الذهب لأعلى أسعاره في 2025    القطاع الخاص يسدد 55% من قروضه للبنوك    6 فوائد للطقس البارد لتعزيز الصحة البدنية والعقلية    5 أشياء تجنبها لتحظى بليلة هادئة    السعودية تبدأ أول عملية بيع سندات في عام 2025    أمطار جدة: الأمانة تتحرك.. الهلال الأحمر يتأهب.. والمطار ينصح    سفير فلسطين: شكراً حكومة المملكة لتقديمها خدمات لجميع مسلمي العالم    الذكاء الاصطناعي ينجح في تنبيه الأطباء إلى مخاطر الانتحار    المدينة المنورة تسجّل أعلى كمية ب (49.2) ملم    وزيرا الصحة و«الاجتماعية» بسورية: شكراً خادم الحرمين وولي العهد على الدعم المتواصل    «شاهقة» رابغ الأقوى.. المسند: خطيرة على السفن    في ربع نهائي كأس خادم الحرمين الشريفين.. كلاسيكو مثير يجمع الهلال والاتحاد.. والتعاون يواجه القادسية    في ثاني مراحل رالي داكار السعودية 2025.. الراجحي والعطية في مقدمة فئة السيارات    أمير المدينة المنورة يستقبل المواطن محمد اللهيبي المتنازل عن قاتل ابنته    محافظ الطائف: القيادة مهتمة وحريصة على توفير الخدمات للمواطنين في مواقعهم    سلمان بن سلطان يستقبل اللهيبي المتنازل عن قاتل ابنته    هندي ينتحر بسبب «نكد» زوجته    النائب العام يتفقد مركز الحماية العدلية    بداية جديدة    أهمية التعبير والإملاء والخط في تأسيس الطلبة    ليلة السامري    تنامي السجلات التجارية المُصدرة ل 67 %    العداوة الداعمة    بلسان الجمل    جلوي بن عبدالعزيز يُكرِّم مدير عام التعليم السابق بالمنطقة    قوات الاحتلال تواصل قصف المدنيين    احتياطات منع الحمل    البلاستيك الدقيق بوابة للسرطان والعقم    جهاز لحماية مرضى الكلى والقلب    سورية.. «خارطة طريق» نحو الاستقرار    خالد بن سعود يستعرض منجزات الهلال الأحمر في تبوك    اللهمّ صيّباً نافعاً    عبور 60 شاحنة إغاثية سعودية منفذ نصيب تحمل مساعدات للشعب السوري    القيادة رسمت مسار التنمية المستدامة والشاملة    انطلاق فعالية "نَوّ" بالقرية العليا    أمير حائل يفتتح «مهرجان حرفة»    وزير الخارجية يناقش المستجدات الإقليمية مع نظيره الأمريكي ومع آموس الوضع في لبنان    "ميلان" يُتوّج بلقب السوبر بعد تغلّبه على "إنتر ميلان" بثلاثية في الرياض    الفريق الفتحاوي يواصل استعداداته لمباراة الوحدة وإدارة النادي تفتح المدرجات مجاناً    "رافد للأوقاف" تنظم اللقاء الأول    عمر السومة يرحل عن العربي القطري ويعود للسعودية    أمير تبوك ونائبه يعزيان البلوي    سعود بن نهار يتفقد السيل والعطيف    سعود بن نايف يؤكد على جاهزية الجهات لموسم الأمطار    استقالة رئيس الحكومة الكندية    حماية البذرة..!    العالم يصافح المرأة السورية    لماذا الهلال ثابت ؟!    صافرة الفنزويلي "خيسوس" تضبط مواجهة الهلال والاتحاد    قمة عالمية سنوية للغة العربية    مكة الأكثر أمطاراً في حالة الإثنين    «أبوظبي للغة العربية» يعزّز إستراتيجيته في قطاع النشر    "التراث" توقّع مذكرة تفاهم مع موتوكو كاتاكورا    روسيا تسيطر على كوراخوفو وكييف تلتزم الصمت    خادم الحرمين وولي العهد يعزيان رئيسة الجمهورية الهيلينية في وفاة رئيس الوزراء الأسبق    «سلام» يُخرّج الدفعة السابعة لتأهيل القيادات الشابة للتواصل العالمي    غارات الاحتلال تودي بحياة عشرات الفلسطينيين في غزة    أمير الرياض يؤدي صلاة الميت على والدة الوليد بن طلال    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رحلة بين المضارب والمقابر والقصور . لبنان : جمهورية سوء التفاهم
نشر في الحياة يوم 19 - 06 - 1995

غداً حين يوقع لبنان اتفاق سلام مع اسرائيل تنتهي صفحة طويلة كاملة من حياة البلد السيء الحظ. إنها الجغرافيا شاءت ان يكون لبنان على خط الزلازل وان تولد اسرائيل على حدوده بعد خمسة أعوام من ولادته وان يكون مضرجاً بدمائه وخرائبه حين يكتمل عرس السلام. هكذا ترجع الأرض الى أصحابها ويرجع بعض الفلسطينيين الى بعض فلسطين ويسقط جدار برلين العربي - الاسرائيلي فيتذكر اللبنانيون فظاعة ما فعلوه ببلادهم وفظاعة ما فعل بها الآخرون.
