حتى الآن وطالما ظلت سعاد حسني ونجلاء فتحي وربما ميرفت أمين موجودات, لا يمكننا بعد ان نتحدث عن أفول كلي للعصر الذهبي للنجوم في مصر. فسيدات الشاشة العربية لم ينتهين بعد. بل ان نجلاء فتحي, مثلاً, لا تزال في قمة عطائها تعيش نجاحاتها بشكل بسيط وهادئ يدفعها الى تأمل مسيرة حياتها وما أنجزته حتى اليوم في اكثر من سبعين فيلماً منها ما يشكل علامات اساسية في تاريخ السينما المصرية. "الوسط" قصدت نجلاء فتحي في القاهرة وحاورتها وسألتها حول حياتها وفنها, فكانت النتيجة حواراً صريحاً وطويلاً على ثلاث حلقات نشرنا اولاها في العدد الفائت, وهنا الحلقة الثانية: نجلاء فتحي, التي تتربع اليوم, الى جانب سعاد حسني, على عرش التمثيل السينمائي النسائي كوريثة شرعية لعصر النجوم الذهبي وكحلقة في السلسلة التي كانت تضم نجمات كبيرات من طينة فاتن حمامة ومديحة يسري وشادية وماجدة وليلى فوزي ومريم فخر الدين, تعيش اليوم أوج عطائها. في القاهرة التقتها "الوسط" في الوقت الذي كانت لا تزال سعيدة بفوزها بجائزة المركز الكاثوليكي المصري عن دورها المميز في فيلم "الجراج". وكان حوار مع نجلاء فتحي تحدثت فيه عن مسار حياتها وفنها وآرائها في السينما والتمثيل والمجتمع. في الحلقة الأولى من هذا الحوار المطول, تحدثت نجلاء عن طفولتها الشقية والمرحة وسط اسرة لم تعرف الاحزان طريقها اليها حتى كان طلاق الاب من الام ونجلاء التي كانت لا تزال في ذلك الحين تعرف باسمها الاصلي فاطمة الزهراء في الحادية عشرة من عمرها. بعد ذلك واصلت الحياة مسيرتها على رغم كل شيء, والطفلة التي كان اول اكتشافها للسينما عبر فيلم "شارع الحب" لعبد الحليم حافظ, كان هذا الاخير هو الذي اختار لها اسم نجلاء فتحي لتعرف به, يوم اكتشفها المنتج عدلي المولد المحامي مصادفة ودفعها الى عالم السينما. وكان ولوجها الاول لذلك العالم عبر دور صغير في فيلم "الاصدقاء الثلاثة" من اخراج احمد ضياء الدين, لكن ذلك الدور على صغره أطلق شهرتها, حتى اللحظة التي اكتشف وجودها عملاق آخر من عمالقة السينما المصرية هو المنتج الكبير رمسيس نجيب فاستدعاها لتولي البطولة المطلقة الاولى في الفيلم من اخراج احمد بدرخان يصور في لبنان. يومها كانت نجلاء في الخامسة من عمرها. وكان من النادر لفتاة في سنها وفي وضعيتها ان تلتقي منذ اول حياتها بتلك الاسماء الفخمة: عدلي المولد, رمسيس نجيب, أحمد ضياء الدين وأحمد بدرخان, ناهيك عن ان يكون عبد الحليم حافظ مبتكراً لاسمها الفني. ولكل هذا كانت نجلاء فتحي منذ بداياتها, سعيدة ومسعدة حسب نبوءة أمها لها. في الحديث السابق توقفنا مع نجلاء وهي على عتبة السفر الى لبنان للتمثيل في ثاني فيلم لها, وفي أول فيلم تتولى بطلته المطلقة. * ماذا كان اسم ذلك الفيلم الذي عملت فيه مع احمد بدرخان؟ - "كان اسمه "افراح" وصورت معظم مشاهده في لبنان. وكان ذلك اوائل سنوات الستين, حيث لا أزال أذكر ان وصولي الى لبنان كان واحدة من أجمل لحظات حياتي. لقد وصلت الى المطار واستقبلني الناس وكأنني نجمة حقيقية. كان رمسيس نجيب رتب كل شيء على الطريقة الهوليوودية وجمع عشرات الصحافيين, فما إن أطلت حتى أشار الي صارخاً: هذه هي نجمتنا الجديدة. فأحاط بي الناس, وراحت الكاميرات تعمل وهجمت علي الاسئلة. كان كلام الناس حلواً ولطيفاً. أما أنا فكنت دائخة فعلاً. غير واعية بما يحصل من حولي. أحسست بسعادة كبيرة تملأني مع خوف كبير, وشعرت أنني أطير في الجو وأن لا أقدام لي. كانت تلك على أي حال اول مرة أركب فيها طائرة, وأول بلد أزوره خارج مصر, وأول بطولة أقوم بها, وأول لقاء صاخب مع الجمهور ومع الصحافة. وأول مرة التقي فيها بعشرات الاشخاص الذين يحدثونني عن الفن والسينما بشكل جدي وحقيقي. يومها بقينا في لبنان عشرين يوماً, وكان لبنان ساحراً ورائعاً. رأيت فيروز, والرحبانة, شارع الحمراء, وصالات السينما الجميلة, الروشة, الجبل, البحر. كنت سعيدة كأنني في الجنة. كانت أمي سعيدة بي, وكان رمسيس نجيب سعيداً بي. وأريد هنا أن أذكر انه لئن كان الله قد اختار لي أن أنجح وأن أسعد في حياتي, فإنه هو الذي وفر لي افضل الرعاية في البيت وفي العمل. في البيت كانت أمي, رحمها الله, ترعاني وترشدني وتؤمن لي الهدوء والراحة. وفي العمل كان رمسيس نجيب, رحمه الله هو الآخر, يرعاني ويوفر لي كل اسباب الراحة والهدوء. كنت أتلقى دروس التمثيل مع الأستاذ عبد الرحيم الزرقاني, ودروس الالقاء مع مدام رطل. كان النظام نظاماً والفن فناً في ذلك الحين. كان العمل لتجهيز النجمة عملاً جدياً وحقيقياً. هذا كله لم يعد موجوداً في أيامنا هذه, اليوم ليس هناك اعداد على الاقل. هناك طبعاً فنانات ممتازات وأساليب اداء عصرية, لكن كل هذا يمر الآن عبر الكفاح الذاتي والتعب الشاق, الذي غالباً لا يصل الى نتيجة. أنا, عند مرحلة الاعداد لم اكن افعل اي شيء. لم أكن مسؤولة عن شيء. كانت مهمتي ان امثل فقط, فأمثل وانا أعلم ان هناك من يهتم بثيابي وببرامجي وبأوقات عملي وبكل ما يحيط بي. ولقد ظل الوضع على ذلك النحو حتى العام 1971. معنى الفن ورسالته * أتعنين وضعك الشخصي, أم الوضع السينمائي بصورة عامة؟ - "الاثنان معاً. ولست اقول ان الاوضاع صارت أسوأ. أقول فقط أن الامور تغيرت بشكل جذري. كان ذلك هو العام الذي مثلت فيه فيلم "أختي" فأحسست ما هو الطعم الحقيقي للسينما وفهمت, للمرة الاولى, رسالة فن السينما ومعناه. وهكذا بدأت أفكر. وأحسست انه لم يعد من حق احد ان يفكر عني. بدأت عن نفسي ولنفسي. وبدأت أحب الفن جداً. لم تعد الشهرة وحدها تكفيني ولم يعد يكفيني أن يرى الناس في فتاة جميلة. أن يلحقني الناس في الشارع صارخين: "نجلاء