الكاتب الاميركي بول بولز استوطن مدينة طنجة المغربية واستوحى منها اجواء رواياته، ومن ابناء المدينة الحكواتي محمد مرابط والروائي محمد شكري. "الوسط" زارت طنجة والتقت الكتّاب الثلاثة وناقشتهم. تتفرد طنجة في تعدديتها الطاغية وتكاد ان تؤلف كياناً هجيناً يجمع بين النقيضين، التآلف والتنافر. تقف بيوتها كأنها الحرس القديم يراقب مدخل البحر المتوسط، وتتنفس هواء اوروبا القريبة. يلتقي المتوسط الوديع بالاطلسي المارد عند شاطئ طنجة، فتبدو ابوابها مشرعة للزائرين "كتبكي عللي ماشفهاش، وكيبكي عليها اللي شافها". الا انها في الحقيقة متمنعة قاسية لا تمنح نفسها الا لمن يمتلكها عنوة، ربما، كما يقول محمد شكري ابن المدينة العارف بها. أهي مدينة هذه الفسحة التي اسمها طنجة، ام انها مدن تتوحد وتتوزع؟ كانت، بدءاً من اوائل العشرينات وحتى العام 1956، "منطقة دولية" حكمها الغرب وسكنتها، ولا تزال، حضارته وناسه الى جانب "الزليج" و"الجلابة" والاندلسيات الانيقة الأخرى. وهي، فنياً، فضاء لعطاء الوافدين من اجانب، تشبثوا بأجنبيتهم احياناً، ومغاربة أتوها من مدن اخرى. انتجت حشداً من المرشدين السياحيين، على حد تعبير محمد شكري ايضاً، ولم تحفل بالأدب، تركته للضيوف المقيمين. ولطالما اتصل الاجنبي بالمغربي، لكنهما لم ينصهرا غالباً، كما يبدو: الاميركي بول بولز والمغربيان محمد مرابط ومحمد شكري من الشهود على هذه الظاهرة. بول بولز المعتزل بدأت صداقة بول بولز بالمغرب قبل اكثر من نصف قرن. والتقينا "الكاتب الاميركي الطنجي" في محبسه الطوعي في شقته القريبة من مبنى القنصلية الاميركية. اطل باستحياء، شيخاً متعباً، وهمّ بالانسحاب، الا انه وافق على مضض بشرط "الا يتجاوز الحديث نصف ساعة"! في الداخل، بقي "كابوس نصف الساعة" مخيماً، وحسبناه سبباً لتحفظ بولز في الكلام، اول الامر، الا ان الدقائق الثلاثين استطالت وصارت الجلسة جلستين، تمت ثانيتهما في الصباح التالي. يدهشك بولز بذاكرته النيرة، على رغم هزاله البادي، ففي "الجسم عقل لا يشيب بشيبه…"، وتظن ان كل ما تسمعه كان بولز قاله، ربما مراراً، ما عدا نثارات هنا وهناك! لكنك لا تملك الا ان تطرب لكلماته - القصائد تنساب بعذوبة وتروٍ. تحيرك هذه النبتة التي اقتلعت نفسها من تربتها الأولى نيويورك ولم يطب لها اي تراب آخر، الا مؤقتاً، فبقيت معلقة في الهواء… وتلتمع عينا بولز حين يؤكد: "لست اميركياً او مغربياً. انا زائر للأرض". تتساءل، لماذا طنجة، اذن، كل هذه السنوات الستين؟ فتتذكر اجابته المألوفة: لم اقصد ان استقر هنا، وجدتني في طنجة وقد تقدم العمر ولم يبق لي ملاذ آخر. لكن، كيف لم تعرف المغرب، كما تصر في كتاباتك، وأنت هنا منذ زمن طويل؟ يأتي الرد موجزاً، كأنه لا يقبل النقاش: "عليك ان تكون مسلماً كي تحيط بالمغرب وتنتمي اليه". تفكر هنا بالعبارات التي كانت تحيط باسمه، بين الاربعينات والستينات، وتصفه بأنه الاميركي الذي قرأ كتاب المغرب كاملاً فغيب تفاصيله عن ظهر قلب، ونفذ الى "العقل المغربي" الذي فرشه في قصصه وكتاباته الصحافية امام القارئ الغربي! كانت هذه الكتابات، التي صدر بعضها، معدلاً، في كتاب "رؤوسهم خضراء"، والقصص التي اضاءت "مغرب" بولز المصدر الاساسي لدخله، الى جانب اعماله الموسيقية في مطلع الشباب. ويؤكد معدّ سيرته بولز يستشيط غضباً لدى ذكر هذا المؤلف وكتابه: "ان الفنان اعتاش من ترجماته لقصص محكية مغربية في الستينات، اذ ان نتاجه القصصي توقف آنذاك بسبب مرض زوجته الخطير". وتخطر لك هنا عبارة اللورد كرومر: "الشرق مهنة". الاستعارة من القصص الشعبي اضافة الى الكتابة عن "بلده الثاني" وترجماته، هناك من يقول ان بولز استعار الكثير من القصص الشعبي المغربي. ينكر الكاتب ذلك عموماً، ويستثني "حالات معينة حاولت فيها نقل هذا التراث الى الانكليزية كما في قصصي التي تدور على السنة حيوانات". الى مَ تُعزى، اذن، التشابهات الواضحة بين اعمال بولز والحكايات المغربية التي ترجمها مما دفع بعض النقاد الى اعتبارك المؤلف الحقيقي لها؟ يقول بولز: "سعيت الى نشرها باسم مغاربة اميين كي تجذب القارئ الغربي بسحرها وغرابتها". وقبل ان يرد على الشطر الاساسي من السؤال، سارع الى الاحتجاج بحدة على "هذا النقد الغبي الأخرق". ويتابع: "حتى الاعمى يرى الفروق بين اعمالنا. في الاسلوب وفي الموضوعات، تختلف قصصي عن الحكايات المغربية". وبعد ان ينوه بتمرس محمد شكري وتقدمه فنياً يضيف: "لكل منا طريقته ومواضيعه الخاصة، لكننا نشترك في جانب مهم يمكن ان اسميه تشابهات محلية اذ انهم جميعاً يكتبون ويعيشون في المكان ذاته. يعجبني ميلهم الى مشاهد العنف وتفسيرهم الحياة والاشياء من خلال هذا العنف الذي يأتي فجاً لا تشوبه تنميقات وزخرفات يلجأ اليها عادة كاتب ايطالي او فرنسي او انكليزي. ولأنني مثلهم، احبذ هذا النهج في مقاربة الاشياء. نقلت اعمال كتّاب الحكايات الى الانكليزية، وقد يكون هذا التوافق اساس تشكيك البعض بهوية المؤلف الحقيقي لهذه الحكايات". واتفاق بولز مع وافدين آخرين الى طنجة، مثل محمد مرابط ومحمد شكري، في رؤية الاشياء لا يجعله "طنجياً"، فهو متمسك بعدم انتمائه للمدينة. وعزلته لا تتمثل في رفضه هوية معينة فحسب، وانما هي عزلة حياتية ايضاً، كما يقول مرابط وشكري والكاتب المسرحي الشاب زبير بوشتى وغيرهم. يؤكد هؤلاء ان صلة بولز بما هو خارج منزله تكاد تكون مقطوعة منذ فترة غير قصيرة. يخرج لماماً لشراء الاشياء الضرورية ليس الا. وقد يعزى هذا الابتعاد الى تقدمه في السن 81 عاماً، الا انه يضع اشارات استفهام عدة حول صدقية كتاباته عن المغرب ومعرفته اللغة المحكية بحيث يستطيع ترجمة اكثر من عشرين