قبل شهور فقط كان المسؤولون اللبنانيون يرفضون الحديث عن السلام. ما ان تسألهم عنه حتى يرفعون لافتة القرار 425 ويؤكدون ان المسألة لا تتعدى إرغام اسرائيل على القبول بآلية لتنفيذ هذا القرار، من دون ان ينسوا، طبعاً، تجديد دعمهم المقاومة في جنوب لبنان. وان قلت لهم ان رحلة مدريد لا تهدف الى تنفيذ القرار 425 وان ما هو معروض على من صعد الى القطار وجبة الزامية كاملة، أي الأرض في مقابل التوقيع والتطبيع، يسارعون الى اخراج الپ425 ويتغطون به. الآن تعترف جمهورية الپ425 للمرة الأولى بأن السلام يقترب وانها ارتكبت خطأ بعدم اعداد ملفاتها.
كيف تبدو أحوال هذه الجمهورية الذاهبة الى السلام ونهايات القرن؟ لم أجد في محاولتي العثور على جواب افضل من تنظيم رحلة سياحية الى مضارب "الجمهورية الثانية". وزاد من اقتناعي بضرورة هذه الرحلة ما أظهرته ولادة الحكومة الحريرية الثانية من تصاعد حروب الحصص والحساسيات الطائفية والمذهبية. وتكفي الاشارة الى ان هناك من عارض توزير السيدة لور مغيزل خلفاً لزوجها جوزف مغيزل بحجة انها مارونية أصلاً ولا يجوز ان تشغل المقعد العائد للكاثوليك وان القيادات السياسية والدينية تدخلت لضبط الحساسيات التي أثارها الاستخدام الواسع لمكبرات الصوت في احتفالات ذكرى عاشوراء.
حزيران ليس الموعد المناسب لزيارة الشمال الذي يخبئ في ذاكرته ثلاثة نعوش. ففي 13 حزيران 1978 هاجمت وحدات من "القوات اللبنانية" بلدة اهدن. وانتهى الهجوم بمجزرة سقط فيها الوزير والنائب طوني سليمان فرنجية. وفي أول حزيران 1987 اغتيل رئيس الوزراء رشيد كرامي بانفجار في طائرة هليكوبتر عسكرية كانت تقله من معقله في طرابلس الى بيروت. وفي 22 تشرين الثاني 1989 قتل انفجار في بيروت الرئيس رينيه معوض الزغرتاوي الذي كان "يحفر الجبل بإبرة".
في الجريمة الأولى اطلق الموارنة النار على وحدتهم وسيستكملون الانتحار لاحقاً في الحرب التي دارت بين "القوات اللبنانية" بقيادة سمير جعجع وألوية الجيش اللبناني بقيادة العماد ميشال عون. وسيدخل الموارنة عهد ا"لجمهورية الثانية" مثخنين ومهزومين ومقاطعين وسط تساؤلاتهم اليوم هل ما حل بهم "نكسة أم نكبة".
