ديفيد لوبين: سياسات ترمب ستحول الدولار مصدراً للاضطراب العالمي    زيلينسكي يفضل الحلول الدبلوماسية.. ومجموعة السبع تهاجم روسيا    حول العالم    "وادي السلف".. فعاليات ومعارض وفنون    أمير تبوك يطمئن على صحة الضيوفي    «إنسان».. خمس جوائز وتأهل للعالمية    المملكة تقدم مساعدات إنسانية وإغاثية ب133 مليار دولار ل170 دولة    تحقيق يكشف الدهاء الروسي في أوكرانيا    ضبط 20124 مخالفاً لأنظمة الإقامة والعمل    "ديوان المظالم" يقيم ورشة عمل لبوابة الجهات الحكومية    إحباط تهريب (32200) قرص خاضع لتنظيم التداول الطبي في جازان    المملكة تتسلم رسميًا استضافة منتدى الأمم المتحدة العالمي للبيانات 2026 في الرياض    التواصل الحضاري ينظم ملتقى التسامح السنوي    فتح باب التسجيل في جائزة فيصل بن بندر بن عبدالعزيز للتميز والإبداع    ختام مسابقة القرآن والسنة في غانا    خطيب المسجد الحرام: احذروا أن تقع ألسنتكم في القيل والقال    إمام المسجد النبوي: استبصار أسباب الفلاح يؤدي إلى السعادة    المؤتمر الوزاري لمقاومة مضادات الميكروبات يتعهد بتحقيق أهدافه    تدريبات النصر: بيولي يستدعي 12 لاعبًا شابًا    إعلان برنامج انتخابات الاتحادات الرياضية 2024 – 2028    اتحاد القدم يحصل على العضوية الذهبية في ميثاق الاتحاد الآسيوي لكرة القدم للواعدين    أخضر الشاطئية يكسب الصين    74 تشكيليا يؤصلون تراث وحضارة النخلة    توقيع مذكّرة تفاهم بين السعودية وتونس لتشجيع الاستثمار المباشر    سباليتي يثني على الروح الجماعية لمنتخب إيطاليا    ضبط يمني في الدمام سكب الأسيد على آخر وطعنه حتى الموت    الزفير يكشف سرطان الرئة    تطوير الطباعة ثلاثية الأبعاد لعلاج القلب    القهوة سريعة الذوبان تهدد بالسرطان    قوافل إغاثية سعودية جديدة تصل غزة    مسلح بسكين يحتجز عمالاً داخل مطعم في باريس    أسرتا نور وفدا تتلقيان التعازي في فقيدتهما    أمير الباحة يكلف " العضيلة" محافظاً لمحافظة الحجرة    فيغا: الدوري السعودي يُشبه «الليغا».. وأشعر بالسعادة مع الأهلي    حسن آل الشيخ يعطّر «قيصرية الكتاب» بإنجازاته الوطنيّة    الأحساء وجهة سياحية ب5 مواقع مميزة    «هلال نجران» ينفذ فرضية الإصابات الخطيرة    خطأ في قائمة بولندا يحرم شفيدرسكي من المشاركة أمام البرتغال بدوري الأمم    برامج تثقيفية وتوعوية بمناسبة اليوم العالمي للسكري    إعلان أسماء الفنانين المشاركين في احتفال نور الرياض 2024    المواصفات السعودية تنظم غدا المؤتمر الوطني التاسع للجودة    بيان سعودي فرنسي عن الاجتماع الثاني بشأن العُلا    الأربعاء المقبل.. أدبي جازان يدشن المرحلة الأولى من أمسيات الشتاء    تطبيق الدوام الشتوي للمدارس في المناطق بدءا من الغد    «سلمان للإغاثة» يوزّع 175 ألف ربطة خبز في شمال لبنان خلال أسبوع    المربع الجديد استعرض مستقبل التطوير العمراني في معرض سيتي سكيب العالمي 2024    مصرع 10 أطفال حديثي الولادة جراء حريق بمستشفى في الهند    وظائف للأذكياء فقط في إدارة ترمب !    