سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
مجيئه إلى المغرب كان "مكتوباً" وينتظر نهايته غير نادم على شيء . "الوسط" تزور الكاتب الأميركي القابع في "عزلة طنجة" . بول بولز : لست "مصاص دماء" ومحمد شكري أصابه الجنون
"جاء بول بولز ليقضي في طنجة صيفاً، مثل العابرين بها، فإذا به يخلد فيها. ومن الملاحظ أن معظم الذين يفدون إليها من المبدعين الأجانب، يجيئونها في الصيف ثمّ يغادرونها بعد فترة تطول أو تقصر: لقاء، حبّ، أو زواج في ميناء. لا أحد شاهد. لكن بول ماذا أبقاه فيها بقيّة عمره؟ ... إنّه لا يجيب إلا بمراوغة ومواربة كعادته، فهو حريص على أن يكون متطابقاً مع ظلّه. وإذا شاء يقول بسخريته المعهودة: "لقد جئت وبقيت"...". هذه الكلمات دوّنها محمد شكري عن صديقه القديم في كتاب صدر خلال العام الماضي عن "منشورات الجمل" في كولونيا. "الوسط" بدورها حاولت أن تفكّ اللغز، فقصدت الكاتب الأميركي الذي ينتظر الموت مطمئنّاً في المدينة التي وهبها عمره. يتحتم عليك أنت القادم إلى طنجة والراغب في معرفة أخبارها الأدبية، أن تذهب فور وصولك إلى مكتبة "أعمدة هرقل" الكائنة في الطرف الأسفل من بولفار باستور. في الماضي كانت تدير هذه المكتبة السيدة جيرفي التي ظلت على مدى ثلاثين عاماً أو أكثر، مصدراً أساسياً لاستقصاء أسرار طنجة الأدبية وغير الأدبية. وكانت السيدة ذات العينين الرماديتين اللامعتين بالذكاء والخبرة تعلم كل شيء تقريباً عن الوافدين إلى طنجة من أدباء وفنانين، خصوصاً المشاهير منهم من أمثال جان جينيه وتنيسي ويليامز وويليام بوروز وصموئيل بيكت وبول بولز وزوجته جين... قبل عام ونيّف، تقاعدت السيدة جيرفي، وحلت مكانها سيدة مغربية سمراء تدعى ثريا تامسماني. استقبلتني في الصيف الماضي بحفاوة ولطف، وحدثتني بالتفصيل عن حفل التكريم الذي أقامه المركز الثقافي الفرنسي بالتعاون مع مكتبة "أعمدة هرقل"، احتفاء ببول بولز قبل قدومي إلى طنجة بأيام. وقالت لي إن بولز "كان سعيداً مثل طفل". وعلى الرغم من التعب والمرض، ظل يتحدث إلى الحاضرين على مدى ساعتين كاملتين "وهو صافي الذهن، حاضر البديهة". وعرضت عليّ ثريا تامسماني العديد من الصور التي أخذت اثناء الحفل، ويبدو فيها الكاتب الأميركي الطنجاوي سعيداً، منشرحاً، مفعماً بالحيوية. ظهر اليوم نفسه، توجهت إلى العمارة التي يسكنها بولز منذ سنوات طويلة، خلف القنصلية الاميركية، في شارع صغير كان اسمه شارع الورد ثم اصبح شارع جان جاك روسو. آخر زيارة لي إلى الكاتب تعود إلى صيف العام 1988. أذكر اني وصلت إلى شقته في الساعة الثالثة بعد الظهر. وجدته محاطاً ببعض الشبان المغاربة. وكان هناك ايضاً محمد المرابط الذي نقل بول بولز العديد من اقاصيصه الشفوية إلى الانكليزية. وقد بدا لي منذ البداية حريصاً على صحة المعلّم بشكل زائد عن اللزوم. وبالفعل ما ان شرعت في التحاور مع بول بولز حتى اقترب مني وهمس لي قائلاً: "عليك ألا تطيل لأن السيد بولز متعب ومريض!". كان بول بولز يومها ممدداً على أريكة ويداه خلف رأسه. وأذكر أنه تحدث بذلك التهكم المهذب الذي اشتهر به عن ترومان كابوت وتنيسي ويليامز وشارل بوكوفسكي. كما تحدث أيضاً عن زوجته جين وعن علاقته بالمغرب والمغاربة. وعندما وصل الحوار يومها إلى ذروة التشويق، قاطعنا المرابط صائحاً: "يكفي. قلت لك إن صحة السيد بولز لا تحتمل الحوارات المطولة!". ولاحظت أن الكاتب لم يعلّق، بل بدا راضخاً تمام الرضوخ لأوامر محمد المرابط صاحب العين الساهرة، فانسحبت قبل أن يكتمل الحوار