فتحي" أمر لم يعد يرضي تطلعاتي. كنت أريده في السابق فتحقق. اليوم صار من الضروري الانتقال الى مستوى ثان من العلاقة بالسينما. بات من الضروري الحديث عن مستوى الاداء ونوعية الفيلم وقيمته الفنية. أحسست بمعنى الفن ورسالته الحقيقة. ابتدأت اختار افلامي وأتمعن في الاختيار. وكنت في تلك اللحظة بالذات أعيش قصة حب جميلة مع انسان كنت أراه مناسباً لي. وكنت أغوص في الفن اكثر وأكثر, بسبب قصة حبي, وأنا اشعر ان الحياة جميلة وطيبة. أعيش حياتي وعمري. وأعيش فني وأقبل على الحياة ببهجة وفهم. وحصل زواج, ثم تلاه طلاق سريع. وكان السبب اسرته وأسرتي. كان الحبيب هو المهندس أحمد عبد القدوس ابن الكاتب الكبير احسان عبد القدوس. وكانت النتيجة صدمة تركت في داخلي شجناً كبيراً, لأنها خلفتني وقد بت امرأة صغيرة, ولكن مطلقة. والغريب ان ذلك الشجن جعل ادائي الفني اقوى وأجمل لأني شعرت انني قد صرت ناضجة. ورحت أضع كل آمالي في التعبير وفي الاصرار على ابراز افضل المستويات الفنية التي يمكنني ان ابرزها. وكانت تلك اللحظة هي التي مثلت فيها واحداً من اعظم وأجمل أفلامي "دمي ودموعي وابتسامتي". وكان ذلك الفيلم فاتحة لسلسلة من افلام جيدة مثلتها خلال عام ونيف, ووقفت بعدها وبعد أن حققت نجاحاً كبيراً ونلت جوائز عديدة اسائل نفسي لأجد انه لا يزال ثمة نقص كبير في حياتي. ما هو ذلك النقص؟ كان ذلك هو سؤالي الاساسي. واكتشفت انني انسانة من طبعي ان أنظر الى الغد باستشراف وانظم واخطط. انني انسانة لا يمكنني أبداً أن أخطو خطوات عشوائية. وانا من عادتي ايضاً أن أحلل وأفسر كل ما يحدث لي. وحتى حين أفشل لا أتوقف امام الفشل بحزن وغضب بل أتقبل الامور كما هي أبدأ بتحليل الاسباب قائلة: "غداً سأستفيد من هذا الدرس وأقدم عملاً أكثر نجاحاً". وهكذا أمام ما حدث لي فكرت طويلاً وانتهى بي الامر الى ادراك ان ما ينقصني واريده انما هو الزواج, ليس للحب وحده ولكن من اجل تكوين اسرة أيضاً وخاصة. أريد أن أنجب اولاداً. في تلك اللحظة, تقدم لي المهندس سيف ابو النجا, وهو جار أعرفه منذ زمن, وأشعر من ناحيته بحب لي, هو على أي حال حب من طرف واحد. فأنا لم أكن أتصور أن ثمة امكانية لقيام حكاية حب في ما بيننا. فجأة اتضح لي انه انسان عاقل وواع. وكنا اقتربنا من بعضنا البعض حيث مثل دوراً وحيداً في فيلم "امبراطورية ميم" وكان في العام الاخير في كلية الهندسة. اذن, جاء سيف وعرض علي الزواج فسألته سؤالاً واحداً عليه ان يجيبني عنه قبل أن أتخذ قراري: "هل الانسان مخير أم مسير" فكان جوابه الذي أعجبني وسحرني: ان الانسان مخير في الخير ومسير في الشر. أعجبني ما في جوابه من وعي وتعقل, بقدر ما أعجبتني وسامته وكونه ابن عائلة كويسة وكوننا أبناء منطقة واحدة. وخيل الي أننا متفاهمان ويمكننا ان نكون اسرة صغيرة وتزوجنا. فعشنا