البرلمان الذي دعي اللبنانيون الى انتخابه هو البرلمان الذي سيعبرون في ظله الى القرن المقبل، وهو البرلمان الذي سيتولى انتخاب خلف للرئيس الياس الهراوي بعد اقامته المديدة في قصر بعبدا. لا اوهام لدى اللبنانيين، فالبرلمان الجديد سيكون اشبه بطبعة جديدة منقحة لبرلمان 1992 والأمر نفسه بالنسبة الى رئيس الجمهورية المقبل، ذلك ان موازين القوى التي انتجت البرلمان الذي انتهت ولايته والرئيس الذي مددت اقامته لم تتغير بل ازدادت رسوخاً. لا شيء يوحي بتغييرات في الخارج او الداخل. فعلى صعيد السياسة الخارجية يحظى خيار التطابق مع سياسة دمشق، خصوصاً في شأن عملية السلام، بتأييد كاسح في الاوساط النيابية والسياسية. وفي الداخل تزداد بدعة الترويكا رسوخاً ومعها التجاذبات والهدنات داخل جمهورية الرؤساء الثلاثة. من هم نجوم الحياة البرلمانية والسياسية في لبنان عشية القرن المقبل؟ لا تبدو الاجابة صعبة عن هذا السؤال لكن الوقائع تفرض الاشارة الى ان زعماء نهاية القرن او السياسيين البارزين يختلفون بالضرورة عن اعضاء نادي النجوم في الستينات والسبعينات ذلك ان الزعامات اليوم أقل بريقاً وقدرة على القرار لأن صناعة الزعامة لم تعد شأنا لبنانياً صرفاً في ظل السلام اللبناني الذي تديره سورية. ولعل الوسيلة الأفضل لقياس النجوم تبقى مراقبة صعود السياسيين داخل طوائفهم او قياس موقعهم المستمر داخل هذه الطوائف. زعامة بري زائر المصيلح لا يحتاج الى دليل على ان زعامة نبيه بري هي من قماشة الزعامات الراسخة. وهذه الزعامة محصلة لجملة عوامل ومواقف بدأت بالعمل مع الامام موسى الصدر ثم بالوقوف في وجه السيطرة الفلسطينية في جنوبلبنان وقيادة حركة "أمل" والمشاركة في اطلاق المقاومة ضد اسرائيل وتزعم "انتفاضة 6 شباط" فبراير 1984 على حكم الرئيس امين الجميل وصولاً الى رئاسة مجلس النواب في 1992، هذا من دون ان ننسى عاملاً حاسماً في صعود الزعامات الجديدة في لبنان وهو عامل التحالف مع سورية. في "انتفاضة 6 شباط" نقل بري طائفته من ضاحية القرار اللبناني الى صلب هذا القرار، عزز موقعها على الصعيد الوطني وانتزع لها حصة اكبر في مؤسسات الدولة. وجاءت براعة بري في ادارة المجلس الذي انتُخب في 1992، وان من ضمن الاحترام الصارم والكامل للخطوط الحمر التي تحكم الوضع الحالي في لبنان، لتضيف الى رصيده. كان صعود بري سريعاً في الثمانينات وتوّج بتوليه الرئاسة الثانية في التسعينات. حقق للجنوب او انتزع له في سنوات ما تعذر على الجنوب تحصيله في غضون عقود. لكن زعامة بري لم تصل الى حد تكريسه زعيماً وحيداً لطائفته اذ بدا مبكراً ان عليه التعايش مع القوة الأخرى التي يشكلها "حزب الله"، خصوصاً بعدما ظهرت ارجحية الحزب في البقاع وقوته في الضاحية الجنوبيةلبيروت. واقتضت طبيعة العلاقات الايرانية - السورية ومستلزمات التفاوض مع اسرائيل ابقاء "حزب الله" خارج خطة حل الميليشيات ومكّنه انفراده تقريباً بأعباء المقاومة لاسرائيل في الفترة الأخيرة من تعزيز موقعه ورصيده. ومرة جديدة تبدو العلاقة بين "امل" و"حزب الله" محكومة بضرورات الائتلاف جنوباً مع حفظ الارجحية ل "امل"، وبقاعاً من حفظ الارجحية للحزب. وعلى رغم الخلاف في شأن مطالبة الحزب بزيادة حصته على اللائحة الائتلافية في الجنوب في ضوء احتمال تراجع حصته من المقاعد غير الشيعية في البقاع فان المرجح ان يكون الائتلاف هو الخيار الغالب في النهاية. فأي مواجهة انتخابية بين "امل" و"حزب الله" في جنوبلبنان يمكن ان تتحول مواجهة دامية بسبب استمرار وجود السلاح هناك ويمكن