محاولة الرئيس العراقي صدام حسين لاسقاط الحظر عن طريق التذكير بقدرته على زعزعة الاستقرار اعادت الى المنطقة الرياح الساخنة وجددت احتمالات المواجهة اصطدمت المحاولة العراقية بحزم خليجي ودولي وسارعت الولاياتالمتحدة ومعها بريطانيا الى ارسال قوة ردع برية وبحرية وجوية. وفي ذروة الأزمة اعلن العراق انسحاب قواته من منطقة الحدود مع الكويت وتركزت الجهود الاميركية على ضمان "عدم تمكن صدام من تكرار مناوراته". ومع تراجع فكرة اقامة منطقة حظر بري في جنوب العراق تابعت الولاياتالمتحدة نشر قواتها وسط تسؤلات عن الخيارات الاخرى التي ستلجأ اليها. عارضت فرنسا منطقة الحظر وأرسلت روسيا وزير خارجيتها اندريه كوزيريف الى العراق والكويت والمنطقة وحرص قبل بدء جولته على تأكيد وجود بعض التبادين بين موقفي موسكووواشنطن. واظهرت الازمة حجم التعاطف الدولي مع الكويت التي استقبلت وزيري خارجية الولاياتالمتحدةوبريطانيا. لماذا أقدم صدام على المناورة الجديدة؟ فور شيوع الأنباء عن حشود عسكرية في جنوب العراق عكف الديبلوماسيون والمحللون على محاولة تفسير الخطوة التي أقدم عليها الرئيس العراقي مع تسليم معظمهم بصعوبة التكهن بحساباته خصوصاً وانه سبق وفاجأ العالم أكثر من مرة "بحساباته غير الدقيقة". وجاءت التقديرات لأسباب تحرك صدام على الوجه الآتي: - على رغم ان الحظر الذي فرض على العراق لم يؤد حتى الآن الى إسقاط النظام أو خلخلة سيطرته على العاصمة والمناطق المحيطة بها فإنه أوجد حالة من التململ المتصاعد في أوساط السكان الذين يتزايد الاعتقاد لديهم بصعوبة التغلب على الحظر. وإذا كان صدام احتفظ أصلاً بأموال تكفيه لسد حاجات الماكينة العسكرية والأمنية فإن استمرار التدهور الاقتصادي ينذر بانتقال التململ الى صفوف القوات المسلحة وهي العامود الفقري لنظام صدام. وبرغم الحديث المتزايد عن شبكة من المؤسسات المالية لا تزال تعمل في العالم لمصلحة بغداد فإن استمرار الحصار ينذر بالمزيد من التآكل في هيبة النظام وقدراته المالية. - أراد صدام ان يوجه رسالة جديدة الى الأممالمتحدةوالولاياتالمتحدة ومفادها ان الاستقرار في المنطقة متعذر إذا بني على أساس عزلة العراق أو الرغبة في جعل مثل هذه العزلة حالة طويلة الأمد أو شبه دائمة. بمعنى ان صدام أراد ان يظهر انه وعلى رغم ما لحق بقواته خلال حرب الخليج الثانية لا يزال قادراً على تهديد الكويت وإثارة القلق في المنطقة. واللعبة هذه بالغة التعقيد. صحيح ان الجيش الكويتي هو اليوم أفضل مما كان عليه قبل أربع سنوات، لكن الصحيح ايضاً انه غير قادر بالتأكيد على ردع الوحدات العراقية خصوصاً وحدات الحرس الجمهوري الجيدة التدريب والتسليح. ورفع درجة التوتر على الحدود مع الكويت يعني ببساطة الدخول في اختبار قوة مع الولاياتالمتحدة ومع الأسرة الدولية. وبديهي ان تضطر واشنطن الى إرسال قوات كافية لمنع أي مغامرة عراقية جديدة. لكن الادارة الاميركية لا تستطيع ولأسباب معروفة الاحتفاظ بعدد كبير من القوات في الكويت والمنطقة أو إبقاء قواتها في حالة تأهب وذلك لأسباب اقتصادية وسياسية. ومن هنا كان قرار الإدارة الاميركية بوجوب ان تنتهي هذه