تركيا.. طبيب «مزيف» يحول سيارة متنقلة ل«بوتوكس وفيلر» !    منع استخدام رموز وشعارات الدول تجارياً في السعودية    مركز عتود في الدرب يستعد لاستقبال زوار موسم جازان الشتوي    لجنة وزارية سعودية - فرنسية تناقش منجزات العلا    الأمير محمد بن سلمان.. رؤية شاملة لبناء دولة حديثة    وزير الحرس الوطني يستقبل وزير الدفاع البريطاني    خالد بن سلمان يستقبل وزير الدفاع البريطاني    أمير تبوك يطمئن على صحة مدني العلي    البصيلي يلتقي منسوبي مراكز وادارات الدفاع المدني بمنطقة عسير"    إضطهاد المرأة في اليمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الكويت تخرج من عنق الزجاجة
نشر في الحياة يوم 09 - 06 - 1997

أعاقت وصولنا الى منزل أحد الأصدقاء في الكويت ورشة أشغال كانت منهمكة برصف أحد الشوارع، وهو آخر شارع يعاد تأهيله من بين الشوارع التي حفرتها الدبابات العراقية يوم غزوها الكويت. انهم يزيلون آخر الآثار المادية للاحتلال، وينطلقون منها أيضاً في محاولة لمحو الآثار النفسية لهذا الاحتلال. لقد سبب الغزو معاناة نفسية وسياسية خلفت ندوباً في البلد لعل أبرزها وجهات النظر المتضاربة، سواء في معالجة الشؤون الداخلية أو في بناء سياسة خارجية واضحة المعالم، تتعلم من دروس الماضي من دون أن تكون أسيرة القريب منه، لتنطلق نحو ما يحفظ الوحدة والمصالح العليا بعيداً عن المكاسب الآنية التي تنافس بعض الحكومة ومجلس الأمة وتجمعات سياسية في التسابق عليها طوال السنوات السبع الماضية بعد تحرير البلاد.
إنها نهاية المرحلة الانتقالية بعد التحرير. فالكويت تحاول الخروج من عنق الزجاجة، لتتلمس نهجاً جديداً في إرساء علاقات داخلية - خارجية متوازنة لم يفرضها غياب ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الشيخ سعد العبد الله الذي يمضي فترة نقاهة خارج البلاد، بقدر ما فرضتها المتغيرات في المنطقة من اليمن إلى إيران ومن مصر إلى سورية فكردستان، وإن بدا أثر هذا الغياب في إدارة جديدة أكثر حسماً وديناميكية في معالجة الشؤون الحكومية على يد رئيس الحكومة بالنيابة وزير الخارجية الشيخ صباح الأحمد الصباح. ويتجلى النهج الجديد في مظاهر عدة أبرزها إعلان الشيخ صباح طي صفحة مصطلح "دول الضد"، والدعوات إلى إقامة علاقات مع الشعب العراقي تكرس نهائياً التخلص من عقدة صدام حسين. ومن صور النهج الجديد: قيام تجمع وطني ديموقراطي يرفد الساحة المحلية بقوى بدت في السنوات الأخيرة على هامش الحياة السياسية التي طغى عليها الصوت العالي للمتشددين الدينيين. والدعوات إلى تغيير حكومي. والتوجه نحو حسم قضايا كانت ولا تزال تشكل قنابل موقوتة للأمن الاجتماعي مثل قضية "البدون". والتحرك النشط للحياة الاقتصادية تترجمه الأرقام القياسية التي سجلتها بورصة الكويت في الأسبوعين الماضيين، إلى حد جعل بعضهم يتخوف من هذه الظاهرة وهو يتذكر كارثة "سوق المناخ".