كتاباً من "الدارجة" المغربية الى الانكليزية. اكثر المنتقدين وقد يكون محمد مرابط اكثر منتقديه صخباً: "حافظ بولز دوماً على علاقته بحفنة من المغاربة الذين خدموا عنده مرابط يعمل حالياً طاهياً عند بولز، ولم يسع الى الاتصال بغيرهم بل كان منشغلاً في تمتين صلاته ببعض الغربيين الذين سكنوا طنجة او المغرب". بوشتى، يشير بدوره، الى تجدد "الدارجة" المستمر، فهي حالياً تختلف كثيراً عن اللجهة التي عرفها بولز في ايامه الأولى: "تخلت الدارجة، بدءاً من اواسط الستينات، عن اكثر مفرداتها الاجنبية او عرّبتها". تجربة مرابط وشكري معه تدل ايضاً على عدم المامه بپ"الدارجة": "غالباً ما اضطررنا الى ترجمة كلمات مغربية عدة الى الفرنسية او الاسبانية كي يفهم ما اردنا قوله في قصصنا". ويقول مرابط انه منكب حالياً على تلقين لأنه لا يكتب ولا يقرأ كتاب جديد عن علاقته ببولز وزوجته الكاتبة الراحلة جين بولز منذ اوائل الستينات بپ"صراحة مطلقة … قد تصعق بولز". وعلى رغم تشكيك هؤلاء بمعرفة بولز للمغرب، يفاجئك باعلانه عن تبني الواقعية في ادبه الذي كُتب معظمه عن وطن اقامته. يقول: "اريد من القصة ان تكون ممكنة احداثاً وشخصيات. انا اؤثر الواقعية على النزعات الاخرى كالواقعية السحرية وغيرها من الالوان العجائبية التي تتفشى في القصة الأوروبية الراهنة". ألهذا تكرر بعض شخصيات بولز ما سبق ان قاله في مقابلات صحافية او كتابات اخرى؟ يقول: "على الروائي ان ينقل الحياة ذاتها، ولهذا لا بد له من اتخاذ رجل او امرأة حقيقية اساساً لشخصيته القصصية. لكن شتان ما بين الاثنين، ففي نهاية المطاف تغدو الشخصية التي صاغها المؤلف مختلفة في وجوه عديدة عن الانسان الذي كان قالباً لها. ومع ان بعض ملامح زوجتي جين الحياتية كانت البذرة التي تطاولت حتى اصبحت "كيت" بطلة "السماء الواقية" فانني لا اوافق قطعاً على رؤية البعض ومنهم برتولوتشي مخرج الفيلم الذي ظهر السنة الماضية بأن احداهن كانت نسخة عن الأخرى. ولماذا يحصل هذا التباين؟ أيتعمد بولز ذلك؟ وبالتالي يتحكم بشخصياته ويرسم مسار حياتها سلفاً على النمط الدويستويفسكي؟ ام انه يتركها تعيش كما تشاء فتغدو القصة "حوارية"، حسب تعريف باختين للقصة "الديموقراطية" التي لا يتدخل بها مؤلفها؟ لا يبتهج بولز لتساؤل كهذا، فهو مقاطع، تقريباً، الصرعات الادبية او النظرية الحديثة. يبتسم، محتجاً او مستخفاً ! ويقول: "الكاتب مضطر لاعتاق بعض شخصياته والتحكم ببعضها الآخر اذا كان ينوي اضفاء نوع من التوتر الدرامي على قصته المتخيلة وكي تصبح هذه القصة قادرة على قول ما يريده الكاتب. هذه، برأي، مسلمة". ويتابع بولز معلقاً على استفسارنا عن غياب السارد بصيغة المتكلم غياباً شبه كلي في اعماله: "لا اريد ان اكون في اي منها. بقيت بعيداً عن كل قصصي، ما عدا ثلاث او اربع اخذت شكل المونولوج او الرسائل، فلم يكن هناك سبيل للتنحي بطبيعة الحال". يجب ان نعترف بالدهشة لاحتجاج بولز على النقاد الذين درسوا حياته بقدر اكبر من اعماله، فالاديب يستطيع ان يحضر في قصته اذا شاء ذلك، ولكن، لماذا يجب على الناقد ان يصدق غيابه عندما يحجم عن استعمال ضمير المتكلم؟ أليس من حق الناقد ان يرى في ضمير المتكلم ورقة التين التي يستوي وجودها وعدمه؟ فالمؤلف قادر على زرع نفسه في وسط قصته غير عابئ بحصانة النص وبأس اللغة التي تعيد طبخ صوت المؤلف ليصبح صوتاً آخر يسمعه كل قارئ بطريقة مختلفة. لا يتفق بولز مع هذا الاستنتاج، بل يؤكد: "اذا كانت لحياة المؤلف قيمة كبيرة، فهذا يعني ان كتاباته لا تستحق الاهتمام. ان الحياة الشخصية هي امور خاصة، ليس فيها ما يهم اي انسان آخر. وماضيّ الشخصي لا يعني لي انا شيئاً. لقد كان محملاً بالمعاني لحظة كنت اعيشه، اما الآن فلا اظنه ذا قيمة حتى بالنسبة لي". لا يستطيع التصنيف وبخلاف الكاتب الذي يرسم تفاصيل حكايته ويتصرف بالشخصيات بحيث تقول القصة "ما يريده الكاتب منها"، يبدو بولز عاجزاً عن اكتناه عوالمه الفنية ومسلماً بجهله معاني قصصه: "لا استطيع الفصل في تصنيف اعمالي كرومانسية او وجودية او عدمية وغيرها، لأني ارفض هذه الكليشيهات اصلاً. انا لا اعرف ماذا يعني هذا العمل او ذاك. العمل، وحده، هو المخول بالاعلان عن حقيقته". ومن مبررات ثورته على النقاد تركيز اكثرهم على حياته الحافلة التي تعرف فيها على نجوم الادب والفن: سارتر، اودن، بنجامين برتين، ايرون كوبلاند اهم موسيقار اميركي في هذا القرن، كان بولز أتى به الى طنجة في اولى زياراته وغيرترود شتاين وغيرهم. غير ان الاهتمام النقدي بأدبه بقي محدوداً من حيث الكمية ثم شح تدريجاً حتى ما يشبه الانقطاع. وبولز الانسان الذي يسيّج نفسه بعيداً عن الآخرين شبيه ببولز الاديب الذي يكاد يكون مجهولاً في اوروبا ولو ان فيلم برتولوتشي الاخير اعاده الى واجهة الاعلام لفترة ما. كان تمتع ببعض الشهرة في الماضي، بينما لم تعرفه اميركا جيداً ابداً. اما في العالم العربي فهو مجهول تماماً. ترجمت له قصتان او ثلاث الى العربية مع انه عاش في طنجة ثلثي عمره تقريباً. وقد تعجب اذا علمت ان اهم مكتبات طنجة في الشارع الرئيسي - بوليفار محمد الخامس المتخصصة ببيع الكتب الاجنبية لا تحوي اكثر من خمسة او ستة من كتب بولز التي تربو عن اربعين كتاباً بالانكليزية وحدها. حتى ان الشاب الذي يدير مكتبة فوجئ عندما طلبنا بعض كتب بولز، ولم يصدق ان هناك ناسكاً اميركياً يعيش على بعد دقائق منه منذ اكثر من خمسين سنة! بولز والشهرة وهل يطمح بولز الى الشهرة، وان كانت محدودة، في العالم العربي؟ يأتي جوابه، بلا تردد: "بطبيعة الحال أود ان اكون معروفاً لدى القراء العرب. وقد ظهرت بعض قصصي القصيرة بالعربية والآن يقوم احد المغاربة بترجمة كتاب كامل لي، وهذا من دواعي سروري". سألناه: ألا تخشى ان تثير هذه النصوص بعض الحنق، فقد أدينت في الماضي بالاستشراقية و"التشويه الحضاري" حتى ان سيدة فرنسية "عنيدة"، كما وصفتها، ترجمت مقالك القصير "مصطفى وصديقه" ووزعته على عدد من المغاربة في محاولة للكشف عن "تجنيك" واطلاقاتك التعميمية. اجاب بولز: "كانت تلك السيدة شيوعية ارادت فضح "المنهج الاميركي الامبريالي" في التعامل مع الشعوب الاخرى ولم تقصدني شخصياً. قد يكون من السهل اساءة فهم كتاباتي لأنني عدو المجاملة. الا أني لم اعمم. كنت احدد معالم شخصياتي بدقة تجعل منها افراداً لا نماذج مغربية". مع بولز تحس انك امام طيف. عزلته الحياتية والادبية تضعه خارج الزمن. غير ان مقولاته الحميمية على نمط "الشرق شرق والغرب غرب" تصبح، مع الايام، اكثر مرونة، فيعمد الى "الرأفة" في اختلافه مع الآخر الشرقي المغربي العربي/ المسلم، ويعترف بالتقاطعات الانسانية بدلاً من إفراد الحيز، كله تقريباً، للتنافرات المستحيلة. ومع اعمال بولز، انت عند كل منعطف وزاوية على موعد مع اشارة تعجب او استنكار تطلقها بسخاء. ويدهشك فيه اصراره على قول كلمته، مراراً، وكأنها ستعيد بناء هذا الهيكل المعطوب الذي لا امل بتجبيره: الحياة الخربة، كما يراها بولز، ابداً. محمد مرابط ولعل "صداقة" بولز وتعاونه مع محمد مرابط، ابرز الحكواتية المغاربة الذين ترجم لهم، هي ابرز علامات الغرابة التي تلفه. كل ما فيهما يبدو متنافراً وضدياً، مع ذلك يتعايشان، ربما بصعوبة، ويلتقيان يومياً مرتين على الاقل منذ وفاة جين زوجة بولز، عام 1972. دماثة بولز وشفافيته تظهر اكثر وضوحاً لدى رؤية محمد مرابط العادي الى درجة الفجاجة والذي ينفجر بين حين وآخر متجاهلاً، او ربما جاهلاً، أبسط قواعد اللياقة. كنا نظن ان الصحافيين الذين التقوه عند بولز تحاملوا عليه حين وصفوا صراخه والاتهامات التي وزعها غير مرة على الحاضرين. غير انه سرعان ما وقف في وسط الغرفة اثناء حديثي مع بولز، وألقى خطبة طنانة، بفرنسية واسبانية مشوهتين، وكانت في مجملها ضدنا من دون اي معرفة سابقة او "مبرر". حينما زرناه في بيته في اليوم التالي، كان من دون شك اكثر هدوءاً، ما جعلنا نعتقد اننا لم نكن مستهدفين من صراخه، فكلما اراد البارحة مجرد احراج بولز وافساد جلسته مع ضيف آت من بعيد. وتأكد هذا الظن خلال جلستنا الطويلة، حيث كان بولز بطل الحوار: استغلاله لمرابط مادياً، انانيته وعزلته بين الكتاب وغيرهم، مسؤوليته عن شذوذ زوجته جين ومرضها ثم موتها وعدم صحة معظم ما قاله بولز عن هذه الموضوعات، وغير ذلك… مرابط قادر على اثارة دهشتك بتناقضاته الرائعة، ومتمكن من الظهور بمظهر الغاضب او الهادئ. عداؤه العاطفي البسيط لليهود يعلن عنه بمهرجانية بالغة، وذلك لم يمنعه من