الأزمة بما يضمن عدم تكرارها. فلو أتيح للرئيس العراقي ان ينجح هذه المرة فإنه سيعمد الى تكرار اللعبة بعد بضعة اشهر وسيكون من الصعب على الولاياتالمتحدة الدخول في مثل هذا المسلسل الذي يوحي ان استقرار الكويت والمنطقة لا يزال عرضة للتهديد. - جاء الحشد العراقي قرب الحدود مع الكويت في إطار تحرك يمزج بين الاستعداد لابداء المرونة في مقابل رفع الحظر والاستعداد لسلوك طريق التصعيد في حال عدم تحديد موعد لرفع الحظر. فنائب رئيس الوزراء العراقي طارق عزيز حرص في كلمته على اظهار تعاون العراق مع الأممالمتحدة ومدى تنفيذه لقراراتها في محاولة جديدة لإظهار ان الأزمة تكمن في موقف الولاياتالمتحدة من العراق وليس في عدم تطبيق بغداد الكامل لقرارات الاممالمتحدة. وسبق كلمة عزيز تهديد أطلقه الرئيس العراقي ب "فتح مخازن الكون أمام العراقيين" للحيلولة دون "تجويع الشعب العراقي"، واعتبرت بغداد العاشر من تشرين الأول اكتوبر موعداً لاختبار النيات الدولية والاميركية. ولجأت بغداد الى حشد القوات قبل أيام من الموعد المقرر لتقديم رولف اكيوس، رئيس اللجنة الخاصة التابعة للأمم المتحدة والمكلفة نزع أسلحة العراق، تقريره. وقد لوحت بغداد بوقف تعاملها مع اللجنة ما لم يتضمن التقرير تأكيداً بأن العراق نفذ الالتزامات المترتبة عليه بموجب القرارات الدولية وإعلاناً يؤكد بدء العمل بنظام المراقبة الطويلة الأمد لتسليح العراق وتحديداً لموعد لا يتجاوز الستة اشهر يتم بعدها رفع الحظر النفطي. - بعد وصول الأزمة الى ذروتها كشف العراق عن أبرز أوراق المساومة لديه وجاء ذلك على لسان رئيس المجلس الوطني سعدي مهدي صالح الذي أعلن ان العراق لن يعترف بالكويت إلا اذا رفعت العقوبات الدولية المفروضة عليه. وبدا واضحاً ان جوهر الأزمة يكمن في التالي: يدرك العراق ان لا مفر من الاعتراف بالكويت وحدودها وسيادتها، لكنه يريد التأكد سلفاً من الثمن الذي سيتقاضاه في مقابل التخلي عن هذه الورقة. وتتخوف بغداد من ان تكون "لائحة المطالب الدولية طويلة" أي ان تعترف بالكويت ثم تواجه بمطالب جديدة ربما تعلق بعضها بانتهاكات حقوق الانسان داخل العراق. التوقيت والتعايش - اختارت القيادة العراقية لمناورتها توقيتاً أخذ في الاعتبار عناصر عدة: الدورة العادية للجمعية العمومية للامم المتحدة ووجود عدد كبير من المسؤولين والوزراء في نيويورك. وانشغال الادارة الاميركية بمتابعة الوضع في هايتي والحديث المتزايد عن نكسة كبيرة لحزب الرئيس بيل كلينتون في الانتخابات التشريعية النصفية في تشرين الثاني نوفمبر. كما ان عملية حشد القوات جاءت عشية جولة وزير الخارجية الاميركي وارن كريستوفر في الشرق الأوسط لدفع مفاوضات السلام السورية - الاسرائيلية الى الامام. ولعل الأهم من ذلك هو ان القيادة العراقية سعت الى اختبار مدى استمرار روح التحالف الدولي الذي نشأ في مواجهة الغزو العراقي للكويت. وقد تكون بغداد أرادت التعرف على صلابة الجبهة الدولية بعد التباين الذي ظهر في الأسابيع الماضية بين فرنساوروسيا من جهة والولاياتالمتحدةوبريطانيا من جهة اخرى. فعلى مدار الشهور الماضية نظمت بغداد حملة اغراءات اقتصادية في