في القاهرة، قصدت "الوسط" يسرا، لمناسبة التكريم ولمناسبة المحاكمة، وغاصت معها في ذكرياتها ومسارها الفني، وكانت النتيجة حواراً غنياً وشاملاً ننشره على حلقات أربع هنا أولاها. "لا اعتقد انني أنا المستهدفة بهذا، المستهدفة هي مصر، والمستهدف هو كل ما تنتجه مصر من جمال وفن يضج بالحيوية. ومن هنا فانني لم استغرب أبداً أن يعلو هذا الضجيج المزعج والمؤلم في الوقت الذي يكرمني سينمائيو العالم ويكرمون من خلالي مصر والفن المصري والمرأة المصرية". بهذه الكلمات ردت يسرا علينا حين سألناها عن رأيها في الدعوى المقامة عليها بتهمة سماحها بنشر صورة لها مستقاة من فيلمها الأخير "طيور الظلام". صحيح ان يسرا خائفة، لكنها ليست خائفة على نفسها، بل على الفن في مصر وعلى الانسان في مصر. وليس من الغريب ان تكون هي المستهدفة، هذه المرة، ففي الآونة الأخيرة، بات التطرف يستهدف أي اسم وأي صوت يصل الى خارج الحدود المصرية ويحاول أن يقول إن مصر تحيا على رغم كل شيء. فالطعنة التي وجهت الى عنق نجيب محفوظ وجهت الى مصر التي لا تزال تعتز بنيل جائزة نوبل، والهجوم الذي تعرض له مرة اثر مرة، الفنان عادل إمام جاء في الوقت الذي طبقت شهرة هذا الفنان الآفاق، وبات المعبر ليس فقط عن ضمير مصر، بل عن ضمير المواطن العربي ككل. وفيلم يوسف شاهين "المهاجر" هوجم وحوكم لأنه قال إن مصر قادرة ايضاً على صنع أفلام لها مستوى عالمي، في موضوعها وشكلها. وقبل هؤلاء اغتيال فرج فودة لأنه قال إنه يمكن للاسلام أن يعيش في هذا العصر ويعايشه. واضطهد المفكر حامد أبو النصر لأنه قال ان الاسلام فكر معاصر شرط أن نفهمه. على رغم خوفها وقلقها، تشعر يسرا اليوم ببعض الفخر فهي ما كانت تعتقد أبداً ان صورة في فيلم كانت كافية لوضعها في مستوى هؤلاء المثقفين الكبار. وأن بامكان الفنان الذي لا يعيش الا للفن ان يكون مزعجاً لمن لا يحبونه. المهم، يسرا اليوم قيد المحاكمة. وكان من المفروض ان تبدأ محاكمتها خلال النصف الأول من كانون الثاني يناير، بناء على دعوى أقامها محاميان. لئن كان محاميان، وربما شيخ طالبا بمقاضاة يسرا، بسبب صورة نشرت على غلاف مجلة فنية، فإن عشرات المحامين تطوعوا للدفاع عن هذه الفنانة التي تواجه عقوبة السجن لمدة سنتين ودفع غرامة قدرها 500 جنيه طبقاً لقانون يعاقب على "طبع ونشر أو توزيع صور أو منشورات منافية للآداب والأخلاق العامة". والفيلم الذي انتزعت الصورة منه هو "طيور الظلام" من اخراج شريف عرفة وتمثيل عادل إمام ويسرا وجميل راتب، وهو يعرض في مصر منذ أشهر ويحطم أرقاماً قياسية. الفنان عادل إمام حين علم بالدعوى المقامة على يسرا، قلق لكنه كعادته ابتسم قائلا: ان هؤلاء الذين يطاحنون يسرا يقدمون الى الفيلم خدمة اضافية، فبسببهم سيزداد عدد المتفرجين ملايين أخرى. يسرا، التي كانت كرمت أواخر العام الفائت في باريس ونانت، وكرست لها كبريات الصحف الفرنسية صفحات ومقالات أثنت من خلالها على الفن المصري، تقول انها، رغم كل شيء، تشعر ببعض القلق ليس من أجلها ولكن من أجل الفن عموماً. فإذا تمكن بعض المتزمتين من فرض ارادتهم أين سيصبح الفن؟ لكنهم لن يتمكنوا من ذلك تقول يسرا بهدوء، ربما لتدفع القلق بعيدا. "لن يتمكنوا" لأن الشعب المصري لن يمكنهم من ذلك، "فأنا، تضيف، منذ الضجيج الذي أحاط بهذه القضية لم أتوقف لحظة عن تلقي المكالمات والرسائل والبطاقات المشجعة، ما جعلني أحس أن العطاء الذي يقدمه الفنان لا يمكن له، أبداً، ان يضيع هباء. وانه اذا كان ثمة ما يحمي الفنان حقاً، فإن حب الناس له، بعد رضا الله عليه، هو الذي يحميه". ثم تبتسم يسرا ببعض العصبية وتقول: على أي حال، لقد كانت مسيرتي الفنية حتى اليوم مسيرة مستقيمة، انتقل فيها من مرحلة الى مرحلة ومن نجاح الى آخر، وحان الوقت أخيراً حتى أعيش بعض المتاعب. فالمتاعب ليست وقفاً على حكايات الأفلام. ومسيرة يسرا الفنية بات عمرها الآن أكثر من عشرين سنة. وهي عبارة عن رحلة قطعتها هذه الفنانة من دون ان تدري كيف مرت السنوات، هي التي تحولت من طفلة متلعثمة حالمة تجلس منزوية مسحورة في صالون ليلى مراد صديقة والدتها، الى نجمة ذات مستوى عالمي، ومن مراهقة مشاكسة، الى امرأة ناضجة تعتبر جزءاً من واقع السينما المصرية. على مدى اكثر من عشرين عاما عرفت تلك الصبية الشقراء القلقة دائماً المتعلثمة دائماً، كيف تغزو قلوب متفرجيها وكيف تصبح الفنانة المفضلة بالنسبة الى المثقفين وهواة السينما، في الوقت نفسه الذي عرفت كيف تطل على الجمهور العريض من خلال أدوار متميزة أتاحها لها العمل مع عادل إمام الذي شاركته في عدد لا بأس به من أفلامه. ترى هل تشعر يسرا اليوم بالضياع بين عالمي صديقيها المفضلين في لعبة الحياة السينمائية: يوسف شاهين وعادل إمام؟ كيف تفكر يسرا؟ كيف وصلت الى السينما؟ كيف تنظر الى مسيرة حياتها؟ كيف تثمن تكريمها وشهرتها المتزايدة في أوروبا؟ وكيف تطل على الأفلام التي مثلت فيها، ويكاد عددها يصل الى عشرين فيلما، بعضها من أفضل ما حقق في مصر من "الصعاليك" الى "المهاجر" ومن "حدوتة مصرية" الى "مرسيدس" و"المنسي" و"طيور الظلام"؟ مسار يسرا، كان سبق لنا في "الوسط" ان رسمنا خطوطه الرئيسية قبل اسابيع لمناسبة تكريمها في مهرجان "نانت" في الغرب الفرنسي، حيث أقيم احتفال خاص بها، عرضت خلاله افلام مهمة من تمثيلها، وهو تكريم كان له صدى كبير في مصر. واليوم استكمالا لرسمنا لمسار هذه الفنانة الاستثنائية، نقوم برحلة في حياة يسرا على لسانها، رحلة شئناها أن تروى بكل عفوية وصدق، مباشرة على لسان هذه الفنانة التي قبلت ان تلعب اللعبة مدركة ان صدق الفنان وعفويته هما خير سلاح يجابه به قلق العالم وبؤسه، وظلم الانسان للانسان. هذا الحوار الذي ننشره على حلقات، جرى في القاهرة عبر جلسات عدة كان دور "الوسط" فيها ان تحرك ذاكرة يسرا التي تحركت بسهولة على رغم القلق الذي هو جزء من شخصيتها وواقعها، وعلى رغم الألم الذي سببه لها الضجيج الذي ثار من حول صورتها. وآثرنا ان نباشر غوصنا في حياة يسرا منذ البداية، منذ أول لحظات وعيها كطفلة على العالم والسينما. "أمينة رزق" تضحك على الجدة تعالي نغوص عميقا بعض الشيء في ذاكرتك، ونحاول أن نكتشف كيف وصلت الى السينما. كيف كانت الطفلة يسرا. وما هي المكونات الأساسية لشخصيتك قبل السينمائية؟ - بصّ يا سيدي. عندما أحاول ان أتذكر طفولتي اليوم يتخيل الي انه كان من المقدر لي، أصلا، أن أصبح فنانة، لكني لم أكن أعلم ذلك بالطبع. اذكر مثلا، انني حين كنت صغيرة جداً، في العام الرابع أو الخامس من عمري، حين كنت أريد أن أطلب شيئاً من أمي أو من جدتي، ألوي "بوزي" و"أقرف" البيت بعياطي وحزني، فكانت جدتي تنظر إلي ملياً وتقول: "هيه انتي حتمثلي أمينة رزق وتضحكي عليّ". وكنت أقلد الناس منذ ذلك الحين، واعلن بألف طريقة وطريقة عن حبي للتمثيل. في المدرسة بعد ذلك اتجهت صوب رقص الباليه فكنت "الباليرينا" رقم واحد في الصف، كما كنت أحب الموسيقى وأعزف على البيانو، وأمارس الرسم. كانت لدي ميول فنية عديدة لافتة. لكني أبداً لم يخيل إلي في ذلك الحين انني سأصبح ممثلة فعلاً. كنت في السابعة عشرة من عمري عندما أصبح هذا الأمر جديا للمرة الأولى، صحيح ان فرصتي الأولى جاءت عن طريق الأستاذ عبدالحليم نصر كما كتبت "الوسط" منذ أسابيع، لكنها كانت الفرصة الأولى التي تحققت. اذ كانت هناك قبلها فرصة أولى لم تتحقق، وهي حكاية لا يعرفها الكثيرون واكشف لك عنها الآن للمرة الأولى. فالحقيقة ان حسن الإمام، المخرج الكبير الراحل، كان أول من اكتشفني، التقيته مصادفة في بيت جارة لنا في الزمالك، فسألني اذا كنت أحب التمثيل فأجبته بالايجاب، فطلب مني ان أحاول التعبير عن خوف وقلق بنت حصبية تركض حزينة مرعوبة نحو طبيب لتخبره بأن أمها ستموت. مثلت المشهد، كما يبدو، بشكل جيد ما جعل حسن الامام، رحمه الله، يسألني قائلا: "انت يا بنت موهوبة. ايه، انتي بتمثلي كده عالطبيعة، ولا درست فن التمثيل" فقلت له: "لا.. ده كده ربّاني". فسألني إذا كنت أحب أن أمثل دوراً في فيلم "العذاب فوق شفاه تبتسم" الذي كان يستعد لاخراجه، رضيت، وكان الدور هو الذي لعبته الفنانة صفية العمري بعد رفض أبي لأن الدور كان لعشيقة وابنته التي لم تكن تجاوزت السادسة عشرة من عمرها لا يمكن أن تمثل دور عشيقة. بعد ذلك مرت سنة والتقيت في ظروف مشابهة عبدالحليم نصر الذي اعطاني أول دور في حياتي: دور البطولة في فيلمه الوحيد "قصر في الهواء" وعلى ذلك النحو ابتدأت حياتي الفنية. هل يمكن أن أتعرف، بعض الشيء، الى يسرا المراهقة قبل ذلك؟ - أيام طفولتي ومراهقتي كانت عادية، تقريباً، فيها ما هو حلو وفيها ما هو مر. أحلى الأيام هي تلك التي أمضيتها في المدرسة، أو مع أمي وفي بيئة أهل أمي. كنت، كما قلت لك، بنتاً شديدة الدينامية. وكنت في المدرسة شاطرة أحب الشغل. كنت - صدقني - عبارة عن شعلة ذكاء ونشاط وحركة. كنت أعامل حتى الصبيان وكأنهم بنات. استثني منهم الفتى الذي أحبه، فأعامله كرجل وأتحول معه الى انثى حقيقية. وظل ذلك وضعي حتى انتقلت لأعيش مع والدي، وكانت تلك هي المرحلة التي بدأت فيها حياتي الفنية. كان ذلك قبل أكثر من عشرين سنة. يومذاك دخلت الفن وأنا غير مدركة أي بعد من أبعاده. كنت مجتهدة فقط. لذلك مثلاً، كنت أذهب الى معهد السينما من دون ان أكون منتمية اليه. كنت أشارك الطلاب أعمالهم وأراقبهم وهم يقومون بتوليف مونتاج أفلامهم، ساعات، ثم أخرج وأسأل نفسي عن معنى ما يفعلون. أقول قصة ايه ؟ وسيناريو إيه؟ ومكساج ايه؟ ثم اذهب الى الاصدقاء اسألهم عن معنى ذلك كله. وكان الأصدقاء يساعدونني ويعتبرونني واحدة منهم، الى درجة انهم، ذات يوم حين احتفلوا بطلاب المعهد وطالباته اعتبروني واحدة منهم ولم ينتبه احد الى انني مجرد متفرجة فضولية. هذا كله كان، على أي حال، قبل أن تبدأ حياتي الفنية. من فاتن إلى ماما مديحة قبل ذلك، حين كنت طفلة وتشاهدين أفلاماً، على الشاشة الكبيرة أو الصغيرة، هل كنت تتخيّلين نفسك بين الممثلين والشخصيات؟ - ليس تماما. كل ما في الأمر انني كنت أحس بنفسي مسحورة، كان يغلفني سحر الصورة والشاشة. كنت أشعر، بالأحرى، أنني داخل سحر السينما ككل، من دون أن أشعر ان بامكاني ان أكون مكان أي ممثلة. مَن مِن الممثلات كنت تحبين في ذلك الحين؟ - أول ما وعيت على فن السينما، بل على الحياة نفسها، كنت - ولا أزال حتى اليوم - أحب السيدة فاتن حمامة، تليها شادية وهند رستم ثم ماما مديحة. أجل مديحة يسري، كانت صديقة لأسرتي وكنت ادعوها ماما مديحة. الفنانات من هذه الطينة كان لهن حضور كبير في حياتي، وفي حياة كل بنات جيلي. كان يحيط بهن نوع من السحر. كان سحرهن ينبض في داخلي وتتملكني رغبة خفية في أن أكون دائماً معهن، جزءا منهن. والحقيقة اني ولدت وترعرعت في بيئة فنية قريبة، فماما وصاحباتها كن صديقات لليلى مراد. تصور اني كنت أرى ليلى مراد أمامي وأنا عمري 7 سنين. كنا نقطن حياً، يعيش فيه كثير من الفنانين. السيدة شادية والاستاذ صلاح ذو الفقار كانا جارينا واقسم لك انني حين شاهدتهما لأول مرة بأم عيني، ركضت نحو أمي أقول لها وأنا الهث: "ماما... ماما... لقد شاهدت شادية حقيقي، عيني عينك". وكان وقع ذلك علي كبيرا جدا، كان وقعه عبقريا كأنك تقوم بصب الماء الطازج لتغسل به عيني ودمي لتغير كياني كله وتعطيني شحنة عجيبة وطموحا لا حدود له. كنت أتعمد ان أرافق أمي لاتفرج عليهم: ليلى مراد، منير مراد، سهير البابلي. حتى الكاتب الكبير الاستاذ نجيب محفوظ، رأيته للمرة الأولى في بيت ليلى مراد. طبعا لم أكن أعرفه يومذاك، ولا أعرف انه كاتب كبير، لم أكن قرأت أي كتاب له. عرفت من هو بعد ذلك بزمن طويل. في زمن كنت بدأت أشعر فيه كما لو أن ربنا اختار لي هذا المستقبل وجهزني له من دون أن يجعلني أحس بذلك... كان شعورك في البداية شعور المتفرجة لا أكثر؟ - آه... طبعا. لم يكن خيالي وأفكاري تسير بي لدرجة اعتقد معها انني، حقا، سوف أصبح جزءا من ذلك العالم السحري. كنت متفرجة بكل معنى الكلمة، تصور انني كل يوم خميس وجمعة كنت أحرص على أن أشاهد، في صالات السينما، ثلاثة أفلام. وحتى خلال أيام الدراسة كنت أسهر على التلفزيون أشاهد ما تعرضه من أفلام، وحين يتقدم الليل ويصبح من الضروري لي أن أنام لكي أذهب الى المدرسة في اليوم التالي، كنت أزعم أمام جدتي انني جائعة و"يخلصك يا ستي اني أنام من غير أكل؟" فتسمح لي وأضع الطعام أمامي لا أتناوله حتى يخلص الفيلم فأقول لها: خلاص شبعت. وأذهب الى النوم وما أن اغفو حتى تبدأ الأحلام حول الفيلم الذي شاهدته تداعب نومي القلق... هل هناك أفلام من تلك المرحلة لا تزال عالقة في ذاكرتك أو تعتقدين انها أثرت في تكوينك؟ - مش فاكرة تماما. هناك، طبعا، عشرات الأفلام العربية، خصوصا أفلام فاتن حمامة، وليلى مراد وشادية ونعيمة عاكف، وهناك أفلام الكرتون، ثم خصوصا أفلام هتشكوك التي كانت لها عندي مكانة خاصة. المهم انني خلال تلك المرحلة لم أكن اعتقد انني سوف أصبح ممثلة. رمسيس لا مبسوط ولا زعلان كيف كان شعورك حين عرض عليك حسن الإمام أن تمثلي؟ - بعد أن اعتقدت الأمر، لأول وهلة، مجرد مزحة، كدت أطير من الفرح خصوصاً ان حسن الإمام اصطحبني معه الى ستديو مصر، حيث قابل المنتج الكبير رمسيس نجيب الذي كان ذا سمعة فنية كبيرة في ذلك الحين، ولم أكن قابلته قبل ذلك، فنظر الي نظرة حيادية لا تعني أي شيء، وأطال نظرته حتى ارتبكت وغضبت، والتفت الى الأستاذ الإمام قائلة: "ايه يا أستاذ حسن، انا مش عارفة إذا كان الأستاذ رمسيس مبسوط مني ولا زعلان" فزجرني حسن الإمام قائلا: "ايه ده يا بنت... بلاش لماضة". اما رمسيس فقال ببساطة: "خد بالك من البنت دي. دي حتطلع لمضة. أنا في حياتي ماحدش سألني ببص له كده ليه". ولست ادري حتى اليوم سبب رد الفعل العدواني الذي قمت به في ذلك الحين. المهم ان مشروع عملي مع حسن الإمام فشل بسبب عناد أبي. لينجح مشروع عملي مع عبدالحليم نصر الذي اعطاني فرصتي الأولى. في البداية أدهشني اني تحولت الى ممثلة. ولكن بعد ذلك رحت أسأل نفسي عن معنى كل هذا ورحت أحلم، باكرا، بأن استطيع تأدية رسالة من خلال الفن. في البداية كانت المسألة بالنسبة إلي مسألة شهرة ونجاح. ولم أكن أتصور الابعاد الحقيقية لما أنا فيه ولمعنى الفن وماهيته، وحقيقة دور الفن في المجتمع. ولكن بعد ان عشت كل ذلك وصرت جزءا منه، ابتدأت أشعر وأتمنى بأن يقال بعد أن أموت يوما، ان هذه المرأة تركت وراءها علامة. لم تمر، هكذا، مروراً عابراً، بل تركت "حتة" منها تشير الى روعة الفن وقوته. اليوم أشعر بأنني عملت الصعب والسهل، مثلت في الفيلم التجاري وفي الفيلم الفني، خضت سينما الرسالة الصح والسينما المتسرعة، الكوميديا والدراما... وأنا، عبر ذلك كله، احقق تراثاً، أو قل جزءاً من تراث. ليس تراث يسرا طبعا، بل تراث البلد وتاريخ فن السينما، التراث الذي يتعدى شخصي واهميتي الشخصية. لقد كان هذا كله يجول في خاطري، أخيراً، وأنا ادخل الى رحاب معهد العالم العربي في باريس. كنت أبكي من شدة الفرح. كنت أشعر انني حققت في تلك اللحظة معظم ما تمنيت في حياتي، بل حتى امنياتي المكبوتة ايضاً. شعرت في تلك اللحظة ان تلك هي خلاصة عشرين سنة من العمل الفني وخلاصة السنوات التي سبقتها. نظرت وعادت بي الذاكرة الى الماضي، وتذكرت يسرا الطفلة التي تود الهرب من المدرسة لكي تشاهد فيلماً، الطفلة التي تجلس في ركن في صالون ليلى مراد تشاهد وتسمع ما يدور حولها من دون أن تفهم شيئا، وقد غمرها سحر عجيب. هذه الطفلة هي التي كانت تكرم في تلك اللحظة في معهد العالم العربي، وهي التي كرموها في "نانت" مع فارق كبير: في "نانت" شعرت ان التكريم لي شخصيا، أما في "المعهد" فأحسست ان تكريمي جزء من تكريم مصر وسينما مصر... هكذا انتزعت الألف بوسة أول دور لك كان في "قصر في الهواء" الفيلم الوحيد الذي حققه عبدالحليم نصر، فهل كان دورك فيه كبيرا أو ثانويا؟ - كان دور البطولة. تصور، أنا أول ما دخلت السينما دخلت بطلة. كان الى جانبي في الفيلم مصطفى فهمي، شقيق حسين فهمي. بعد ذلك الفيلم مثلت في "عشاق تحت العشرين" من اخراج هنري بركات. ثم "ابتسامة واحدة لا تكفي" وهو من اخراج محمد بسيوني، ونلت عليه جائزة أفضل ممثلة في العام 1979، وكانت أول جائزة أنالها في حياتي. عندما علمت بأمر الجائزة كنت في لندن أمثل في مسلسل "الشاهد الوحيد" مع الاستاذ فريد شوقي والفنانة سهير البابلي. والطريف ان أحداً لم يكن رشحني للجائزة فكانت مفاجأة حقيقية جعلتني أطير من الفرح، وأتذكر اليوم انني رحت اقفز وأطير من فرحي وأصرخ: لقد نلت الجائزة. يومها وقف فريد شوقي يضحك علي ساخراً ويقول لي: "جائزة ايه وهباب ايه. انت فرحانه النهارده؟ بكره ما يهمكيش يا اختي حتفهمي الدنيا أكثر والجوائز أكثر" كنت فرحانة من كل قلبي وبكل سذاجة. بعد ذلك كان فيلم "ألف بوسة وبوسة". وهذا الفيلم عندي "معاه" حكاية لا أنساها. ففي تلك السنوات، وقبل ان أصل الى السينما كانت السيدة سعاد حسني مثلت في فيلم "خللي بالك من زوزو" وضربت فيه رقماً قياسياً في النجاح. لقد شاهدت هذا الفيلم مليون مرة، وفي كل مرة كان اعجابي به وبسعاد حسني يزداد. بعد ذلك كان فيلمها "أميرة... حبي أنا" وكانت سعاد حسني سيدة الشاشة في ذلك الحين من دون منازع، وراحت الصحف انطلاقاً من نجاح هذين الفيلمين تقول بأن سعاد حسني سوف تمثل في فيلم ثالث من النوع نفسه اسمه "ألف بوسة وبوسة" وكنت أقرأ الاخبار وأقول في نفسي: "ياه... هل يمكن لفتاة مثلي ان تصبح فنانة وتنطلق من حولها الاخبار والاشاعات المتعلقة بفيلم له طرافة اسم هذا الفيلم". وتمر السنوات وتعتذر سعاد حسني عن عدم الاشتراك في الفيلم، وأكون أنا في بداياتي. ثم تُرشَّح ميرفت أمين للدور نفسه، ثم تعتذر، وتمر سنوات أخرى وأكون أنا حققت بعض النجاح في أفلامي الأولى. وتحدث المعجزة الصغيرة: ينفذ مشروع "ألف بوسة وبوسة" ويسند إلي الدور الأساسي فيه. ما هذا الحلم الذي تحقق يا ربي؟ دور آخذه من سعاد حسني ومن ميرفت أمين؟ وفيلم أمثله والى جانبي حسين فهمي ونجوى فؤاد وسمير غانم وعبدالمنعم مدبولي مرة واحدة؟ نجوى فؤاد كانت هي منتجة الفيلم وانفقت عليه بسخاء لأنها ارادته منذ البداية فيلماً كبيراً وناجحاً. طبعا، كان "ابويا" بالمرصاد واعلن انني لا يمكن أن أمثل في هذا الفيلم. لماذا؟ لأنه في الأفلام السابقة كان يرفض أن أمثل في أي فيلم في "بوسة" واحدة، فكيف يرضى أن أمثل في فيلم فيه "ألف بوسة وبوسة". ولكن انتهى الأمر به الى الاقتناع، ومثلت الفيلم وحققت فيه مزيداً من النجاح، وكان دوري فيه، الخطوة التي قادتني الى العمل مع عادل إمام. والعمل مع عادل إمام كان في حد ذاته مرحلة ثانية وأساسية في حياتي الفنية. الحلقة المقبلة "من عادل إمام الى يوسف شاهين"