ان تؤدي الى اختراقات وفوضى في النتائج وهو ما لا تحبذه سورية. وجود "حزب الله" في البرلمان طبيعي بسبب امتلاكه قوة فعلية في الشارع الشيعي. ووجوده مرغوب لأن حضوره النيابي سيكون التعويض الذي سيضطر الى القبول به في حال التوصل الى تسوية سلمية. ووجود بري شريكاً كبيراً وفاعلاً في "الجمهورية الثانية" ومن موقع الارجحية في الساحة الشيعية ضروري ليس فقط لأن تيار "امل" واسع اصلاً بل ايضاً لأنه السد امام احتمال اجتياح "حزب الله" الذي يتزعمه السيد حسن نصرالله التمثيل الشيعي وهو امر يمكن ان يثير قلق اكثر من فريق داخلي واكثر من عاصمة اقليمية ودولية. بهذا المعنى تبدو الزعامة الشيعية محكومة حالياً ب "توازن الاقوياء" وبغياب الزعامة الوحيدة التي لا شريك لها. طبعاً مع ملاحظة التراجع الواضح لنفوذ البيوتات السياسية ذات النفوذ التقليدي في الساحة الشيعية اذ بات على ممثلي هذه البيوتات السعي الى مقعد في اللائحة الائتلافية المحظوظة التي يصعب الانقلاب عليها او اختراقها. الحريري والحجم والزعامة على صعيد الطائفة السنية تبقى معركة الزعامة مرهونة بقرار الرئيس رفيق الحريري لجهة خوض الانتخابات او العزوف عن خوضها. ويتعمد الحريري احاطة موقفه بالغموض وهو وعد باعلان قراره بين 8 و12 آب اغسطس المقبل. وفي انتظار ذلك ستبقى معركة زعامة بيروت، وهي المعركة الأهم لزعامة الطائفة، مشوبة بالغموض. هل يستطيع رفيق الحريري خوض الانتخابات النيابية والعودة منها بانتصار مواز لحجمه الكبير على الساحة اللبنانية؟ وهل يستطيع الغياب عن الانتخابات والاكتفاء بموقع يضعه فوق لعبة الانتخابات لكنه يحرمه من التفويض الشعبي الذي يجيز الحديث عن زعامة غير مرهونة بتوليه منصب رئيس الوزراء؟ سؤالان رافقا الحريري وفريقه وبدا العثور لهما على جواب قاطع صعباً ومكلفاً. في البلد مشكلة اسمها "حجم الحريري". ولدى الحريري مشكلة اسمها "حجم الحريري". هكذا يقول السياسيون. ومنشأ المشكلة ان الرجل قُدِّم في الاعلام ومنذ توليه رئاسة الحكومة قبل اربعة اعوام في صورة "منقذ" يتخطى حجمه حجم رئيس للوزراء او حجم زعيم كتلة نيابية متواضعة. وعلى رغم ان الحريري لم يكن طليق اليدين في تشكيل الحكومات وعلى رغم نقطة ضعفه النيابية في المجلس المنصرم. فان حجمه في اذهان الناس كبير وترسخ اكثر بعدما ظهر ثقله الاقليمي والدولي في رده على عملية "عناقيد الغضب" التي شنتها اسرائيل في لبنان. حاجة مستمرة بعد اربعة اعوام من توليه رئاسة الحكومة يبدو الحريري اليوم حاجة لبنانية مستمرة لمتابعة عملية اعادة الاعمار التي يستحيل على رئيس آخر للحكومة ان يديرها وينذر اي توقف لها بكارثة اقتصادية. ويبدو الحريري ايضاً حاجة سورية في لبنان ذلك ان لجم التدهور الاقتصادي اتاح لسورية ان تدير السلام الحالي في هذا البلد بعيداً عن التوترات الاجتماعية الحادة التي كان يمكن ان تسهل طرح الملفات السياسية الحارة او تشكل فرصة للاحتجاج مباشرة او مداورة على حجم الدور السوري في الحياة اللبنانية اليومية. وعلاوة على ذلك يحظى الحريري بدعم عواصم عربية وغربية مؤثرة ترى في مشروعه الفرصة الوحيدة لاعادة لبنان الى الخريطة. في هذا الاطار تبدو رئاسة الوزراء في لبنان معقودة اللواء للحريري وربما لسنوات طويلة خصوصاً ان اندفاعه القوي في عملية اعادة الاعمار ترافق مع احترام كامل للثوابت والضوابط والخطوط الحمر السياسية. ووحده الخروج على هذه الخطوط الحمر يمكن ان يخرج الحريري من معقله في رئاسة الوزراء. لكن الحريري الذي يصعب اتهامه بالتواضع في الاحلام لا