العراق ودول "الضد"
الشيخ صباح الأحمد دعا وسائل الاعلام، في افتتاح ندوة نظمها، قبل نحو اسبوعين، مركز دراسات الخليج التابع لجامعة الكويت تحت عنوان "مستقبل العلاقات العربية - العربية بعد تحرير الكويت"، إلى التوقف عن استخدام تعبير "دول الضد" أي الدول التي لم تشارك في التحالف الدولي لتحرير الكويت أو تلك التي تعاطفت مع النظام العراقي أثناء غزوه الكويت. وكانت مديرة المركز الدكتورة ميمونة الصباح أعلنت ان دعوات للمشاركة وجهت الى كل الدول العربية باستثناء العراق "وان كنا اعلنا ترحيبنا بكل من يريد المشاركة من الشعب العراقي في هذه الندوة من خلال وسائل الاعلام".
وتزامن هذا الموقف الرسمي مع مواقف شعبية صدرت في ندوة نظمتها جمعية الخريجين عنوانها "مستقبل العلاقات الكويتية - العراقية بعد صدام". فالتقى الدكتور محمد الرميحي رئيس تحرير مجلة "العربي" والدكتور سعد بن طفلة العجمي المستشار في مجلس الأمة والدكتور أحمد الربعي وزير التربية وزير التعليم العالي سابقاً، على الدعوة إلى إقامة نوع من العلاقات مع الشعب العراقي لأن المشكلة ليست معه بل مع النظام.
ودعا الرميحي إلى إنشاء مكتب أو أكثر لدرس الوضع العراقي يتولاه خبراء متخصصون وتنشيط المساعدات الانسانية للاجئين وإبرازها إعلامياً. واقترح بن طفلة "تنسيقاً إعلامياً كويتياً وعربياً وعالمياً لمطالبة كويتية برفع الحصار عن أطفال العراق الذي يفرضه صدام حسين لأن هذه الورقة أصبحت مصدراً لاسترزاق الكثيرين ولذرف كثير من دموع التماسيح على أطفال العراق في الوقت الذي تقدم الكويت كل المساعدة لهم...". واقترح "الوقوف صفاً إعلاميا واحدا مع المعارضة العراقية". ودعا الربعي إلى فتح قنوات إتصال مع الشعب العراقي "بغية تعريفه بحقيقة الموقف الكويتي المناصر والمتعاطف مع معاناته التي يواجهها بسبب حكم صدام حسين". وشدد على وحدة العراق لأن التقسيم يلحق بالمنطقة ضرراً كبيراً.
متغيرات ومخاوف قديمة
لم تكن هذه المواقف وليدة ساعتها، ذلك أن الديبلوماسية الكويتية والنخبة السياسية والمثقفة سعتا منذ نحو سنتين إلى ترسيخ فكرة المصلحة العليا للدولة في التعامل مع القضايا الخارجية بعيداً عن المماحكات الداخلية وعن المشاعر الشعبية التي كانت لا تزال تعيش صدمة الغزو. وتكاد الجروح تندمل، لولا قضية الأسرى في سجون العراق. ولم تعد في الكويت حساسية في الحديث عن الشعب العراقي وحقائق الجغرافيا والمصالح ووجوب مواكبة التطورات والمتغيرات وما أكثرها. لقد ولى زمن التمنيات في أن يستمر حكم صدام حتى يفنى الشعب العراقي بأكمله! ولم تعد ثمة حساسية حيال المحاولات التي يقوم بعض الدول لتخفيف الحصار عن العراقيين.