اتجاه باريس وموسكو وبكين وانقرة. وكانت نتائجها بالغة الوضوح في ما يخص العلاقة مع تركيا. - أراد صدام إظهار خطأ حسابات من توقعوا انهيار نظامه بفعل الحصار وكأنه أراد إبلاغ الأسرة الدولية ان عليها "التعايش" مع نظامه والبحث جدياً في شروط هذا التعايش في مقابل تخليه عن دور "زارع التوتر" في هذه المنطقة الحساسة من العالم. وقد تكون القيادة العراقية أرادت توتير "خط التماس" مع الولاياتالمتحدة لفتح الباب لاتصالات أميركية - عراقية تنتهي بصفقة تتضمن الاعتراف بالكويت وتحديد موعد رفع الحظر النفطي ومستقبل العراق ودوره في المنطقة مع بقاء نظام صدام حسين. حسابات خاطئة أظهرت مجريات الأزمة ان حسابات القيادة العراقية لم تكن دقيقة هذه المرة. نجحت المناورة في إعادة الملف العراقي الى الواجهة، لكنها لم تنجح في فرض اتجاه جديد لمعالجته. فعلى الصعيد الاقليمي أظهر مجلس التعاون الخليجي عبر مواقف دوله والاجتماع الطارئ لوزراء الخارجية في الكويت ان العراق غير قادر على اختراق تضامن دول المجلس وعبر بيان لمجلس الوزراء السعودي عن "تأييد السعودية ومساندتها كل الاجراءات الدولية الهادفة الى حماية المنطقة العربية" من التهديدات العراقية وجددت وقوفها بحزم الى جانب دولة الكويت مطالبة العراق بتطبيق "كل القرارات الدولية ذات الصلة بعدوانه على الكويت التي أصدرها مجلس الامن في اعقاب الغزو العراقي لدولة الكويت الشقيقة عام 1990". وأوضحت سلسلة من الاجراءات العملية ان أي عمل عسكري عراقي سيواجه بتضامن خليجي حازم. كما اظهرت ردود الفعل العربية ان العراق لم ينجح في تبديل الموقف شبه الجماعي الرافض للغة التهديد ووضع الشروط في مقابل تطبيق القرارات الدولية. وقد طالبت الجامعة العربية العراق بالاعتراف بالكويت والتزام كل القرارات الدولية وبدا واضحاً ان مصر وسورية اللتين شاركتا سابقاً في التحالف الدولي تقفان بثبات الى جانب الكويت. وخلال الأزمة بدا الأردن حريصاً على إظهار موقفه على نحو لا يمكن تفسيره كاستمرار للموقف الذي اتخذه خلال غزو الكويت. فقد عبر ناطق رسمي أردني عن وقوف الأردن "ضد أي تهديد من أي شقيق عربي لشقيقه العربي" وعكست تصريحات للملك حسين مثل هذا التوجه، خصوصاً عندما أوضح انه نصح العراقيين بعدم تكرار أخطاء 1990 وأنه حمل هذه النصيحة لطارق عزيز. حزم أميركي وافتقرت الحسابات العراقية الى الدقة في تقديرها لمدى التضامن بين الدول الكبرى. فالدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن لا تزال تتمسك بموقفها الذي يطالب العراق بتنفيذ كل القرارات الدولية والامتناع عن لغة المناورة ووضع الشروط. منذ الساعات الأولى اتخذت ادارة الرئيس بيل كلينتون موقفاً حازماً وحذرت الرئيس العراقي من "تكرار الخطأ في الحسابات" ومن "ثمن باهظ" سيترتب على أي تهديد للكويت. وسارع الرئيس كلينتون الى ارسال قوات برية وبحرية وجوية الى الكويت والمنطقة لردع أي تحرك عراقي ولتوفير القدرة على توجيه "ضربة وقائية موجعة" في حال استلزم الوضع قراراً من هذا النوع. ففي موازاة ألوف الجنود وصلت الى المنطقة نحو 500 طائرة حربية وعدد من القطع البحرية. وظهرت المشاركة