في الجريمة الثانية بدا ان الصراع في لبنان وعليه بات بلا ضوابط فكان اغتيال رشيد كرامي بمثابة اغتيال لآخر صمامات الأمان، خصوصاً ان الرجل ابتدع "المقاطعة" لتجنب "القطيعة" النهائية. ولن تتأخر الجمهورية الأولى في الاندحار فعندما غادر الرئيس أمين الجميل القصر الجمهوري في 23 ايلول 1988 من دون انتخاب خلف له بدا ان تلك الجمهورية ماتت وان بدت مراسم الدفن مؤجلة.
في الجريمة الثالثة التي تطايرت فيها أشلاء الرئيس مع الاستقلال، بدا ان اسلوباً ما قد سقط ليحل مكانه أسلوب آخر، خصوصاً ان الرئيس الذي غاب كان يشبه الوفاق، وكان آخر الخبراء في حساسية التركيبة اللبنانية. فمع رينيه معوض الهادئ المتبصر قتل أيضاً أولئك الذين كان يمكن ان يجنبهم بحكمته ورصيده شهية الذهاب بعيداً في الارتطام بالجدار.
كانت القبور الشمالية الثلاثة محطات وعلامات في مسيرة الآلام اللبنانية.
في طرابلس يستقبل الرئيس عمر كرامي، وريث الزعامة الراسخة، الوفود التي جاءت لاحياء ذكرى غياب شقيقه. الامتحان الشعبي لزعامة عمر كرامي الطرابلسية والشمالية أكد جدارته في حملها. لكن تجربته في رئاسة الحكومة لم تكن ناجحة فهو غادر الرئاسة الثالثة في ايار مايو 1992 على دوي هتافات المتظاهرين ورائحة الدواليب المحروقة وجنون الدولار. ومنذ ذلك التاريخ وسوء التفاهم قائم بين كرامي من جهة ورئىس الجمهورية الياس الهراوي ورئيس الحكومة رفيق الحريري من جهة ثانية، اذ يحملهما تصريحاً وتلميحاً المسؤولية عن التلاعب بالدولار لازاحته من رئاسة الحكومة.
فرنجية: الزعامة قبل الوزارة
في بنشعي لا يحتاج الزائر الى جهد كبير ليتأكد له ان غياب النائب سليمان طوني فرنجية عن الحكومة الحريرية الثانية لا يعني غيابه عن المسرح السياسي. ولعل اطمئنانه الى رسوخ موقعه الشمالي هو الذي دفعه الى عدم القبول بموقع ضعيف في الحكومة التي لم يصل الى حد مقاطعتها، ووافق على المشاركة فيها عبر حليفه اسطفان الدويهي.
انطلق سليمان فرنجية من رصيد ورثه عن جده الرئيس الراحل سليمان فرنجية: علاقة مباشرة مع ابناء المنطقة وسياسة البيت المفتوح والاهتمام بمطالب الناس، مع ما يرافق ذلك من صراحة وشجاعة وكلها من مستلزمات الزعامة في هذا الجزء من لبنان.
ويستند النائب المقترب من الثلاثينات، في نهجه السياسي العام، الى خيارين راسخين: ايمان كامل بوحدة لبنان وشعبه وعلاقة تحالف مميزة مع سورية. وفي الفترة الأخيرة، بدا ان سليمان فرنجية نجح في تحقيق بعض الخطوات على طريق توسيع دائرة زعامته الى خارج الشمال، مستفيداً من غياب الزعامات القوية في المنطقة الشرقية أو تغييبها.
مصادر سياسية رافقت تشكيل الحكومة الأخيرة استبعدت ان يتحول غياب فرنجية عن الحكومة خياراً دائماً. ورأت في غيابه عن "حكومة الصيف" فصلاً عابراً. ولاحظت ان فرنجية كان يشكل "الغطاء المسيحي" للحكومة الحريرية الأولى "ذلك انه الحليف الوحيد لسورية الذي يمتلك في الساحة المسيحية ما يمكن وصفه بالزعامة أو القاعدة الشعبية، في حين يفتقد معظم حلفائها الآخرين في هذه الساحة الى القدرة على الفوز في انتخابات جدية". ورجحت المصادر عودة فرنجية الى الحكومة المقبلة على قاعدة ترتيب "تعايش" بينه وبين الحريري.