وإذا كان بعض المراقبين في الكويت يرد هذا التطور في الموقف الرسمي إلى ادارة الشيخ صباح الوزارة بالنيابة، فإن مراقبين آخرين يذكرون بتبادل الأمير الشيخ جابر الأحمد وولي عهده الشيخ سعد البرقيات مع الملك حسين وولي عهده لمناسبة عيد الجلوس في عمان. وهذا مؤشر ذو دلالة. ويعزو هؤلاء هذا التطور إلى الحركة العربية التي تسعى، حيال انسداد أفق السلام في المنطقة، إلى رأب الصدع في الصف العربي واستعادة الحد الأدنى من التضامن ووضع العلاقات العربية - العربية في المسار الصحيح. ويعزونه أيضاً إلى إطمئنان الكويتيين إلى متانة علاقاتهم العربية والدولية، وإلى اقتناعهم، كما كل المعنيين بوضع العراق، بأن قرار رفع الحصار عن نظام بغداد ليس في أيدي العرب بل في يد الولايات المتحدة.
كل هذه المواقف لا تزيل المخاوف الشعبية في الشارع الكويتي من العراق ما دام صدام على رأس السلطة، لذلك يظل الهاجس الأمني يحظى بأهمية قصوى. لكن ما يبعد عنه صفة الإلحاح الإطمئنان إلى وجود القوات الأجنبية في المنطقة من أجل حماية مصالحها الاستراتيجية التي تلتقي مع مصالح الخليجيين الذين يدركون أن الاتفاقات الدفاعية مع الدول الكبرى ستظل حاجة ضرورية ما دامت في المنطقة نوازع إلى الهيمنة في ظل عدم التكافؤ بين دول المجلس بشرياً وبين قوى التهديد، كما قال وكيل وزارة الخارجية الكويتي سليمان ماجد الشاهين في ندوة مركز دراسات الخليج. ويجمع الكويتيون على أن الهم العراقي كان قائماً قبل الغزو وسيظل إلى أن يقوم نظام ديموقراطي في بغداد، وعلى أن التهديدات الخارجية في المنطقة ستظل تفرض نفسها ما لم تقم الديموقراطية أيضاً وتزول النزعة الى التسلط والهيمنة، وما لم تقم وحدة عضوية حقيقية بين دول مجلس التعاون... من هنا الدعوات إلى الإفادة من وصول محمد خاتمي إلى سدة الرئاسة في إيران.
حيال هذه المتغيرات في السياسة الخارجية، هناك ثوابت لا نقاش فيها، فالكويت ملتزمة عدم القيام بأي خطوات تطبيع مع إسرائيل ما لم تنجز التسوية الكاملة. وتمنى الشيخ صباح الأحمد، في لقاء مع "الوسط"، تأجيل القمة الاقتصادية التي تعقد نهاية السنة في الدوحة إلى حين حصول انفراج في عملية السلام. وجدد الوقوف إلى جانب سورية، وقال :"سنضحي بكل شيء في سبيل عدم المساس بسورية".
تواكب هذه النقلة في التعامل مع الخارج، لغة جديدة في الداخل يستدعيها أولاً وجوب إقامة التوازن مع اللغة الخارجية. ويستدعيها ثانياً غياب الأحداث الكبيرة في الكويت كتلك التي نجمت عن الغزو مباشرة. ويعزوها بعض الأوساط ثانياً إلى غياب الشيخ سعد الذي لن يعود قبل نهاية الصيف. لذلك فإن الحديث في وسائل إعلام وديوانيات عن حكومة جديدة حديث معلن. وثمة إشارات غامضة إلى أن ولي العهد قد لا يستطيع متابعة الشأن الحكومي بعد عودته بالزخم الذي كان قبل مرضه، خصوصاً أن الرجل أنهكه العمل في ظروف ضاغطة منذ الغزو وإثر التحرير. وربما كان عليه أن يتخلى عن إدارة شؤون رئيسية لآخرين في الحكم والحكومة.
ويرى مراقبون أن الكلام عن تخلي الشيخ سعد نهائياً عن رئاسة الحكومة أمر مستبعد، وإن بدا أن عدداً من الوزراء يشعر حالياً بأنه أكثر قدرة على الحركة والحسم في قرارات وقضايا. علماً أن ولي العهد على إتصال شبه يومي بالبلاد التي تعد الوزارات المعنية فيها برنامج احتفالات شعبية كبيرة لاستقباله يوم عودته.
