلوب يرفضه المعتدلون الكاثوليك ممثلين بالحزب الديموقراطي الإجتماعي والعمالي. ينشط "الجيش الجمهوري الإيرلندي" منذ عشرينات القرن الماضي، عندما تعهّد اللجوء الى العمل المسلّح لتوحيد شطري الجزيرة. لكن في الخمسينات من القرن العشرين، شهد التأييد الشعبي لهذه الجماعة تراجعاً كبيراً. وتأقلماً مع ذلك، قرر "الجيش الجمهوري" الذي كان يهيمن عليه آنذاك ناشطون يساريون/ماركسيون من الشطر الجنوبي للجزيرة، إنتهاج خط سياسي سلمي. لكن تلك السياسية لم تكن محلّ قبول لدى الإيرلنديين المتمسكين الى حد التعصّب بكاثوليكيتهم. وزاد الطين بلة ان "الجيش الجمهوري" لم يتحرّك للدفاع عن الكاثوليك لدى بدء المواجهات في إيرلندا الشمالية في 1969. ونتيجة لذلك، شهد "الجيش الجمهوري" إنشقاقاً في صفوفه. ففي حين بقي الجناح الذي يسيطر عليه الماركسيون يحمل إسم "الجيش الجمهوري - الرسمي" تحوّل لاحقاً الى حزب العمال وهو حزب سياسي معارض بشدة للإرهاب، أُطلق على الجناح الثاني إسم "الجيش الجمهوري - الموقت" الذي بدأ حملة عنف واسعة ضد البريطانيين. وعلى رغم ان هذا الجناح الأخير يحظى ببعض الدعم في جمهورية إيرلندا حيث تقع معظم مخابئ أسلحته، فإن غالبية قادته من الأحياء الشعبية الكاثوليكية في إيرلندا الشمالية. ول"الجيش الجمهوري" جناح سياسي ناشط في أحياء الكاثوليك في إيرلندا الشمالية يتمثّل في حزب "شين فين". وعلى رغم ان قادة "شين فين" ينفون عن أنفسهم انهم "واجهة سياسية" ل"الجيش الجمهوري"، إلا ان الإرتباط الشديد بين التنظيمين يجعل من الصعوبة بمكان تحديد خط واضح بينهما. ومعلوم ان العديد من القادة السياسيين ل"شين فين" هم سجناء سابقون إتهموا بالإنتماء الى "الجيش الجمهوري". ويرفض قادة "شين فين" حتى إدانة عمليات العنف التي يقوم بها "الجيش الجمهوري". ويقول نائب رئيس "شين فين" بات دورتي نائب في البرلمان المحلي في إيرلندا الشمالية: "الجيش الجمهوري الإيرلندي يسعى الى تحرير إيرلندا من الحكم البريطاني. إنه جماعة فدائية، وليس منظمة إرهابية. "شين فين" حزب سياسي وليست جناحاً سياسياً ل"الجيش الجموري". ... لدينا تأثير بالطبع على "الجيش الجمهوري" لكنه لا يأتمر بأوامرنا". ويدافع دورتي عن الخط المعتدل الذي ينتهجه "الجيش الجمهوري" حالياً، خصوصاً بعد تكريسه وقف النار بإعلانه قبل شهرين انه يلتزم "عدم إستخدام" أسلحته. وهو يعتبر ان ذلك لا يعني ان "الجيش الجمهوري" هُزم عسكرياً: "ان الجيش الجمهوري الإيرلندي لا يمكن ان يستسلم. فهو لم يُهزم في مواجهة الجيش البريطاني طوال أكثر من 30 عاماً، فلماذا يستسلم اليوم؟". عملية السلام تتمحور عملية السلام في إيرلندا الشمالية اليوم على تطبيق "إتفاق بلفاست" يُطلق عليه إيضاً إسم "إتفاق الجمعة العظيمة" في 10 نيسان أبريل 1998. ومن أبرز ما ينص عليه هذا الإتفاق نقل السلطات من لندن الى برلمان وحكومة منتخبين في إيرلندا الشمالية، وعلى إنشاء مجلس وزاري مشترك بين شطري إيرلندا يُشرف على أجهزة تُنظّم عمليات التنقل عبر الحدود بين الشطرين، وعلى إنشاء مجلس بريطاني - إيرلندي تُشارك فيها حكومتا لندن ودبلن. ونص الإتفاق إيضاً على