وسوء التفاهم بين فرنجية والحريري لا يحتاج الى دليل، وما شهدته طاولة مجلس الوزراء في عهد الحكومة الحريرية الأولى يشير الى اختلاف الاسلوبين والمزاجين. وبديهي ان الاختراقات التي حققها رئيس الحكومة في الشمال باجتذاب نواب أو بتوزير "مشاريع نواب" ليس من النوع الذي يسهل التعايش حول طاولة واحدة.
"شرقية بلا زعماء"
في طريق العودة من الشمال لا بد من عبور ما كان يعرف بپ"المنطقة الشرقية". وقلت أزور زعيمها أو واحداً من الزعماء فيها لاستطلاع همومها وقياس درجة "الاحباط". لم أجد عنواناً أذهب اليه. ولعلها المنطقة الوحيدة التي تعيش بلا زعيم. ميشال عون، الأكثر شعبية، يقيم في المنفى، ولا شيء يشير الى قرب عودته. والرئيس السابق امين الجميل يقيم في باريس، وعلى كرسي والده بيار الجميل في رئاسة حزب الكتائب يقيم الدكتور جورج سعادة. خسرت الكتائب الحرب وخسرت "مشيتها". والعميد ريمون اده سبق الجميع الى المنفى وشروط عودته غير متوافرة وقد لا تتوافر.
للشرقية قبرها أيضاً ففي بكفيا قبر بشير الجميل الذي تفرق ورثته في "القوات اللبنانية" فذهب بعضهم الى الحكم وذهب بعضهم الآخر الى السجن. ولا داعي للذهاب الى غدراس فالدكتور سمير جعجع قائد "القوات اللبنانية" المحظورة الذي كان يرابط هناك يقيم الآن في سجن وزارة الدفاع في انتظار كلمة القضاء.
تراجع ثقل المنطقة الشرقية وانحسر. منذ السبعينات كانت رئاسة الجمهورية تتحصّن بالشرقية التي كانت تحتمي بشرعية الرئاسة وبأمنها الذاتي. تغيّرت قواعد اللعبة الآن. وكان صعباً على الرئيس الهراوي ان يكون زعيم الشرقية ورئيس الجمهورية في آن، اذ كان عليه ان يستهل عهده بپ"قرارات مؤلمة" انقذت رئاسته للجمهورية وحرمته من زعامة الشرقية.
يبقى في الشرقية عنوان واحد هو بكركي المقيمة على تلك التلة قبالة ميناء جونيه.
لا يهوى البطريرك نصرالله بطرس صفير الاحاديث الصحافية، لكنه لا يتردد في الرد على الأسئلة. يعتبر البطريرك ان ما يطالب به هو مجرد بديهيات لا بد من توافرها لترسيخ السلام على قواعد ثابتة، وهي السيادة ودولة القانون ومستلزمات العيش المشترك في ظل العدالة والاحترام ثم ارساء علاقات تعاون مع سورية على قاعدة التجاور والمصالح المشتركة والوصول في ذلك الى أقصى ما يمكن ان يقوم بين دولتين.
ويكرر البطريرك أمام زواره ان بكركي ثابتة على خطها في التمسك بوحدة لبنان وتعزيز اللحمة بين أبنائه واسترجاع لبنان لدوره وحضوره في المنطقة والعالم، انطلاقاً من الثروة التي يشكلها التقاء الاديان والمعتقدات على أرضه. ويؤكد في الوقت نفسه ان أبواب بكركي مفتوحة للجميع، وان مواقفها معروفة، وان الانتقادات التي تتضمنها عظاته انما ترمي الى التوضيح والتصحيح وتجنب الاخطار التي يمكن ان تنشأ عن الخروج على الثوابت.
تخرج من الشرقية بانطباع أكيد هو عمق سوء التفاهم بينها وبين الجمهورية الحالية.
جنبلاط: شراكة وعتاب
توزعت زعامة الجبل في العقود الماضية على رجلين: كمال جنبلاط وكميل شمعون. وتتوزع أحزان الشوف اليوم على قبرين لكمال جنبلاط وداني كميل شمعون. على أرض الشوف وعاليه دار الفصل الأشد خطورة في حروب لبنان. ففي "حرب الجبل" عام 1983 اصيبت الجمهورية الأولى بطعنة قاتلة وتمزق نموذج التعايش هناك وتعرض النسيج اللبناني لشروخ تلزم عقود لمداواتها.