وبقيت على نهمي. ظلمة القبر خلال السنوات الماضية، انقطعت العلاقة بين بولز والمرابط الذي أصيب بداء خبيث وانعزل في بيته في ضواحي طنجة منتظراً نهايته. ويبدو أن سبب القطيعة بين بول بولز ومحمد المرابط عائدة إلى أن هذا الاخير اتهمه ب "التزوير والاحتيال". ونقل عن الكاتب الأميركي ردّه: "هذا الرجل أمّي. أنا الذي عرّفت به حين ترجمت قصصه الشفوية إلى الانكليزية. كيف له ان يتهمني بالتزوير وهو يعلم جيداً أن عائدات قصصه المترجمة سمحت له بأن يعيش حياة مرفهة؟". أمام العمارة التي يقطنها بول بولز كان هناك أطفال يلعبون. حالما رأوني، توقفوا عن اللعب، وراحوا ينظرون إليّ بفضول شديد. صعدت الطوابق الأربعة وضغطت على الناقوس. مرة. مرتين. انفتح الباب وأطلّ شاب وسيم عرفت في ما بعد انه انكليزي وانه يكتب الشعر والقصة القصيرة. مددت له ورقة عليها اسمي وكلمة لبول بولز، أعبر له فيها عن رغبتي الكبيرة في مقابلته، ولو لوقت قصير. غاب الشاب بضع دقائق ثم عاد ليقول لي إن الكاتب على استعداد لمقابلتي يوم الأربعاء المقبل اي بعد يومين، في الساعة الرابعة ظهراً. يوم الموعد، تناولت طعام الغذاء مع محمد شكري في مطعم "بار جولا" المقابل للبحر. أعلمته بأنني على موعد مع بولز فلم يعلق بشيء. فقط قال لي: "اسمع... إذا كان سائقه عبد الواحد هناك فسوف لن تتمكن من التحدث إليه كما ينبغي، إن هذا الرجل فظ السلوك. وهو يسيطر سيطرة تامة على بول بولز... أكثر بدرجات من محمد المرابط!". في الساعة الرابعة بالضبط، كنت أمام الشقة. ضغطت على الناقوس، ففتحت لي الباب امرأة مغربية في حوالي الخامسة والثلاثين من عمرها. جميلة. سمراء. بعينين سوداوين واسعتين وشعر فاحم يسدل على كتفيها. تنفست الصعداء ذلك انني تأكدت أن السائق عبد الواحد ليس موجوداً. أنا على موعد مع السيد بولز. "انتظر لحظة" قالت المرأة ثم أغلقت الباب. بعد بضع دقائق عادت وأشارت عليّ بالدخول. الشقة معتمة كما كانت في الزيارة الأولى. محمد شكري يصفها بالقبر، ويقول إن بولز حريص على البقاء فيها حتى يتمكن من احتمال ظلمة القبر لاحقاً. اثاث بسيط. كتب وجرائد ومجلات. كان الرجل العجوز يرتدي "روب دي شامبر" زرقاء اللون، مرصّعة بنجوم بيضاء. وكان يبدو متعباً إلى أقصى حد. كعادته كان ممدداً على الفراش. ذكرته بالحوار الذي أجريته معه. - يبدو أني أصبحت معروفاً لدى العرب... قال مبتسماً. نعم - أنا سعيد لأن مترجمين مثل ابراهيم الخطيب وعبد العزيز جديد عرّبوا قصصي القصيرة. هل تعرف كيف استقبلت في العالم العربي؟ لاقت استقبالاً جيداً على حدّ علمي. - هذا شيء مفرح!"صمت قليلاً"، أعتقد أن قصصي أفضل من رواياتي... أليس كذلك؟! شخصياً أحببت كثيراً روايتك "دعه يسقط"، وأعتبرها أفضل أعمالك. أما قصصك فهي بالفعل رائعة، وقد استفدت فيها بذكاء من التراث الشفوي المغربي... - أتفق معك في أن "دعه يسقط" من أفضل ما كتبت. ومع ذلك فأنا الآن أفضل قصصي على رواياتي. وأعتقد أن قصصي هي التي ستبقى في الأخير. المغاربة يقولون إن ما أكتبه ليس غريباً عنهم، وهذا صحيح إلى حد ما. لكنهم ينسون أني لا أكتب لهم في الأساس، بل للأميركيين والأوروبيين. لست كاتباً مغربياً، بل أنا كاتب اميركي. أحببت المغرب، وكتبت عنه بطريقتي الخاصة، من خلال التجارب التي عشتها في مدنها وقراها وصحرائها. لماذا يريدونني أن أكون مغربياً مئة في المئة؟ هذا الأمر يحيّرني كثيراً! لماذا هاجمني شكري؟ وما رأيك في الكتاب الذي كتبه عنك محمد شكري؟ - لم أقرأه. لكن بعض الناس حدثوني عن محتواه، وقالوا إنه يتهمني بالاستيلاء على بعض عائدات كتابه "الخبز الحافي"، وإنّه يصفني بپ"مصاص دماء". بامكاني القول إن الفضل في التعريف بمحمد شكري عالميّاً يعود إليّ. فقد كنت أول من آمن بموهبته الأدبية، ولم أتردد في ترجمة "الخبز الحافي" إلى الانكليزية. و"العائدات" التي يتحدث عنها وهمية، ذلك اني سلمته جميع حقوقه. إن شكري كاتب جيد، وأنا أحب الكثير مما كتبه، ولست أدري لماذا هاجمني بعنف في كتابه. بعض الناس نصحني برفع دعوى قضائية ضده. أجبت هؤلاء أن شكري أصبح مجنوناً، وأني لا أرى فائدة من مقاضاة مجنون! هل قرأت أنت الكتاب؟ نعم... - وهل أعجبك؟ نعم، أعجبني كثيراً. وأنا أرى أن شكري تحدث عن نفسه في هذا الكتاب، أكثر مما تحدث عنك... - بلغني أيضاً أنه تحدث في هذا الكتاب عن زوجتي جين كما لو أنه يعرفها. والحقيقة أنه لم يلتقِ بها أبداً. وأنا مصدر كل معلوماته عنها. إن ما قام به شكري قلب فاضح للحقائق. وأنا في انتظار قراءة الكتاب حتى أعرف ما هي المغالطات الاخرى التي وردت فيه. محمد مرابط أيضاً اتهمك بالاحتيال والتزوير. - ليتهمني بما يشاء. أنا أعرف جيداً ماذا قدمت لهذا الرجل، وهناك كثيرون هنا في طنجة يعرفون ذلك أيضاً. إن مثل هذه الاتهامات تحزّ في نفسي كثيراً، خصوصاً أني أشعر أني مشرف على النهاية. هل أنت نادم على اقامتك في المغرب؟ - لا أبداً. لست نادماً على شيء. أحببت المغرب، ولا زلت أحبه حتّى هذه الساعة. وخير دليل على ذلك أني أنتظر نهايتي في طنجة وليس في مكان آخر. ما يؤلمني هو أني قدمت مساعدات ثمينة لبعضهم، لكن هؤلاء ناكرون للجميل، لم يجدوا للتعبير عن امتنانهم ما هو أفضل من تدنيس سمعتي بتهم مزيفة. ازددت ايماناً ب "المكتوب" ما هو أهم شيء تعلمته في المغرب؟ - إزددت ايماناً بما يسمونه هنا ب "المكتوب". أعرف الآن انه كان مكتوباً عليّ أن آتي إلى المغرب، وأن استقر في طنجة، وأن أكتب ما كتبت، وأن أعيش التجارب التي عشت. يصمت قليلاً ثم يضيف: - عندما جئت إلى المغرب مطلع الثلاثينات، كان همي الأساسي أن أكون موسيقياً، غير أن اقامتي هنا حولت اتجاهي وإذا بي أهمل الأنغام وأعشق الكلمات. كل هذا كان مكتوباً على أية حال... ماذا يبقى من علاقتك بكتّاب جماعة ال "بيتنكس" ؟ - أنا لا أنتسب إلى هذه الجماعة. وهم لم يأتوا إلى طنجة لزيارتي خصيصاً وإنما لزيارة معبودهم: ويليام بوروز. وألفت نظرك إلى كوني أكبرهم سناً. لكنني، على الرغم من الاختلافات القائمة بيني وبينهم بشأن الحياة والأدب، لا أنكر أني ارتبطت معهم بعلاقة حميمة إلى حدّ ما... من كان أقربهم إلى نفسك؟ - أدبياً أعتبر أن بوروز كاتب مهم للغاية. أما من الجانب الشخصي، فيمكنني القول إن غينسبرغ كان الأقرب إلى نفسي. لا أعرف إن كان شاعراً جيداً أم لا، ذلك اني لا أفهم الشعر كما ينبغي... ولكنك كتبت قصائد كثيرة... - مع ذلك لا اعتبر نفسي شاعراً. وجاك كيرواك؟ - إنه كاتب جيد، لكنه قتل نفسه بالكحول وهو لا يزال شاباً. أحد خلافاتي الكبيرة مع هؤلاء الجماعة هو ادمانهم على الكحول... لكن بوروز حطم صحته أكثر من كيرواك ومع ذلك فقد عاش طويلاً... - بابتسامة ساخرة على طرف فمه لعل أحداً هناك لا يرغب في استقباله كان هذا قبل أسبوع من وفاة ويليام بوروز. أشكرك على هذا اللقاء سيد بولز. - نظر إلى الصدرية التي كنت أرتديها، وقال: انها صدرية جميلة جداً. من أين اشتريتها؟ من ميونيخ. - انها بالفعل جميلة. هل اشتريت واحدة أخرى مثلها؟ نعم. - هذه مبادرة ذكيّة. الأشياء الجميلة لا بد أن نمتلك منها أكثر من قطعة