في أي حال، لا يرى كثير من الكويتيين أن المعضلة في الحكومة وحدها بروتينها، بل في مجلس الأمة أيضاً. لذلك يشكون من أداء السلطتين كأن ثمة شعوراً بأن المعضلة هيكلية ولا بد من تغيير جذري في العقلية وأسلوب ممارسة السلطات واجباتها وسياساتها فلا يظل الإحساس بأن البلاد تدار بمبادرات للأفراد أو بتسويات من هنا وهناك.
غياب التخطيط
ولا تتوانى صحف عن الحديث عن الفساد، داعية إلى إصلاح الإدارة لتنصرف إلى مواجهة قضايا التنمية والاقتصاد وتوظيف القوى العاملة الوطنية التي تعاني من بطالة في حين تستورد البلاد عمالة أجنبية تفوق أعدادها مجموع العاطلين عن العمل. ويدافع برلماني عتيق في هذا المجال عن مجلس الأمة، ويشير إلى أن المشكلة تكمن في غياب الدور الحكومي، ذلك أن الوزارة هي التي تطرح رؤيتها وتصورها للحلول وليس النواب. ورأى أن مشكلة البطالة مثلاً ليست في فرص العمل المتوافرة بكثرة، بل في نوع الأعمال التي يقبل عليها المواطنون الكويتيون، وفي الفارق الكبير بين ما يتقاضاه العامل الوافد والعامل الوطني. وقال إنها ظاهرة منذ عشر سنوات وأكثر وإلى الآن لم تجد لها الحكومة حلاً.
ولاحظ البرلماني غياب أي خطة طويلة الأمد تتناول التوظيف والاسكان والبيئة والتعليم، خصوصاً التعليم الجامعي الذي تدنى مستواه. وتتناول وسائل تنويع الانتاج وتوسيعه خارج القطاع النفطي. فالتصنيع مثلاً معدوم، علماً أن التوسع في الخدمات مرتبط بالانتاج. ونبه إلى مشاكل الشباب الاجتماعية، انحرافاً ومخدرات وسلوكاً لا يمت إلى قيم البلاد والتقاليد والمدرسة وقيمها. وخلص إلى "اننا نقترب من مشاكل المجتمعات الصناعية... لكن محتواها مختلف"، منوهاً بأن غياب القضايا الاجتماعية المعقدة والعميقة وانعدام الفرز الاجتماعي الحاد يشكلان صمام أمان حيال هذه المشاكل التي لا بد في النهاية من إيجاد حلول جذرية لها. ويجب ألا تكتفي الدولة بضخ الأموال في مشاريع تحرك الساحة الاقتصادية إلى حين.
وتشارك هذا البرلماني نظرته إلى الوضع فئات كثيرة، شعبية وغير شعبية كبعض الشباب في العائلة الحاكمة. وكتبت مجلة "الزمن" التي يشرف عليها الشيخ ناصر صباح الأحمد، في افتتاحية عدد أيار مايو الماضي :"سبق لنا أكثر من مرة أن لفتنا الانتباه إلى أن برنامج الحكومة عاجز عن مواجهة التحديات الكبرى التي تبرز أمامنا كدولة ومجتمع، وقلنا إن الرؤية الحكومية والممارسة الحكومية لا تزالان كما كانتا منحصرتين بحدود ونطاق الدولة الريعية المعتمدة على إيرادات بيع النفط وإعادة إنفاقها عبر قنوات الإنفاق الحكومي المعتادة، مع محاولة ترشيدية لفظية للحد من العجز المتنامي في الموازنة!"
وتابعت :"لعلنا نجد أنفسنا مجبرين على التذكير بما سبق أن أكدناه أكثر من مرة وهو ضرورة الانطلاق من رؤية بديلة تضع الأساس لخط تنموي يكون بمستوى التحديات وقادراً على مواجهة متطلبات الانتقال الى القرن الحادي والعشرين ... وهذا ما يتطلب وجود إدارة سياسية فاعلة وحيوية وذات رؤية وقرار".
