نحن في العام 1936. كان ابو القاسم الشابي رحل قبل عامين عقب صراع مرير مع مرض القلب وهو لم يتعدّ سن الخامسة والعشرين من عمره. وفي مقهى "تحت السور" الواقع في باب سويقة بقلب العاصمة التونسية، كانت هناك جماعة من الأدباء والفنانين تمضي لياليها ونهاراتها في الشراب والسجال حول امور شتى، وخصوصاً حول ضرورة تجديد الأدب والفن. جميع هؤلاء من عائلات فقيرة او متوسطة الحال، طردوا من المدارس مبكراً لسوء سلوكهم، أو هم تركوها اختيارياً لانها لم تستجب لرغباتهم وأحلامهم. بعدها هجروا العائلات، وتمردوا على قيم المجتمع وعلى الثقافة السائدة، وانزووا في ركن ذلك المقهى الشعبي ليعيشوا حياة يغلب عليها التهتك والفوضى. بين هؤلاء علي الدوعاجي، رائد القصة التونسية والذي يعتبر أثره القصصي الوحيد: "سهرت منه الليالي" واحداً من أروع الاعمال القصصية في الأدب التونسي الحديث، ومحمد العريبي الذي عاش حياة متقلّبة انتهت بانتحاره في باريس مطلع العام 1946. وكان هناك آخرون يكتبون الاغاني والمسرحيات، ويترجمون بودلير ورامبو والفريد دي موسيه وجي دي موباسون. جميع هؤلاء سيموتون مبكراً وبأمراض مستعصية بسبب نمط الحياة التي اختاروها لأنفسهم. في هذا العام، عام 1936، وفي حيّ من اجمل احياء المدينة العتيقة، وفي عائلة متوسطة الحال، ولد عز الدين المدني الذي سيلعب في ما بعد دوراً ريادياً في الأدب التونسي الحديث. على عتبات سنّ العشرين، يشرع الفتى عز الدين في ارتياد الحلقات الأدبية التي كانت كثيرة في ذلك الوقت، فيتعرف إلى القاص والروائي البديع البشير خريف ويرتبط معه بصداقة حميمة، ويعثر على من تبقوا من جماعة مقهى "تحت السور" فيطلعونه على آثار من رحلوا من امثال علي الدوعاجي، فينبهر بها، ويزداد تلهفاً للاطلاع على المجهول والغامض منها: "اعتقد ان "جماعة تحت السور" لعبوا دوراً مهماً وأساسياً في تحديث الأدب التونسي. لقد كانت حياتهم صعبة وقاسية. ولعل هذا هو الذي منعهم من ابداع أعمال ترقى الى مستوى احلامهم وطموحاتهم. مع ذلك، انا أرى ان الآثار القليلة التي تركوها، والتي جمعت عقب وفاتهم بسنوات طويلة، تدل دلالة قاطعة انهم كانوا ملمين بالمفهوم الحقيقي للتحديث. وانا اعتبر ان مجموعة "سهرت منه الليالي" لعلي الدوعاجي عملاً فريداً ومتميّزاً". نهاية الخمسينات، عاد الى تونس مثقف قدير يدعى فريد غازي كان درس في السوربون، وارتبط بالسورياليين، بل انه التقى اندريه بروتون اكثر من مرة. حال عودته، يلتفّ حوله بعض الادباء والشعراء الشبان. وكان عز الدين المدني احد هؤلاء: "كان فريد غازي مثقفاً حديثاً بأتمّ معنى الكلمة. كان يمتلك اطلاعاً واسعاً على مختلف التجارب والتيارات الأدبية والفنية في الغرب. اضافة الى كل هذا، كان له المام كبير بالرسم وبالموسيقى. وكان مختلفاً اختلافاً كلياً عن اولئك الذين يعودون من باريس بشهادات عالية. ففي حين كان هؤلاء ينفرون من ارتياد الحلقات