لم يظفر أديب أو شاعر تونسي من الاحياء والاموات بمثل ما ظفر به أبو القاسم الشابي 1909 - 1934 من تكريم وعناية واهتمام به شاعراً وانساناً. ففي ذكرى مرور 50 عاماً على وفاته وكان ذلك عام 1984، اصدرت الدار التونسية للنشر اعماله الكاملة في مجلدين انيقين احتويا بالاضافة الى ديوانه "اغاني الحياة" على محاضرته الشهيرة "الخيال الشعري عند العرب" التي القاها في مدرسة الخلدونية عام 1929، وعلى الرسائل التي تبادلها مع الأديب والناقد القيرواني محمد الحليوي وعلى مذكراته. وقبل نحو ثلاث سنوات، اقيم للشاعر ضريح من طراز معماري رفيع في مدينة توزر، مسقط رأسه. والعام الماضي، اصدرت وزارة الثقافة التونسية مجدداً وبالتعاون مع مؤسسة البابطين، الاعمال الكاملة لأبي القاسم الشابي مضيفة اليها كل ما كتب عنه من دراسات وبحوث نقدية. الشاعر عبد نفسه وهذا العام، وضمن سلسلة "عناصر"، اعادت دار سيراس التونسية اصدار مذكرات الشابي. وفي نص المقدمة المخصصة لهذه الطبعة الجديدة التي جاءت على شكل كتب الجيب الغربية، كتب الناقد التونسي لطفي اليوسفي يقول بأن الشابي "أقام في السفر والترحال... طفولته كانت مشظاة بين الامكنة والاقاليم والمناخات". فقد ولد الشاعر في توزر الجنوب التونسي لكنه بسبب عمل والده الذي كان قاضياً، امضى طفولته متنقلا بين مدن مختلفة في المناخ وفي الطبيعة وفي العادات والتقاليد. ويقول لطفي اليوسفي بأن هذه الهجرات بين المدن والامكنة "اورثت الشابي احساسه العاتي بالضياع واليتم، بالغربة والفقد". ويبدو هذا واضحاً في نص مذكراته بتاريخ الاربعاء 1/1/1930 حيث يقول بنبرة حنين جارفة: "ها هم اصدقاء طفولتي الذين عرفتهم في بلدان كثيرة... ها هم يتراكضون بين المروج الخضراء يجمعون باقات الشقيق والاقحوان. ثم يتسلقون الجبال متتبعين اعشاش الطيور الصيفية، ثم ها هم جالسون على ضفاف الانهار الجميلة الصادرة يبنون بين الرمال. بيوتاً مسقوفة باعشاب الحقول. ثم ها هي الريحانة الجميلة... ها هي تنظر اليّ بعينيها الجميلتين الحالمتين باحلام الملائكة. ثم ها أنا انظر فلا أجد شيئاً. لقد احتجبوا عني حتى الابد وبقيت وحدي. لقد ذهبوا كلهم وبقيت هنا وحدي أنا في وحدتي وانفرادي". ويصف لطفي اليوسفي الكتابة عند ابي القاسم الشابي بانها كانت "حدث انشقاق وفعل وجود". لذا كان حريصاً منذ البداية على ان يقي نفسه من التشابه مع الآخرين ذلك ان التشابه هو عدو للشعر وللخلق بصفة عامة. وها هو يعلن في مذكراته مخاطباً نفسه في نبرة طافحة بالتحنان على الذات: "أنا شاعر. وللشاعر مذاهب في الحياة تخالف قليلا أو كثيراً مذاهب الناس فيها. أنا شاعر. والشاعر عبد نفسه، وعبد ما توحي اليه الحياة. أنا شاعر، والشاعر يجب ان يكون حراً كالطائر في الغاب والزهرة في الحقل والموجة في البحار...". ولأن الشعر كف عن كونه مجرد صناعة ونظم وأصبح فعل وجود، فان الشابي يعلن بحزم: "لقد اصبحنا نتطلب حياة قوية مشرقة ملؤها العزم والشباب. ومن يطلب الحياة فليعبد غده الذي في قلب الحياة. اما من يعبد أمسه وينسى غده فهو من ابناء الموت وانفاء القبور الساخرة". ويعلق اليوسفي: "ان الكتابة عند الشابي تدفع بالكلمات عميقاً داخل منطقة الخطر. فلا صناعة ولا زخرف ولا تفنن: ان الكتابة تعود بالكلمات الى بداياتها أيام كانت تسمي الموجودات والكائنات دون التجاء الى الزخرف والصنعة". لم يقتصر أبو القاسم الشابي على كتابة الشعر، بل نظر اليه من خلال محاضرة عميقة المحتوى، بديعة الافكار حملت عنوان: "الخيال الشعري عند العرب". وقد هوجم الشابي بشدة وضراوة بالغين بسبب هذه المحاضرة، وتضاعف عدد اعدائه والمناوئين له، فتفاقم احساسه بالغربة ازاء ثقافة تقوم على الثوابت وتكره السؤال. ثقافة تحن الى الماضي وتخاف مواجهة الحاضر والمستقبل. الاحساس بالغربة والموت ولعل هذا الاحساس الحاد بالغربة والوحدة، هو الذي دفع الشابي الى كتابة مذكراته رغم ان هذا اللون الادبي - اي المذكرات - كان مجهولاً في تونس في ذلك الوقت. غير ان هذه المذكرات سوف لن تدوم الا قليلا عشرون مذكرة تؤرخ لوقائع عشرين يوماً من أيام شهر جانفي/ يناير 1930، ومذكرتان فحسب في شهر فبراير/ شباط من العام ذاته. ويضفى على هذه المذكرات احساس بالضجر والوحدة والتشاؤم. ففي المذكرة الثانية، يكتب الشابي: "هل في الحياة غير السخف. استعرض حوادث هذا اليوم لعلي اجد فيها ما يستحقه الذكر والتعليق، فلا أجد شيئاً يلفت الانتباه، وانما هي حوادث سخيفة عادية". وفي المذكرة السابعة، يكتب: "اشعر الآن انني غريب في هذا الوجود وانني ما أزداد يوماً في هذا العالم الا وازداد غربة بين ابناء الحياة وشعور بمعاني هذه الغربة الاليمة... الآن ادركت انني غريب... يئست". لكن برغم قصرها، ترسم لنا هذه المذكرات صورة حية عن الحياة الثقافية في تونس مطلع الثلاثينات، وتعدنا بمعلومات قيمة عن الصراعات التي كانت تدور في الكواليس الثقافية في ذلك الوقت. ففي مذكرة 5/1/1930، يحدثنا الشابي عن واحد من مدعي الشعر، يصفه بانه "من طائفة الموظفين التي لم نعرف عنها الا انها اشباح خشبية في موكب الاستعمار العظيم". وقد اخرج هذا "الشاعر" من جيبه ورقة كبيرة من ذلك "النوع الفخم الانيق" وراح يتلو على الشابي "في صوت تعبث به غنة الطرب والاعجاب، ورأسه يترنح ذات اليمين وذات الشمال، ووجهه يطفح بشراً وعيناه ضاحكتان" خطبة ركيكة الاسلوب، مصطنعة الافكار والمعاني" فلما انتهى منها، لم يتردد الشابي في ان يقول له: "انك بعملك هذا تهين كرامتك وقلمك وقريحتك". الشيء الآخر الذي يمكننا ان نضيفه في النهاية هو ان هذه المذكرات تبدو وكأنها تعكس احساس الشابي بالموت. ذلك الموت الذي سوف يطبق عليه بجناحيه الاسودين عقب أربعة أعوام من كتابة هذه المذكرات .