في خضم هذه التحولات والهموم اعلنت ولادة "التجمع الوطني الديموقراطي" في مؤتمر صحافي عقده أمينه العام الدكتور أحمد بشارة. وأذيع بيان التأسيس ويتضمن أسماء 75 شخصاً مؤسساً متوسطي الأعمار 40- 50 عاماً يتوزعون على شرائح اجتماعية مختلفة، مدينية وقبيلية ومذهبية تنتمي بمعظمها إلى الطبقة المتوسطة وما فوقها.
وفي الحديث عن التجمع مع رجل الشارع العادي أو لدى قراءة بعض المقالات، يتولد إنطباع أن التجمع تأسس ليواجه التيارات الدينية التي طغى صوتها على ما عداه منذ التحرير إلى اليوم. ولا يخفي بعض المتشددين اتهامه بأنه ولد بتأييد من السلطة... وحتى بتشجيع من الولايات المتحدة والغرب، وينسج هؤلاء ما يحلو لهم من الأوصاف. إلا أن الحقيقة التي لا يخفيها الأمين العام للتجمع وأعضاء كثيرون التقتهم "الوسط"، أن التعارض مع التيارات الدينية حتمي لاختلاف التوجهات والطروحات، من دون أن يعني ذلك تلاقياً حتمياً مع برامج الحكومة ومشاريعها ومواقفها. لكن ما يصر عليه المؤسسون هو احترامهم للدستور ومؤسساته والعمل العلني على ترسيخ مفهوم الديموقراطية وممارستها، ومواجهة المواقف بمسؤولية وهدوء.
ويشرح هؤلاء الدوافع من وراء قيام التجمع، بعيداً عن المآخذ والاتهامات المتسرعة، إذ أنهم أجروا لقاءات مع كل القوى بما فيها التيارات الدينية قبل إعلان تأسيسه. ولعل أول الأسباب شعور شريحة واسعة من المثقفين الذين يعبرون بدورهم عن تطلعات طلبة جامعيين ورجال أعمال وأصحاب مهن حرة، بأنهم باتوا على هامش المجتمع فيما خلت الساحة لأصحاب الأصوات العالية: تجمعات دينية متشددة وتجمعات قبلية لا تنتج سوى تسويات تكاد تصبح هي السمة الدائمة للعبة السياسية المحلية التي تديرها السلطتان التنفيذية والاشتراعية. وما زاد احساسهم بالغربة عن الوطن إلى حد أن بعضهم فكر في الهجرة هو ما انتجته الانتخابات النيابية أواخر السنة الماضية والتي لم تحمل أي أمل بالتغيير.
نموذج للعالم العربي
ولا يمكن في أي حال فصل الدوافع عن المحيط العربي وما يدور فيه من صراع بين الأصولية الجديدة التي تسعى إلى النفوذ والسيطرة وقوى تريد مواجهتها والتخلص من مضايقاتها بالسعي إلى جمع صفوفها. ولا يخفي أعضاء التجمع آمالهم في أن ينجح نموذجهم ليكون قدوة لتجارب أخرى في العالم العربي حيث يعاني زملاؤهم ومجايليهم المشاكل نفسها، وإن اختلفت الظروف السياسية والاقتصادية.
في أي حال أضفى قيام التجمع نسمة أمل في الشارع الكويتي بتطوير العمل السياسي وتأطيره ليصبح البرنامج هو العنوان وليس الفرد. إنها صحوة واعدة تواجه تحديات كبيرة محلياً واقليمياً.