حياة هادئة أحسست منذ البداية انه ينقصها شيء ما. لكن وضعت ذلك الاحساس جانباً, لأني لم أكن أريد لحياتي الجديدة أن تفشل. فجأة نصحتني أمي أن أنجب أطفالاً, لأن الاطفال وحدهم يوحدون الاسرة ويملأونها سعادة, فأنجبت طفلتي ياسمين. صحيح ان ياسمين ملأت حياتي سعادة منذ اول ايامها, لكنها لم تقربني من سيف. كان هناك خلل ما. ربما سببه صغر سننا صحيح انا كنت صغيرة السن ولكني قد أضحيت ذات تجربة فنية وحياتية كبيرة. وربما كان هذا الامر صعباً عليه هو الذي كان يومها مهندساً ناشئاً صغير السن. ولما لم أكن في وضع يمكنني من احتمال نزوات ومشاكل مثل ذلك الوضع انتهى الامر بي الى أن أطلب منه الانفصال فانفصلنا بكل هدوء وأخوة. وذلك لأن بيننا شيئاً غالياً وثميناً هو ياسمين. بعد الانفصال غصت في العمل من جديد. لأنني خلال فترة الزواج كنت أضحيت مقلة, نادرة الوجود فنياً. وكان الناس يعتقدون خطأ أنه هو سبب ذلك. لكن هذا ليس صحيحاً. كان كل تدخله هو انه قبل الزواج قال لي ان كل ما يطلبه مني في ما يتعلق بعملي التمثيلي هو الا تكون هناك قبلات ولا مشاهد بالمايوه فقبلت في التزام بدأ في العام 1973 ولا أزال غير راغبة في التخلي عنه حتى اليوم. لقد اقتنعت برأيه القائل ان نجاح الفيلم وقيمة الفنان لا تصنعهما القبلات او المايوهات. أنقذتني أمي من جنون الاعتزال * اذن, انفصال جديد, وغوص في العمل من جديد. فهل كان لهذه الحالة الجديدة أثر كبير على مستوى عملك وأدائك؟ - بعد انفصالي عن سيف غصت في العمل كلياً, وعملت في بعض أفضل افلامي, مثلت "اسكندرية ليه؟" و "سنة أولى حب" و "رحلة النسيان" و "حب لا يرى الشمس". يعني مجموعة أفلام متميزة نلت عنها العديد من الجوائز ونجحت كثيراً. لكني أنفقت فيها من الطاقة ومن استهلاك النفس ما جعلني ذات لحظة أشعر بارهاق جسماني وذهني. وقررت التوقف عن العمل وقلت لأمي أنني أنوي الاعتزال كلياً لأني اشعر بأنني قد حققت كل ما كنت أريد تحقيقه, وأريد الآن أن أتقاعد لأتفرغ لتربية ياسمين. فصرخت امي بي غاضبة: "انت مجنونة. انك تفكرين بالاعتزال في سن تبدأ فيها الممثلات الكبار عملهن. انت لا تزالين في بداية الطريق ولا يزال امامك مشوار طويل. انت لن تعتزلي, ستبدأين من جديد, وستنتجين وتخرجين وتدخلين عالم الفن اكثر وأكثر. حتكوني آسيا وماري كويني, حتكوني رمسيس نجيب. ليه ما يكونش عندك شركة انتاج؟". وراحت امي تتكلم وتتكلم وتحلي الشغل في عيني من جديد. والحقيقة ان منظر أمي وهي تتكلم بكل ذلك الحماس, بملامحها التي تشبهها ملامحي وبصوتها الذي صوتي نسخة منه أثر في كثيراً. لقد قابلتها اليس كذلك؟. * أجل رحمها الله, ولاحظت شبهك بها, ولكن كذلك خوفك عليها... - إذن بدأت افكر تفكيراً جدياً بخوض الانتاج, وتجددت طموحاتي وآمالي, خصوصاً وانه كان من بين نصائح