يبدو مستعداً للقبول الى ما لا نهاية بلقب مهندس الاعمار وترك معركة الزعامة الشعبية في بيروت وداخل الطائفة السنية وعلى المستوى الوطني للآخرين. وخلافاً لما يعتقده البعض فان الدور السياسي للحريري بدأ في 1983 وكان مهماً، وان بعيداً عن الاضواء احياناً، وليس في 1992 تاريخ توليه رئاسة الوزراء. ولأن الحريري يدرك ان طريق الزعامة الثابتة تمر حكماً عبر تفويض شعبي يزيد في الظروف الحاضرة قدرته على حماية مشروعه الاعماري قرر ومنذ فترة غير قصيرة خوض الانتخابات. ففي حديث اجرته "الوسط" معه في سلسلة "يتذكر" قال الحريري "نعم سأخوض الانتخابات" لكنه امتنع عن تحديد المكان وإن بدا واضحاً يومذاك ان طريق الزعامة تمر بالضرورة عبر بيروت "الوسط" عدد 161 - 27 شباط - 5 آذار 1995. من صيدا الى طرابلس اظهرت الاسابيع القليلة الماضية ان الحريري بات حاضراً في معظم المدن والتجمعات السنية من صيدا حيث تشغل شقيقته بهية احد المقعدين المخصصين للسنة، مروراً باقليم الخروب في الشوف ووصولاً الى طرابلس في شمال لبنان. وحرص الحريري على تذكير الآخرين بحضوره هذا بعدما بدأ يعيد النظر في قرار عزوفه عن خوض الانتخابات الذي كان اتخذه اثر نصيحة سورية تردد انها تغيرت لاحقاً فبدأ باعادة تقويم حساباته مع ميل الى المشاركة في الانتخابات. معركة بيروت ليست نزهة بالنسبة الى الحريري، فالكتلة السنية في العاصمة موزعة على ثلاثة محاور رئيسية: الرئيس سليم الحص الذي منحته العاصمة تفويضاً شعبياً واسعاً في العام 1992، والسيد تمام صائب سلام والحريري نفسه. واذا كان نجاح الحريري شخصياً مضموناً، حتى ولو خاض المعركة منفرداً فان تحقيق نجاح واسع للائحته يقتضي تحالفاً مع سلام يبدو محتملاً اذا تم التفاهم على حصة الأخير في اللائحة. ويتزايد الحديث في بيروت عن خوض الانتخابات بلوائح غير مكتملة تتيح وصول الحريري والحص وسلام الى المجلس النيابي. لكن الانطباع الغالب هو ان الحريري وفي حال قرر خوض الانتخابات سيخرج منها بموقع الارجحية في الزعامة البيروتية والسنية، لكن من دون ان يكون الزعيم الوحيد لطائفته وان تكن زعامة عمر كرامي في الشمال ليست في احسن احوالها. الموارنة: النجومية للمقاطعين ولا علاقة للانتخابات بمعركة الزعامة داخل الطائفة المارونية ذلك ان الموارنة الأكثر تمثيلاً لمشاعر طائفتهم وهم العماد ميشال عون والرئيس امين الجميل والعميد ريمون اده والسيد دوري شمعون اختاروا مقاطعة الانتخابات، ويبقى النائب سليمان فرنجية اقوى الموارنة المشاركين في تركيبة الجمهورية الثانية، مع تسجيل صعود لافت للنائب نسيب لحود. مخيبر وفارس والمر لم تعتد طائفة الروم الارثوذكس بحكم موقعها في التركيبة اللبنانية وتوزع ابنائها في المناطق على فكرة الزعيم الاوحد او الزعيم الاقوى وهي بدت في معظم الاحيان موزعة الولاءات. ويمكن القول ان اختباراً جدياً للقوة سيجري في منطقة المتن الشمالي بين ارثوذكسيين "قويين". الأول هو وزير الداخلية ميشال المر صاحب الوجود التقليدي في انتخابات المتن والذي تفوق فاعليته شعبيته ويمتلك في المواجهة الحالية اسباباً كثيرة للبقاء في المجلس النيابي تبدأ برصيد وسعه عبر الخدمات وبتحالفه مع سورية ووجوده على رأس وزارة الداخلية وما يوفره من نفوذ. وفي المقابل الدكتور البير مخيبر المعارض صاحب الشعبية الراسخة الذي يمتاز بجرأة باتت استثنائية في الواقع اللبناني الحالي حيث تتسم الممارسة السياسية فيه بانعدام كامل للجرأة وللصدق مع الذات. وتبدو هذه المواجهة وكأنها الأبرز في الانتخابات المقبلة، خصوصاً