الاعجاب بجين بولز التي ولدت يهودية "جين اعظم صديقة. عرفتها اولاً وهي قدمتني للبقية، بمن فيهم بول. استجبت لرغبتها بالبقاء مع بول على رغم خلافاتنا الحادة. ولو كان اليهود كلهم مثل جين الطيبة الكريمة لكانت الدنيا بألف خير". كلمة "الكريمة" وصفة "الكرم" هنا اساسية، وربما كان حرص بولز، على حد زعم كاتب سيرته على الاقل، سبباً لنفور مرابط منه. فهذا الاخير يتخذ بالتأكيد من "الكرم" معياراً مهماً للجميع. فخلافه مع المخرج المغربي مومن السحيمي، الذي اعد عن قصة مرابط "المرآة الكبيرة" فيلما سمّاه "قفطان الحب"، هو خلاف على الاجر اذ كان في رأيه ضئيلاً. ومن "عجائب" مرابط تبادله "رسائل كثيرة مع هنري ميللر" مع انه امي. وهو يفخر بشهادة ميللر انه "كاتب افضل قصص افريقية قرأها". ويتابع الحديث عن اسماء لامعة اخرى منها "تينسين" ويليامز المقصود، طبعاً، تينيسي الذي عرف مرابط عن قرب واستضافه في نيويورك، وكذلك ايليا كازان الذي اجتمع به هناك وعرض عليه دوراً سينمائياً. محمد شكري مع محمد شكري، صاحب "الخبز الحافي"، انت في فضاء مختلف، ترى وجهاً آخر للأدب الطنجي. لا يتمنع محمد شكري عن الاجابة عن تساؤلاتك كلها بحرارة وعفوية، وتلتقي عنده فنان الكتابة وفنان الحياة المطلع الذي يعرف صنعته ورموزها. يلقي عليك شيئاً من جينيه وسارتر وبودلير الخ… ثم يستحضر الشطار والصعاليك وغيرهم من العصاة شهوداً. وشكري، كهؤلاء، خارج عن سلطة الموروث وسلطة النص، يجاهر بتمرده ويشترط في البداية ان تتصدر الحوار، لدى نشره، عبارة "الشعراء أخلد من الحكام" بالخط العريض. توافق بعد ان تعبت في البحث عنه في طنجة التي يسعده ان يعرف"كل تفاصيلها بناسها وقططها". لكنها غلطتك، فقد حاولت اصطياده نهاراً وهو الليلي "صديق الليليين" الذين توجه اليهم في مطلع الجزء الاول من سيرته "الخبز الحافي". كان "الخبز الحافي" طليعة في فن المشاغبة وفي الكتابة الذاتية، حذا حذوه بعض ممارسيها المغاربة والعرب. الا ان شكري قدم اعترافاته بلسان فرنجي، فقد ظهرت سيرته بالانكليزية والفرنسية قبل توفرها لبعض قراء العربية بعشر سنوات، ولا يزال الكثير من الابواب العربية موصداً دونه، بطبيعة الحال. لكن، اين هم "الليليون" اصدقاء شكري في "الخبز الحافي" وفي اعماله الاخرى، من القارئ الانكليزي والفرنسي؟ وهل يقبل تهمة "تعمد الاثارة" والسحر والغرابة والعنف "الشرقية" لتسلية الغربي وادهاشه؟ يتململ في جلسته، وكأنه يستعد للدخول في حوار حاسم. تنفرج اساريره، فتدرك ان سؤالك لم يكن زلة ستندم عليها، ويقول، كمن سئم صراحته المثيرة: "انا لا اكتب لأي قارئ… اكان عربياً أم اجنبياً! كتابتي تلقائية، وليست تحت الطلب. الدكتور علي الراعي، مثلاً، وصف كتابتي "الشطارية" اي سليلة كتابات الشطار والعيارين بأنها منعطف في فن الكتابة الادبية العربية لانها عفوية. اعمالي الاولى كانت ناقدة اجتماعياً وانا انتمي لطبقتي المسحوقة لا انكرها. وهذا يفسر اهتمامي بالمهمشين الاميين. هؤلاء هم شخصياتي. غير اني لا اجاملهم. احاول فضح مباذلهم ايضاً لأن اسوأ ما في هذه الطبقة خصوماتها كما قال سارتر. بعد هذا الاستطراد، اقول ان كتاباتي "الشطارية" لا ترحم حتى الشطار انفسهم ولا تعرف حداً لتلقائيتها فهي لا تستحق ان تسمى بپ"الافتتانية" Exotic لأنها لا تصالح احداً ولا تفتنه. وبخلاف الادب "الارضائي" الذي قدمه بول بولز مثلاً، تسعى كتاباتي الى تحليل الواقع ومن يعيشه على سبيل اضاءة جوهر المشكلة التي تتناولها، بدلاً من تقديم المشكلة كنتيجة جذابة بقتامتها او ببريقها". الا ان التحليلية هي آخر ما ينسب الى اعمال محمد شكري التي تتسم بالفجاجة، في رأي بولز الذي يبارك هذا التوجه، او بعرض الشيء قبل الكلمة التي تعبر عنه، على حد تعبير الناقد المغربي محمد برادة الذي لاحظ "غياب محور الفئات الاساسية في علائقها الجدلية مع الهامشيين". لكن ما الذي يجعل التحليل شرطاً لنجاح العمل الادبي؟ أهناك تحليل اقوى من الفضح؟ في اطلاق هذا التعبير، يبرز الجانب الآخر الشفاف، للأديب محمد شكري الذي اضطر، بطبيعة الحال، الى تعلّم الخطاب النقدي الشائع في حينه عندما كان في بداياته. وقد تكون "التحليلية"، التي يجافيها في كتاباته، واحدة من رواسب طوره الاول، حينما كانت هذه المفردة في عرف الواقعيين الاشتراكيين مرادفة لپ"التلقينية". انتماء هذه "التحليلية" الواقعية لمرحلة ماضية يتبدى بوضوح اكبر لدى اعلان محمد شكري تخليه عنها في اعماله الاخيرة: "كتبت "الخبز الحافي" بمعدتي!… كان انتقاداً لمن خسروني قبل ان اخسرهم. كتبته باسم المشردين المبعدين عن التاريخ الرسمي. الجزء الثاني من سيرتي الذاتية، والذي سيصدر قريباً عن دار "الساقي" بلندن، مختلف جذرياً من حيث ادواته وتشكيله الفني. فهنا تحتل الاستيحاءات، الادب، الخواطر الفلسفية المكان الارحب". التحول في رؤية العالم الخارجي من خلال الواقعية "التحليلية" الى ماقد نصطلح عليه بالواقعية الشعرية ترافق مع تغير آخر يضاف الى توظيف ادوات واسلوب فني جديد: نضوج فني تجسد في الخروج من عالم الآخرين والدخول في عالم خاص. نوادر شكري ومن نوادر محمد شكري انه وجد نفسه، اخيراً ومن دون سابق انذار "غنياً وأمواله الدنانير". تغطي الابتسامة وجهه، ويمج سيجارته العاشرة ربما، كمن يتنفس الصعداء قبل ان يقول: "ذهبت الى المصرف لأخذ بعض المال، قلت لنفسي: لماذا لا تتأكد من ان تلك الحفنة الضئيلة لا تزال في حوزتك، وحسناً فعلت. لم اصدق اول الامر المبلغ الكبير مؤلف من ارقام الذي زعمت الموظفة انني املكه وهل اصبحت غنياً بطرفة عين؟ هرعت الى صاحبي المدير الذي اكد لي بخبث ان الحلم حقيقة فعلاً. واكتشفت، لاحقاً، ان شركة سينمائية ايطالية دفعت هذا المبلغ لقاء تصويرها، الذي يجري حالياً كما أظن، "الخبز الحافي" فيلماً سينمائياً. محمد شكري عبّ من التراث العربي، وخصوصاً من اصحابه "الشطار والعيارين" والكتابات الاخرى وهو يعيد عليك بعض اسمائها وشذرات منها، لكنه يعتبر تقنياته الاسلوبية غربية المنشأ، وأهمها "الجملة القصيرة" التي تظهر كتعارض حاد مع الجملة العربية الطويلة. يقول في ثقة واضحة: "قبل 25 سنة تأثرت بسارتر وسيمون دي بوفوار وجان جينيه، على سبيل المثال. الا اني تخلصت من التأثير، واحتفظت بالاعجاب. لقد صغت اسلوبي الخاص". تودع شكري، مضطراً، للحاق بالقطار الذاهب الى الداخل المغربي بعيداً عن طنجة الهجينة - الاصيلة. تمضي والاسئلة، التي لم يسمح بها الزمن لا تزال تصطفق في رأسك لأن شكري في خبزه الحافي، كسر الصمت بحيث غدا المهموس جهيراً. محمد شكري: زيارة "أربعة أسرّة، مريضة واحدة طريحة الفراش قرب سرير امي. فتاة تحمل جمالها في مرضها. جمال المسلولات: وجنتاها موردتان. وضعت على الطاولة الصغيرة طرد الفواكه وبست رأس امي ثم جلست على مصطبة صغيرة مستديرة بيضاء، قرب سريرها. - هذه هي الآنسة "الغالية" التي كتبت لك الرسالة لكي تجيء. شكرت الانسة الغالية وتباسمنا. احمرت وجنتاها وسعلت عدة مرات بخجل. لا بد ان تكون قد درست عند اخوات الاحسان حتى تكتب بذلك الخط الجميل. اخبرت امي عن زيارتي لاخوتي. لم اذكر لها ما حدث لي معه. ذكرت لي انهم لا يسمحون هنا للأطفال ان يعودوا ذويهم. لم تكن تعودها سوى ارحيمو التي كبرت. يعودها، احياناً، جارنا عبدالحميد صحبة زوجته، اما هو فلم يعدها قط. سعلت الغالية عدة مرات بحدة. بدا عليها الانفعال. تناولت ملعقة من قنينة صغيرة. البرد يغزو الحجرة من النافذة المفتوحة. قالت امي: - لا بد ان تبقى مفتوحة حتى ولو كان الثلج يتساقط ليتجدد الهواء. نتغلب على البرد هنا بالأغطية اللازمة. ذكرت لها نجاحي في الشهادة الابتدائية. انفعلت فرحاً ثم دمعت عيناها وسعلت . سعلت ايضاً الغالية. لا بد اني ذكّرتها بدراستها. - هل رأيت أباك؟ - نعم، فرح بنجاحي في الدراسة. كنت اعرف ان اختي ارحيمو ستقص عليها كل ما فعله معي، لكن سيكون يوم آخر. دخلت امرأة وجلست على حافة سريرها. قالت لها امي: - هذا هو محمدي ثم سعلت. تباسمت مع المرأة وحييتها. الألم يتجمد هنا في كل الابتسامات المغتصبة، والكلمات المتقضبة والحركات التي سريعا ما تفتر. قلت لأمي. - البرد لا بد ان يكون قاتلاً هنا في الليل. - يغلقون شباك اللوح. الهواء ينبغي ان يبقى دائماً نقياً. وعدتها ان ازورها قبل ان اعود الى العرائش. تغديت مع الزهرة وحيداً. قالت: يحدث له كثيراً الا يأتي للغداء او للعشاء. قد يكون الآن يعلب الورق". مقطع من رواية محمد شكري الجديدة "الشطّار" التي تصدر قريباً عن دار الساقي في لندن