أمي واحدة ضمنها أن اخذ اجازة وأرتاح بعض الوقت. في ذلك الحين كان من عادتي أن أتوجه بياسمين مرتين في السنة. وكنت أحب باريس لأن ياسمين تحبها. فكان من الطبيعي أن آخذها وأتوجه بها الى باريس حيث بقينا ثلاث سنوات كاملة, حدث لي خلالها ان اتيت الى مصر, ولكن من دون أن أمثل في أي فيلم. كنت أريد أن أخلد الى راحة طويلة قبل أن أبدأ من جديد, وبداية يتعين عليها أن تكون جدية. في باريس, رحت كالاطفال, أركض في الشوارع والساحات مع ياسمين طوال ثلاث سنوات, أحملها على كتفي وأركض بها. نضحك معاً, نأكل معاً نزور الاماكن الخالدة معاً. وعادت الي طفولتي وعاد الي حبوري, وارتبطت بياسمين بأجمل علاقة يمكن ان تقوم بين أم وابنتها الطفلة وشعرت انها باتت صديقتي الابدية. ولكن كان لا بد لكل ذلك ان ينتهي. وهكذا ما ان بلغت ياسمين الرابعة من عمرها حتى حملتها وعدت بها الى القاهرة, حيث أدخلتها مدرسة حضانية وقررت الاستقرار. وأذكر هنا أنني خلال الشهر الاخير من وجودي في باريس تلقيت اتصالاً من المخرج أشرف فهمي دعاني فيه لتولي بطولة فيلم يزمع تحقيقه بعنوان "المجهول" وهو مقتبس عن مسرحية "سوء تفاهم" للكاتب الفرنسي البير كامو. أرسل الي أشرف السيناريو وأنا في باريس فقرأته وأعجبتني غرابته, كما أعجبتني فكرة انه سيصور في كندا وكان ذلك السبب المباشر, على أي حال الذي أثار حماسي للعودة الى مصر والى السينما. كان النقاش حول الفيلم تلفونياً. وبعد عودتي الى مصر ذهبنا الى كندا حيث اشتغلنا على الفيلم. وأثار الامر كله شهيتي للانتاج فأنشأت مكتباً وشركة خاصين بي. وانكببت على العمل بنهم شديد, وبدأت أقوم بأدوار مختلفة, بدءاً بدوري الجديد والمفاجئ في فيلم "الشريدة" الذي أخرجني كلياً من عالمي الرومانسي القديم. وفي الوقت نفسه بدأت أكتب كتب "غداً سأنتقم" ومثلته. ورحت أهتم بالشعر وبالقصة القصيرة. أو بالاحرى, بكتابة الخواطر, لأنه, ربما كان فضفاضاً ان اسمي ما اكتبه شعراً. * ربما من الافضل ان نقول انك رحت تعبرين عن نفسك بالكتابة... - ربما... وربما كنت أكتب انطلاقاً من حكايات اسمعها. خذ "غداً سأنتقم" مثلاً, لقد كتبتها انطلاقاً من حادثة حقيقية روتها لي سيدة, فنقلتها كما هي بعد أن أضفت اليها بعض التشويق. وصاح الجمهور: حلو يا غزال * في ذلك الحين كنت أصبحت نجمة كبيرة مكرسة, لها جمهورها, فهل لنا, - في المناسبة - ان نعود بعض الشيء الى الوراء, لنرى كيف كان شعورك يوم قيض لك ان تحتكي بجمهورك الحقيقي للمرة الاولى؟ - مرة ثانية يقودنا هذا الى الحديث عن الراحل الكبير رمسيس نجيب فأول مرة التقيت الجمهور فيها بشكل مباشر, كنت في سينما ميامي حيث كان يعرض فيلمي الكبير الاول "أفراح". قال لي رمسيس نجيب يومها: "الآن سوف تظهرين أمام الجمهور فتحيينه وتوزعين صورك" وكانوا اتوا بكميات من صوري. كما كان رمسيس دربني على ذلك مسبقاً. في النهاية حين انتهى عرض الفيلم وأضيئت الانوار احسست انني دائخة وانني طائر من دون رجلين وانني سوف اقع على الناس. يومها امسكت امي بيدي وحييت الجمهور وأنا أرتجف فيما راح الجمهور يصفق بشدة. أما رمسيس فقال: نجاحنا هذا نجاح جزئي. امتحاننا الحقيقي سيكون في الاسكندرية بعد ان نلف البلاد. وبالفعل لفينا مدناً عديدة ثم وصلنا في نهاية الامر الى الاسكندرية, حيث ما ان عرض الفيلم وانتهى عرضه حتى دوى التصفيق, وصرخ متحمس من الصالة "حلو يا غزال" فابتسم رمسيس والتفت الي قائلاً "مبروك يا مشمشة دانت نجاحك هايل". بعد ذلك رحنا المنصورة وطنطا وسورية ولبنان. وكنت أرافق يوم العرض الاول للفيلم. وكان ذلك نظاماً جميلاً يقرب النجم الى جمهوره. كانت السينما تصنع, أيامها, بشكل صحيح, لو تعود هذه العادات اليوم, ستعود السينما الى دربها الصحيح. * ترى حين حققت اول نجاح عالمي كبير لك عبر جائزة التمثيل التي نلتها عن دورك في الفيلم "أحلام هند وكاميليا" خلال مهرجان طشقند في اوزبكستان في الاتحاد السوفياتي, هل تذكرت لحظة النجاح الاولى في اسكندرية؟ - للاسف عندما نجح "أحلام هند وكاميليا" في طشقند لم أكن موجودة, والحقيقة ان الاستاذ سعد الدين وهبة كان اتصل بي قبل سفر الوفد الى طشقند وأخبرني ان اللجنة رأت الفيلم وأعجبها وانني يجب أن أرافق الوفد لحضور العرض, لأنه من المؤكد انني سأفوز يجائزة كبيرة. فاعتذرت بسبب امتحانات ياسمين, وأنا أقول: "داحنا فين وهم فين؟ ازاي يمكن نفوز بجائزة تمثيل في مهرجان عالمي من هذا النوع؟ معليش بلاش أسافر" ولم أسافر. بعد أيام فيما كنت أستمع الى نشرة الاخبار في التلفزيون فوجئت بخبر يقول ان الفنانة المصرية نجلاء فتحي قد فازت بجائزة التمثيل عن دورها في "أحلام هند وكاميليا". فأغمي علي لأنني لم أكن أتوقع مثل ذلك الفوز. من طريف ما حدث يومها ان والد بنتي المهندس سيف اتصل بي من بلد بعيد كان موجوداً فيه ليقول لي: مبروك, لقد سمعت انك سوف تذهبين الى الهند للتمثيل في فيلم اسمه كاميليا. فصلحت له الخبر قائلة له ان ليس في الامر هند ولا يحزنون, بل انني فزت عن دوري في فيلم اسمه "أحلام هند وكاميليا" فضحكنا معاً. وبعد ذلك تلقيت مكالمة من سعد الدين وهبة، وبعده كان الفنان احمد زكي اول من هنأني من بين الزملاء. الغريب ان الحكاية نفسها حصلت مرة ثانية في العام التالي مع فيلم "عفواً أيها القانون" من اخراج ايناس الدغيدي. اذ هنا، من جديد، رفضت السفر من اجل امتحانات ياسمين. ثم كلمتني ايناس الدغيدي لتقول لي مبروك وهي تبكي، ثم ضحكت وهي تروي لي كيف ان جمهور المهرجان اعتقد انها هي نجلاء فتحي حين توجهت لتتسلم الجائزة محلي، وصفق لها طويلاً، وطلب توقعيها. ان الحصول على الجائزة شعور جميل. حتى الجائزة الاخيرة التي تلقيتها من المركز الكاثوليكي اعطتني شعوراً كبيراً بالسرور والسعادة. * هل نلتيها عن كل اعمالك؟ - لا.. عن فيلم "الجراج" وحده. * لكن عمره اكثر من سنتين. - لا... لم يبلغ السنتين بعد، على العموم انا نلت عليه في العام الماضي جائزة احسن ممثلة في المسابقة التي يقيمها صندوق التنمية القومية. ومنذ ايام اخبرتني جمعية في بريطانيا انني نلت جائزة افضل ممثلة عربية عن فيلم "الجراج" نفسه، وذلك في استفتاء تلفزيوني يجري بين الوف المتفرجين. من الحياة الى السينما وبالعكس * مسارك السينمائي فيه، حتى الآن، اكثر من سبعين فيلماً... - 75 فيلماً اذا اردت مزيداً من التحديد. * حسناً... بين هذه الافلام افلام تعني كثيراً لتاريخ السينما وأفلام قد لا تعني اكثر من كونها محطات في تاريخك الخاص، وربما لن تعيش طويلاً خارج علاقتك بها. - الحقيقة، انا احب كل افلامي واعتز بها. وأحس انها كانت صحيحة ولو في الزمن الذي تحققت فيه فأتت كما كان يجب عليها ان تأتي. على اي حال، ربما كان هذا الكلام ينطبق علي حين كنت صغيرة لا افهم كثيراً ما هو المناسب عمله. ومع هذا اشعر الآن انني لو بدأت اقوى لكنت سقطت. المهم بالنسبة الى الفنان الا يستعجل ابداً، بل يبدأ بالبسيط، بالذي يقدم به نفسه، وبعد ذلك ينطلق نحو الاعمق. كان المهم ان افهم وأتدرب وان امشي مع عمري بالتدريج. الحياة الحقيقية يجب ان يكون فيها شيء على الشاشة... * انت شخصياً هل تعتقدين ان ثمة جزءاً ما من حياتك على الشاشة. - أكيد... * في المقابل، هل انعكست على حياتك ادوار لعبتيها على الشاشة؟ - هناك ادوار عديدة استفدت منها فنياً، لكني لا اعتقد انني استفدت منها حياتياً... * ادوار تقمصتك مثلاً، ولو لفترة في حياتك... - ربما خلال فترة الاداء لا اكثر. يمكن للادوار التي تحمل قدراً ما من الجدية والالتزام ان تفرض حضورها على حياة الفنان. ليس الدور تماماً، بل نوع الدور. لأن الجمهور قد يضعك في هذا المكان. تخيل مثلاً انا في سني وبنتي عروسة لم اشرب سيكارة في مكان عام يدهش الناس ويقولون: معقولة؟ ايه الرومانسية دي؟ انا على العموم لا اظهر في الاماكن العامة الا في المناسبات الكبرى والضرورية. مهما يكن فإن الادوار التي امثلها تفرض عليّ حضوراً اخلاقياً معيناً. فأنا لا يمكن ان امثل ادوار البنت الرومانسية واقنع الناس بها ان كانت حياتي مختلفة كثيراً عن ذلك. وان كانت هناك نصائح من حول حياتي في الصحف. كيف امثل البنت الغلبانة ثم احتفل بعيد ميلادي احتفالاً انفق عليه 100 الف جنيه؟ مش معقول. فالذي اعمله على الشاشة يفرض حضوره علي غصباً عني. وهذا لا يكلفني على اي حال الا ان انظم حياتي وان ابادل حب جمهوري لي بحبي له. فيحبني اكثر، وفي هذا ما فيه من لذة الرضا الداخلي. الحلقة المقبلة: محطات سينمائية اساسية في حياتي