نقطة جوهرية أخرى تؤكد ان إيرلندا لا يمكن ان تتوحد إلا إذا وافق على ذلك سُكان كل من الشطرين وهو أمر متعذّر ما دام غالبية سكّان الشطر الشمالي متمسكين بالوحدة مع بريطانيا، وان حكومتي لندن ودبلن تتعهدان قبول وحدة إيرلندا إذا كانت هذه رغبة سكان شطريها. عُرض إتفاق بلفاست الجمعة العظيمة على إستفتاء يوم 22 أيار مايو 1998: فنال تأييد 71 في المئة من سكان إيرلندا الشمالية، في حين نال 94 في المئة في جمهورية ايرلندا التي عدّلت دستورها ليتوافق مع ما ورد في إتفاق الجمعة العظيمة. في 25 حزيران يونيو 1998، أُجريت الإنتخابات في إيرلندا الشمالية لإنتخاب برلمان من 109 مقاعد وفق ما نص عليه إتفاق بلفاست. ففاز الحزب الوحدوي لألستر ب28 مقعداً، والحزب الإجتماعي الديموقراطي والعمالي ب24، والحزب الديموقراطي الوحدوي ب20، وشين فين ب18. وتوزّعت بقية المقاعد على أحزاب صغيرة. وشُكّلت حكومة محلية من رئيس ونائب رئيس وعشرة وزراء تتناسب مع نسبة تمثيل الأحزاب في البرلمان. وفي حين نال حزب ألستر رئاسة الحكومة ديفيد تريمبل، حصل الحزب الإجتماعي الديموقراطي والعمالي على نيابة رئاسة الحكومة شيماس مالون. لكن ما كادت هذه الحكومة تباشر مهماتها حتى إصطدمت بعقبة تمثّلت في إصرار الوحدويين على بدء تسليم "الجيش الجمهوري" أسلحته للقبول بالجلوس مع "شين فين" في الحكومة. ودار جدل واسع إثر رفض "الجيش الجمهوري" البدء في تسليم أسلحته، فأعلنت الحكومة البريطانية تجميد نشاط الحكومة المحلية المنتخبة في إيرلندا الشمالية وعودة الحكم المباشر من لندن بدءاً من منتصف ليل 11 شباط فبراير 2000. مع هذا التعثر في عملية تطبيق إتفاق الجمعة العظيمة، بادر "الجيش الجمهوري" الى إطلاق مبادرة جديدة لفّها الغموض. إذ إصدر بياناً أكد فيه قبوله وضع أسلحته في شكل دائم تحت إشراف دولي بما يؤكد انها لن تُستخدم مُجدداً. لكن هذا الإعلان لم يُحدد طريقة الإشراف الدولي على الأسلحة، ولا مكان تخزينها، ولا طريقة ضمان عدم إستخدامها. كذلك لم يوضح ما الذي يضمن ان الأسلحة التي سيعرضها على المراقبين الدوليين هي كل أسلحته. كان ذلك العرض أقصى ما يمكن ان يُقدم عليه "الجيش الجمهوري". فانتقلت الكرة الى ملعب الإتحاديين. رفضها، مثلما هو متوقع المتشددون في حزب إيان بايسلي. كذلك رفضها العديد من قياديي حزب ألستر الوحدوي. لكن قيادة هذا الحزب، وتحديداً زعيمه تريمبل، كانت تعرف ان لا خيار آخر أمامها سوى قبول عرض "الجيش الجمهوري"، علّها تكون خطوة أولى نحو تسليم أسلحته أو نزعها. ولا شك ان قيادة هذا الحزب تلقّت تطمينات من لندن ومن الجمهوريين الإيرلنديين مفادها ان "الجيش الجمهوري" لن يعود مجدداً الى إستخدام السلاح. فدعا تريمبل أعضاء حزبه الى مؤتمر خرج منه بقرار نال غالبية ضئيلة لكنها كافية تؤيد العودة الى السلطة التنفيذية بالمشاركة مع شين فين. أدى ذلك القرار الى إعلان بريطانيا إلغاء الحكم المباشر من لندن وإعادة العمل بالمؤسسات المنتخبة في إيرلندا الشمالية. وهكذا تدخل إيرلندا مرحلة جديدة من مراحل عملية السلام فيها. السلام لا يزال بعيداً، لكن بصيص أمل يظهر في نهاية نفق مظلم.