بعد ظهور ملامح تحالف بين مخيبر والنائب نسيب لحود وهو ماروني راكم في السنوات الأربع الماضية رصيداً بناه على الصدق والاعتدال والممارسة الديموقراطية العصرية. لكن التنازع الارثوذكسي على مقاعد المتن ليس في النهاية تنازعاً على موقع الزعامة للطائفة او على الموقع الأقوى فيها. ويخوض الانتخابات في بيروت ارثوذكسيان من اصحاب الرصيد الشعبي هما النائبان بشارة مرهج ونجاح واكيم، لكن لا علاقة لمعركتهما بموقع الارجحية داخل الطائفة، خصوصاً ان كتلة الناخبين السنة تعتبر حاسمة في انتخابات العاصمة. يبقى التمثيل الارثوذكسي في الشمال وهو كان عادياً في الغالب اذ بدت زعامة الشمال موزعة بين الموارنة والسنة على رغم الوجود الارثوذكسي في الكورة وعكار وطرابلس. وثمة من يتحدث عن احتمال قيام تمثيل ارثوذكسي يتمتع بقدر من الارجحية داخل الطائفة في حال قرر عصام فارس خوض الانتخابات على لائحة تقوم على تحالف ثلاثي يضمه والرئيس عمر كرامي والنائب سليمان فرنجية. وتكاد تجربة عصام فارس ان تكون شبيهة بتجربة الحريري. فهو ينطلق من رصيد شعبي راكمه داخل عكار والشمال عبر مساعدات تربوية وانمائية وشبكة علاقات واسعة داخل طائفته ومع القوى الفاعلة في الطوائف الأخرى تضاف الى ذلك صورته كرجل اعمال ناجح وسياسي معتدل اقام علاقات قوية في دول كبرى خصوصاً في الولاياتالمتحدة. ويواجه فارس مشكلة الحجم ايضاً التي يواجهها الحريري. فهو لا يستطيع بعد حجمه الحالي في لبنان ان يكون نائباً عادياً ويرجح ان يكون قراره، لجهة خوض المعركة او العزوف، مرهوناً بضمان انطلاقه من موقع نيابي قوي يمكنه من ترسيخ دوره كلاعب بارز في الساحة الشمالية وخارجها. كما يمكن ان يطرأ تغيير على طبيعة التمثيل الارثوذكسي فيما لو اختار وزير الخارجية السابق فؤاد بطرس خوض المعركة وفاز، وفيما لو أعد الوزير السابق غسان تويني مفاجأة من هذا النوع. الاقوى وليس الأوحد على صعيد الطائفة الدرزية لا تبدو حرب الزعامة مستعرة اذ ان رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط ضمن البقاء في موقع الزعيم الاقوى بعدما اقنعته جملة اختبارات داخل الطائفة وخارجها بأن قصة الزعيم الاوحد غير مقبولة وغير ممكنة. وحصل جنبلاط بحكم موقعه كوريث لزعامة قوية رسّخها في حرب الجبل 1984 وبحكم تعلق الاكثرية الدرزية الساحقة بوجوده كزعيم ورمز، وبحكم تحالفه مع الحريري على ما طلبه وهو استثناء جبل لبنان من قانون اجراء الانتخابات على اساس اعتماد المحافظة دائرة انتخابية. وفي مقابل حصوله على مكسب اعتماد القضاء في الجبل الذي يجعل فوز لائحته في الشوف مضموناً سيتحتم على جنبلاط ان يبدي مرونة في اماكن اخرى. فالغاء الزعامة الدرزية الأخرى المتمثلة بالأمير طلال ارسلان يبدو غير مرغوب وغير ممكن. وبدا انه لم يُسلَّم لجنبلاط بحق انتقاء المرشحين المسيحيين المحظوظين في دائرة عالية وان ظهرت رغبة في عدم الغاء وجوده هناك والمتمثل حالياً بالنائب اكرم شهيب. وهكذا تبدو الانتخابات متجهة على صعيد الطائفة الدرزية الى تكريس ما هو قائم اصلاً أي اعتبار جنبلاط الزعيم الاقوى في الطائفة من دون ان يكون الزعيم الوحيد لها. وسيدخل جنبلاط بالتالي المجلس الجديد على رأس كتلة نيابية موازية تقريباً لكتلته في المجلس السابق. هذا لا يعني ان الملاحظات على هؤلاء النجوم قليلة او انها ليست مريرة سواء لجهة ممارساتهم او طريقة ضمان مواقعهم، لكن زائر بيروت يشعر ان اللبنانيين سيستقبلون القرن المقبل في ظل هؤلاء، حتى ولو انجزت التسوية السلمية قبل نهاية القرن الحالي.