البريطانية واضحة وأرسلت فرنسا فرقاطة وقالت ان قواتها "جاهزة". فرنساوروسيا لم يكن سراً ان فرنسا تسعى منذ شهور لمساعدة العراق على الخروج من دائرة الحظر وان روسيا تشاطرها هذا الموقف الذي لا تعارضه الصين. لكن هذه الرغبة في "مساعدة" العراق والمستندة الى حسابات اقتصادية لم تصل الى حدود الافتراق عن القاعدة الرئيسية للقاء الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن والتي تقوم على وجوب تنفيذ العراق للقرارات الدولية. لا بل انه بدا وكأن الموقف العراقي الجديد تسبب في إحراج الراغبين في مساعدته. أما قرار الرئيس الروسي بوريس يلتسن في إيفاد مبعوثين الى العراق والكويت فيمكن فهمه في اطار تمييز الموقف وإعطاء فرصة للعمل الديبلوماسي ولدور روسي في نزع الفتيل وطبعاً دون الوصول الى حد الافتراق الكامل عن الموقف الاميركي. ساهم اعلان العراق عن سحب قواته من الجنوب في خفض احتمالات الحرب وبدت الأزمة وكأنها دفعت الى إطار آخر وهو البحث عن سبل ضمان عدم تكرار ما حصل. في هذا السياق اعتبرت واشنطن ان الحل هو "بفرض منطقة عازلة في جنوب العراق" أي باعتماد اجراء مشابه لمنطقة الحظر الجوي لكن الفكرة لم تحظ بتأييد فرنساوروسيا. الكويت قلقة وواثقة أثارت الانباء عن حشود عراقية قلقاً في الكويت لكن رد الفعل الكويتي كان مختلفاً تماماً عما كان عليه في اعقاب الغزو عام 1990. ومنذ اللحظات الأولى بدت الكويت واثقة من أمرين: الأول تضامن الكويتيين على اختلاف مشاربهم والتفافهم حول موقف السلطة ودعمهم لجيشها الذي سارع الى التحرك والانتشار والثاني وثوق الكويت من استمرار التزام التحالف الدولي بضمان أمنها في مواجهة التهديدات العراقية. قطع ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الشيخ سعد العبدالله السالم الصباح اجازته وأكد فور عودته: "سندفع الثمن مهما كان للدفاع عن كويتنا الحبيبة". وأضاف: "يجب ان نفرق بين القلق والخوف، لا بد ان نقلق على مستقبلنا ومستقبل بلادنا ولكننا لا نخاف، ونحن على استعداد للموت من اجل الكويت". تعددت الآراء واختلفت حول الأسباب التي دعت العراق الى حشد جنوده على الحدود الكويتية، رغم التحذيرات الكثيرة والشديدة التي تلقاها. واكد أمير دولة الكويت الشيخ جابر الأحمد الجابر الصباح في جلسة استثنائية لمجلس الوزراء الكويتي "ان التهديدات العراقية تجسد الحالة التي يعيشها نظام بغداد في ظل الاجماع العالمي على ضرورة خضوعه لارادة المجتمع الدولي المتمثلة بتنفيذ جميع قرارات الاممالمتحدة ذات الصلة بعدوانه على دولة الكويت". الى ذلك اتخذت كل الوزارات والمؤسسات والهيئات الكويتية تدابيرها لمواجهة أية احتمالات طارئة، ووضعت خطة طوارئ واستبعدت الكويت على لسان النائب الثاني لرئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية الشيخ صباح الأحمد الجابر الصباح وجود أي وساطة عربية بين الكويت والعراق لتهدئة الموقف. وقال وزير الاعلام الكويتي الشيخ سعود ناصر الصباح "ان الكويت لن تقبل ولن تسمح بأن تتكرر مأساة الثاني من اغسطس آب مهما كلفت الأمور". وقد شبه وزير الاعلام الكويتي البيان الذي أصدره مجلس قيادة الثورة