الأدبية خوفاً على مكانتهم ومناصبهم، كان فريد غازي لا يتردد مطلقاً في الجلوس في احقر مقهى للاستماع الى ما يقوله شاعر ناشئ أو أديب هامشي بالكاد يجد قوت يومه. لذا انا لا أتردد في القول بأنني أدين بالكثير لفريد غازي". لكن فريد غازي يموت فجأة وهو في ريعان الشباب في شقته الصغيرة بشارع القاهرة ومن دون ان يتمكن من انجاز مشروعه النقدي الذي كان يشغله منذ عودته من باريس، فيصاب الأديب الشاب عز الدين المدني بخيبة مرة، ويعيش اشهراً طويلة تحت وطأة حزن عميق: "كانت وفاة فريد غازي خسارة خاصة بالنسبة إلينا نحن الأدباء الشبان ذلك انه عاضدنا ووقف الى جانبنا، ووسّع الطريق امامنا، وشحننا بعزيمة قوية في فترة كان البعض منا يعاني من الاحباط واليأس والمرارة". مطلع الستينات يسافر عز الدين المدني الى باريس. وكانت لهذه السفرة فوائد كثيرة اذ انها اتاحت له الاطلاع عن كثب على التجارب الكتابية في فرنسا وخصوصاً على تجارب جماعة "الرواية الجديدة" من امثال كلود سيمون وآلان روب جرييه وناتالي ساروت. أواسط الستينات، تختار تونس المنهج الاشتراكي، ويعيّن بورقيبة السياسي الشاب احمد بن صالح على رأس وزارات عدة، بينها وزارة الاقتصاد الوطني. ولأن أحد الشعارات المرفوعة في ذلك الوقت كان يؤكد على ضرورة فتح الابواب امام الاجيال الشابة، فان عز الدين المدني يعيّن مشرفاً على "الملحق الثقافي" الذي كانت جريدة "العمل" الناطقة باسم الحزب الحاكم شرعت في اصداره. وسرعان ما يصبح هذا الملحق صوت الأدباء والشعراء والنقاد الجدد. على صفحاته تنشر اكثر القصائد والقصص جرأة سواء كان ذلك في مجال الشكل او المضمون. وشيئاً فشيئاً، يتحول الملحق المذكور الى حقل تجريب لحركة ادبية جديدة اطلق عليها عز الدين المدني اسم "الطليعة" وحدّد مفاهيمها للأدب والفن واللغة في كتاب اسماه: "الادب التجريبي" وفيه كتب يقول: "اقول للمرة الألف ان الأدب والفن التجريبي ليس بأدب تخريبي ولا بفن تهديمي، وانما هو أدب بناء، وفن تشييد. لقد نعته الخصوم بالتخريب والتهديم، والتدمير لأنه زلزل فيهم مفاهيم ثقافية وفكرية وأدبية باتت في صدورهم بلا معنى، ولا هدف، فصارت بحكم ذلك في عداد الكليشيات الحضارية المتعفنة. ان المبادئ الاساسية التي يعتمدها الأدب التجريبي هي رفع الحواجز الفكرية التي ظلت تهيمن على القرائح والمواهب طيلة سنوات، وتعطلها من سيرها نحو الخلق، وتبعث فيها عقد النقص ومركبات الاحتقار الذاتي". في عام 1968، يصدر عز الدين المدني مجموعته القصصية الأولى خرافات تعكس رؤيته الطلائعية لفن السرد، وللغة السردية. كما تعكس التحوّلات التي عرفها المجتمع التونسي بعد حصول البلاد على استقلالها عام 1956. وتمثل "خرافات" علامة هامة في القصة التونسية تماماً كما هي الحال بالنسبة إلى "سهرت منه الليالي" لعلي الدوعاجي و"مشموم الغل" للبشير خريف. وهي الى حد الآن مصدر أساسي بالنسبة إلى كتاب القصة الطلائعيين