التجمع حزب على الطريقة الكويتية، ما دام الدستور يحظر قيام الأحزاب لكنه لا ينص على عدم قيام تجمعات التي يمارس عدد منها السياسة من بابها الواسع ، مثل الحركة الدستورية الاسلامية والتجمع الشعبي الاسلامي والمنبر الديموقراطي والائتلاف الاسلامي... إلا أن الدكتور بشارة أكد أن التجمع لن يأخذ شكل التنظيم السياسي الجديد ولن يكبل أعضاءه بأفكار جاهزة وثابتة. وأن التجمع الذي بات يضم الآن أكثر من ألف عضو سيخوض معركة الاتحادات الطلاب الجامعيين كما سيخوض معركة انتخابات مجلس الأمة بأعضاء يحملون برنامج التجمع وليس هموم الدائرة الضيقة. وأشار إلى أن التجمع ستكون له، إلى أن يحين موعد الاستحقاقات الوطنية، موا قف معلنة وصريحة في كل الشؤون الوطنية، من قانون الانتخاب إلى مسألة الحقوق السياسية للمرأة هناك نساء بين الأعضاء المؤسسين. وقد حدد بيان التأسيس التوجه العام والأهداف فضلاً عن المسائل التنظيمية ولنظرة في الشأن الخارجي، وكلها تندرج تحت عنوان كبير هو احترام التعددية السياسية والفكرية والاقتداء بالمنهج العلمي وتحكيم العقل وتغليب المصلحة الوطنية في التحليل وتحديد المواقف من القضايا المختلفة وممارسة العمل السياسي علناً وتجنب التعصب والتطرف. وسيكون للتجمع مقر خاص علني للاجتماع ويسعى إلى اصدار مطبوعة تكون تعبيراً عن لسان حاله.
لا يريد التجمع أن يلغي أياً من التجمعات، وإذا كان يشكل تهديداً للتيارات الدينية فإن التهديد الأكبر سيكون للمنبر الديموقراطي، لأن كلاهما يصدر عن الشرائح نفسها. وفي حين بات المنبر مدموغاً بالمعارضة الدائمة للحكومة، فإن الوليد الجديد متحرر من الموروث الذي يختصره اليسار القومي منذ عقود. لكن النائب "المنبري" عبد الله النيباري رأى، في لقاء مع "الوسط"، أن التجمع لا يشكل تهديداً بل قد يخفف عن "مجموعته" عبء المواجهة الدائمة مع الأصوليين المتشددين. وأقر بأن ثمة تلاقياً كبيراً في المنطلقات والأهداف بينه وبين "التجمعيين"، لكنه قال إنه أكثر تمثيلاً للطبقة الوسطى فيما أولئك يمثلون من هم فوقها، مسجلاً هنا تبايناً في المواقف من القضايا الاقتصادية كالديون والخصخصة وشروطها. ونبه إلى انهم في القضايا القومية سيكونون تحت الاختبار... مثلما ستشكل الانتخابات البرلمانية اختباراً للتجمعين قد يتجنبانه بالتحالف في بعض الدوائر.
وإذا كان قيام التجمع الوطني الديموقراطي يدفع إلى قيام تجمعات أخرى - وقد بدأ الحديث عن تكتل شيعي وسطي وآخر قبلي وثالث أصولي تردد أنه يدعو إلى إلغاء الدستور والديموقراطية - فإن التفكير والتعبير بصوت عال ضمان للأمن الاجتماعي في بلد يواجه تحديات كبيرة في منطقة استراتيجية ومحط أطماع كثيرين بثروتها النفطية، ليس أقلها هم إصلاح الخلل في التركيبة السكانية بين الوطنيين والوافدين و"البدون" الذين لم ينته النقاش في قضيتهم منذ التحرير وقبله... لكنها باتت اليوم ملحة ويتوقع حسمها بما يحفظ للبلاد توازناً في التركيبة من دون أن تذهب حقوق الذين ساهموا في بناء البلاد، وإن شعر بعضهم بأن مواطنين جدداً سيقاسمونهم نعمة الامتيازات .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.