العراقي في مطلع شهر تشرين الأول اكتوبر الجاري بالرسالة التي بعث بها النظام العراقي الى جامعة الدول العربية في شهر تموز يوليو عام 1990. وأعلنت دولة الكويت استنفاراً عاماً ونشرت قواتها العسكرية المقدرة بعشرين ألف جندي على طول الحدود الشمالية بين الكويت والعراق. وكانت الكويت قد انتهت اخيراً من إقامة ساتر ترابي على طول حدودها مع العراق أطلق عليه الكويتيون اسم السور الرابع. ولم تقتصر التحركات العراقية على حشد آلاف الجنود والعسكريين على الحدود الكويتية فقد زج العراق بآلاف المدنيين وبينهم أطفال ونساء وأقام لهم مخيماً قرب الحدود الكويتية وأخذ هؤلاء بالتظاهر والادعاء انهم من البدون اي غير محددي الجنسية الذين كانوا يقيمون في الكويت قبل الغزو العراقي. ولم يسمح لهم بالعودة الىها بعد التحرير. ورفض وزير الاعلام الكويتي الشيخ سعود ناصر الصباح رفضاً قاطعاً ادعاءات هؤلاء قائلاً: "ان النظام العراقي قد يقدم على خطوة تهدف الى دفع مجموعات مدنية من العراقيين لتخطي الحدود الدولية". ونفى ان يكون هؤلاء المدنيون من البدون أو غير محددي الجنسية كما يدعون مؤكداً "انهم من القوات النظامية العراقية بلباس مدني". واتخذت الشركات والمؤسسات الكويتية التجارية اجراءات كي لا تتأثر بالأزمة، كما وضعت وزارة النفط الكويتية والمؤسسات التابعة لها مثل شركة نفط الكويت ومؤسسة البترول الكويتية خطة لمواجهة كل الاحتمالات كذلك قامت مؤسسة الخطوط الجوية الكويتية باتخاذ التدابير اللازمة. واستبعدت الحكومة الكويتية ان يكون العراق صادقاً في نواياه عندما أعلن مندوب العراق الدائم في الاممالمتحدة يوم الاثنين 10/10/1994 ان القوات العراقية ستتراجع عن المواقع التي احتشدت فيها، بعد ان تلقت أوامر عليا بالانسحاب. وعلق وزير الاعلام الكويتي على هذا الاعلان قائلاً "إننا لا نثق بوعود العراق ولا بتصريحاته، ولا نعتقد بأنه سيطبق فعلاً عملية الانسحاب، خاصة وانه بعد ان قام بغزو الكويت في الثاني من اغسطس 1990 أعلن بعد أيام قليلة أنه سوف ينسحب، لذا فلن نسمح بتكرار ما حدث في 2 اغسطس 1990". لماذا بقي صدام؟ طرحت الأزمة الجديدة سؤالاً ملحاً وهو كيف بقي صدام؟ تجمع الآراء ووجهات النظر السائدة في واشنطن على ان بقاء صدام حسين في السلطة في بغداد يعزى الى الخوف من نظامه الديكتاتوري، ولأن الولاياتالمتحدة، وأوروبا، تخشيان حدوث فراغ في الحكم في العراق، وتفضلان ان يبذل الرئيس العراقي جهوداً تجعل نظامه مقبولاً لدى الرأي العام الدولي. ويقول مسؤول كبير في وزارة الخارجية الاميركية، يعمل في الادارة التي تعنى بشؤون شمال منطقة الخليج، ان من الواضح "ان عشيرة صدام حسين التي تنتمي الى تكريت تشكل حماية تحيط بالرئيس العراقي، وتسيطر على جميع أجهزة الأمن الداخلي. إنها حالة شبيهة بما كان يحدث في هايتي، لكنها في العراق أشد فاعلية، وربما أشد فتكاً. والأكثر أهمية، وهو عامل مهم للغاية، ان معظم فئات المعار ضة الداخلية لم تعد في الداخل. فقد ذهبت الى الخارج بعدما تبين لها انها لا تملك تأثيراً يذكر في الاحداث. ويعتقد ان زعماءها يعيشون في دعة وثراء ألعوبة بأيدي الغرب". ويقول ديبلوماسي