في تونس: "اول شيء شغلني في مجموعة "خرافات" هو: كيف وبأية لغة سأكتب عن فوضى المدينة العتيقة، وعن انهيار القيم القديمة، وعن التحولات التي عرفها المجتمع التونسي عقب الاستقلال. وقد سعيت في جميع قصص المجموعة الى ان تكون لغتي ملتصقة بالواقع، عاكسة لنبضاته وفوضاه ومعاناته. ان اللغة في السرد مسألة اساسية للغاية. والكثير من كتاب القصة والرواية في العالم العربي يهملون هذا الجانب اهمالاً شديداً. لذا تأتي أعمالهم انشائية ومبتذلة. مرة قلت لنجيب محفوظ في القاهرة: انت في معظم رواياتك تتحدث عن القاهرة، وعن حياتها، وأناسها. غير انني لا أشعر ان اللغة التي تكتب بها تعكس فوضى هذه المدينة، واجواءها. ان لغتك تبدو متزنة وهادئة بينما حياة القاهرة صاخبة ومجنونة. نعم قلت هذا لنجيب محفوظ في زيارتي الأولى له غير انه لم يرد على ملاحظتي. واكتفى بالابتسام". أواخر الستينات، تنهار التجربة الاشتراكية في تونس، ويحاكم احمد بن صالح بتهمة الخيانة العظمى. ينقطع ملحق جريدة "العمل" عن الصدور وتدخل البلاد مرحلة الليبيرالية الاقتصادية وذلك بعد ان عيّن بورقيبة الهادي نويرة وزيراً للاقتصاد. في هذه الفترة، ينشر عز الدين على صفحات مجلة "الفكر" التي كان يديرها محمد مزالي نصّاً روائياً يحمل عنوان "الانسان الصفر". وهو هذيان رجل في فوضى مدينة تعاني من الاستلاب والازدواجية اللغوية. وسرعان ما يثير هذا النص حفيظة بعض المؤسسات الرسمية، فتنقطع مجلة "الفكر" عن اصدار فصوله المتبقية. وحتى هذه الساعة، لم يتمكن عز الدين المدني ل "اسباب خارجة عن طاقته" من اصداره كاملاً. مطلع السبعينات، يتحول اهتمام عز الدين المدني الى المسرح، فيكتب "ديوان الزنج" المستوحى من ثورة الزنج في العصر العباسي. وقام المخرج القدير منصف السويسي باخراج هذه المسرحية التي كانت علامة بارزة في تاريخ المسرح التونسي ذلك انها فتحت باباً جديداً لن يلبث ان يغزو بلداناً عربية اخرى الا وهو استلهام التراث لقراءة الواقع العربي الجديد مسرحيّاً. نالت مسرحية "ديوان الزنج" اعجاب الجمهور، وأصبح عز الدين المدني بفضلها واحداً من اكثر كتاب المسرح العربي طلائعية وتميّزاً: "اثناء قراءاتي للتراث وأنا شاب، انشغلت بمسألة الاستفادة من هذا التراث ابداعياً. ويمكن ان نعثر على ملامح من تأثري بالتراث في مجموعتي "خرافات"، غير ان هذا التأثر اصبح اكثر وضوحاً في مسرحية "ديوان الزنج" وفي المسرحيات التي كتبتها لاحقاً". بعد "ديوان الزنج"، كتب عز الدين المدني "رسالة الغفران" المستوحاة من رائعة ابي العلاء المعري الشهيرة. وقام المخرج المغربي الطيب الصديقي باخراج هذه المسرحية التي دعمت مكانة عز الدين المدني في مجال الكتابة المسرحية، واكدت قدرته البديعة في جعل التراث العربي القديم حيّاً من خلال المسرح. ولا يزال عز الدين المدني الذي احتفل بعيد ميلاده الستين العام الماضي يواصل نشاطه الابداعي بثبات وحزم .