أوروبي: "إن الولاياتالمتحدة تخشى ايضاً تمزق العراق. ولا تريد وزارة الخارجية ان يكون لها دور في الدفاع عن مصالح الأكراد والشيعة". ويرى مسؤول مدني كبير في وزارة الدفاع الاميركية وهو صاحب خبرة في شؤون المنطقة: "بصراحة نحن نبحث عن ضابط برتبة عقيد أو عميد، سني، أو ربما تكريتي ايضاً، أو من احدى مناطق وادي الفرات ودجلة يملك قدراً من الصفاقة يتيح له جبه صدام وجهاً لوجه، وقدراً من التأييد يكفيه للاستمرار بعد قتل صدام". الخوف من تمزق العراق ويقول ريتشارد كيرتيس محرر فصلية "يو اس ميدل ايست ريبورت": "اعتقد انني أميل الى هذا الرأي. لقد أوقف الرئيس السابق جورج بوش حرب تحرير الكويت لأنه كان يخشى ان يحيق مزيد من الضعف بالقوات المسلحة العراقية وتقع البلاد فريسة بأيدي المتمردين الشيعة والقوات الشيعية الاخرى التي قد تأتي من إيران". ويضيف سفير احدى الدول الأوروبية في واشنطن "أنا أيضاً اؤمن بذلك الرأي، لأن الرئيس بوش سمح للرئيس صدام حسين بالنهوض بعد طول كبوة وضمن له بقاءه في السلطة. وربما كان، على الأرجح، يتوقع من صدام حسين تعاوناً بعد الحرب". ويمضي السفير الأوروبي قائلاً "ان ثمة اتجاهين في التفكير السياسي الاميركي حيال مشكلات الأقليات العراقية. فهم ليسوا مرتاحين الى فكرة تعذيب الاكراد، لكنهم ايضاً لا يريدون قيام دولة كردية مستقلة كردستان لأسباب عدة، أهمها ان من شأن ذلك ان يثير مشكلة كبيرة لاحدى الدول المشاركة في حلف شمال الأطلسي ناتو، وهي تركيا". ويقول كيرتيس: "ان الاكراد ليسوا قادرين على نيل استقلالهم بأي حال، فهم لم يحصلوا على أي اعتراف دولي. كما أنهم يسببون مشكلة لكل من العراقوايران وتركيا. وقد كانت فكرة قيام كردستان خطأ منذ بدايتها". ويرى احد كبار مسؤولي وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية سي.آي. ايه ان الحكومة الاميركية لا تملك ما سماه "ذاكرة مؤسسية"، و"مهما كانت سيئة أو حسنة فإن علاقاتنا في المستقبل ستكون مع العراق وليس مع كردستان". ويقول كيرتيس "بحكم بقائي سنوات عدة في العراق فإني اعتقد انه لن يتلاشى ولن يتمزق، فليس ثمة أساس لقيام دولة كردية، فلا عاصمة لها، وليست هناك وحدة قبلية. وبعبارة موجزة: ليس هناك استقلال. لقد كانت فكرة انشاء كردستان خاطئة على الدوام، لذلك حقيقة نحن لا نريد ان يُطاح الرئيس صدام حسين". وما قاله كيرتيس يحظى بموافقة أحد محللي البنتاغون الذي ذهب الى "ان المنطقة تتقاسم هذه المشكلة، وهي ربما كانت أشد ايلاماً لتركيا حليفتنا، لذلك يجب ان نكون أشد رفقاً بالعراق حتى نساعد تركيا". ويعقّب مسؤول وزارة الخارجية الاميركية على ذلك، فيقول: "بالطبع سيكون أمراً مريحاً ان يسقط صدام حسين لأن ذلك سيقنع الشيعة والأكراد بالعودة الى العراق لجعله بلداً مزدهراً لا تواجهه مشكلات اقليمية تذكر". ويقول احد محللي وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية ممن شاركوا في إعداد ملف الرئىس العراقي لدى الوكالة "الشيء الوحيد الكفيل بإسقاط صدام هو الاقتصاد العراقي، اذ ان الاتحاد السوفياتي لم يسقط لأن جهاز ال "كي.جي.بي" تهاون في القيام بواجباته وانما لأن الاقتصاد تدهور تدهوراً مروعاً". ويرى مسؤول سابق في الوكالة "ان صدام حسين سيسقط يوم يصبح شخصاً معقولاً في تعامله مع شعبه. فقد كان شاه ايران فظاً فظاظة صدام حسين، لكنه كان أكثر تحضراً وحداثة، وعندما بدأ يطبق اصلاحات، اعتبر شعبه ان ذلك ضعف واطاحه". ويضيف مدير سابق لوكالة الاستخبارات الاميركية "لماذا بقي صدام حسين رغم العقوبات الاقتصادية والمقاطعة الاستثمارية؟ من المؤكد ان شاحنات النقل البرية تُحمل بالنفط وتعبر الى تركيا وايران. وواضح ان العراقيين يحصلون من ذلك على عملات اجنبية. وتقول مصادر الاستخبارات الأوروبية ان حزب البعث العراقي استطاع تحويل نحو خمسة في المئة من عائدات النفط الى سويسرا. كما ان العراقيين يبيعون النفط لاسرائيل". هل هذا صحيح؟ يجيب مسؤول كبير في وزارة الخارجية الاميركية: "الصحيح ان تل ابيب تطلب منا الكف عن تشددنا مع العراق نتيجة الاتصالات العراقية مع اسرائيل لاقناعها بشراء النفط العراقي في مقابل ممارستها ضغوطاً على واشنطن. وهو أمر لا ينبغي ان يثير أي قدر من الدهشة، فإبان ذروة حرب تحرير الكويت أرسل العراق طائراته الى ايران التي يفترض انها ألد أعدائه". وربما كان الدكتور وليام كوانت أكثر الباحثين الاميركيين دراية بالنظام العراقي. وعندما سئل المحاضر السابق بمؤسسة بروكينغز، المحاضر حالياً في جامعة فيرجينيا، عن الاسباب التي تقف وراء استمرار نظام صدام حسين في الحكم، أجاب: ثمة ثلاثة أسباب رئيسية، أولها داخلي، لم تدمر حرب تحرير الكويت ضمن ما دمرته، قواعد سلطته. وقد بقيت شبكاته الأمنية ووحداته العسكرية الرئيسية دون أذى يذكر. صحيح انه فقد السيطرة على المناطق الكردية، وتعتور علاقاته مع قطاعات كبيرة من سكان الجنوب مشكلات معقدة، لكن ذلك كله، ما دام يضمن ولاء العناصر الرئيسية لحزب البعث. لا يعدو ان يكون مصدر قلق محدود". الدائرة الضيقة ويضيف: "ان الرجل ليس غبياً، فهو يدرك كيف يتعامل مع المعارضة، وما ان تهديه حواسه الى ان هذا الشيء أو ذاك يشكل تهديداً سياسياً له حتى يسارع الى التخلص منه. لذلك يصعب على اي شخص بمفرده القيام بتحرك ضده. ويبدو ان الدائرة المحدودة المقربة من الرئيس تنحصر الآن في عشيرته وبضعة أفراد آخرين. لذلك فهو يميل أكثر الى اعتماد سياسة التخويف والقسر والاكراه والتهديد، ومعاقبة من يهربون من الخدمة العسكرية. "السبب الثاني أنه لا يواجه حقاً اي تهديد خارجي. فأي دولة مجاورة تريد ان ترى تغييراً في العراق؟ أهي ايران؟ أم سورية؟ أم تركيا؟ فما دام صدام حسين حاكماً للعراق سيبقى العراق ضعيفاً ولن يشكل تهديداً يذكر لجيرانه. كما ان معظم انتاج النفط العراقي غائب حالياً عن الأسواق مما يساعد على إبقاء الأسعار مرتفعة نسبياً. ويفضل كثيرون ان يبقى العراق موحداً ولكن ضعيفاً بدلاً من ان يكون دولة ديموقراطية، أو يهيمن عليها الشيعة أو أي نظام متسلط آخر". ويضيف كوانت "السبب الثالث، اعتقد ان الاميركيين وصلوا الى قناعة ما بأنه لم يعد هناك ما يمكن القيام به لتغيير أوضاع العراق، ومن الأفضل ان يترك صدام حسين، على ما هو عليه، وهو أمر - وفقاً لتلك القناعة - مقبول وان لم يكن محبذاً".