في تلك الحرب حقق وليد جنبلاط للطائفة الدرزية انتصاراً على موارنة الجبل لم تحققه من قبل، لكن حجم الانتصار وطريقة الوصول اليه جعلاه أكبر من قدرة المنتصر المباشر على توظيفه في السلم. ففي حرب الجبل عقدة وممر إلزامي، وفي السلم لا تستطيع الطوائف ان تتجاوز كثيراً حجمها في المعادلة السكانية. كان كمال جنبلاط يطمح الى تغيير النظام وحكم لبنان. وها هو وليد جنبلاط يتطلع الى حفظ وجود طائفته ومنطقته ومصالحهما في ظل النظام الذي سهلت "حرب الجبل" ولادته.
مشاركة جنبلاط المتواصلة في حكومات "الجمهورية الثانية" لا تلغي قدراً من سوء التفاهم بين الاثنين. وعلاقته "الشخصية والسياسية" مع الرئيس الحريري لا تكفي لدفع سيد المختارة الى النوم على حرير الوعود الحكومية. انتهت الحرب على الموارنة وجنبلاط يعطي الأولوية اليوم لعودة المهجرين ويرعاها. لكن سوء التفاهم مع الكنيسة المارونية قائم. وهذا الواقع يجعل من مسألة تقسيم الدوائر الانتخابية موضوعاً لسوء التفاهم بين جنبلاط والتقسيم الوافد من اتفاق الطائف الذي ىقول بالمحافظة دائرة انتخابية واحدة، والذي عُدّل، خدمة لجنبلاط، في الانتخابات السابقة، ولكن "لمرة واحدة" كما قيل يومها. "التحالف المعمد بالدم" الذي قام في النصف الأول من الثمانينات بين جنبلاط وزعيم حركة "أمل" نبيه بري صار من التاريخ. فبين الزعيم الأقوى للطائفة الدرزية والزعيم الأقوى للطائفة الشيعية سوء تفاهم ظاهر يخالطه قدر من الجفاء.
لا يخفي وليد جنبلاط امتعاضه من حكم "الترويكا"، حكم الطوائف الثلاث الكبرى، ولا يكتم قلقه على الحريات من "تعدد الأجهزة وغياب المرجعية والفساد". ولا يخفي ايضاً خوفه من السلام القادم، معرباً عن خشيته من تفتيت المنطقة بأسرها.
بري: الصعود الكبير
أمام دارته في المصيلح في جنوب لبنان تقف السيارة حاملة الرقم 2. لكن ذلك لا يعني ان نبيه بري رئىس مجلس النواب هو "الرجل الثاني" في الجمهورية الثانية فقوته الفعلية أكبر من صفته الرسمية. ولقب "الرجل القوي" هو الأكثر ملاءمة لدوره الحالي.
من "انتفاضة" 6 شباط فبراير 1984 الى رئاسة مجلس النواب في 1992، انتقل نبيه بري من موقع "الانقلابي" الى موقع حارس الشرعية. ونجح في نقل الطائفة الشيعية من ضاحية القرار الى صلب القرار. في السابق كانت طائفته تشكو من الغبن اللاحق بها واليوم يطالبها الآخرون بضبط حدود دورها لئلا يتحولوا الى مغبونين.
زعامة الجنوب معقودة له، على رغم وجود منافسين قدامى وجدد، وزعامته تمتد الى الضاحية التي يتعذر انكار حضور "حزب الله" فيها. أما في البقاع فتبدو الأرجحية لخصوم بري وخصوم حركة "أمل" التي يتزعمها.
ثلاث أوراق تجعل من نبيه بري زعيماً قوياً: صفته التمثيلية الواسعة داخل الطائفة الأكثر عدداً في لبنان، وعلاقته الوطيدة مع سورية، والموقع الذي اعطاه اتفاق الطائف لرئيس مجلس النواب.
على دوي القصف الذي يتردد من اقليم التفاح سألته "الوسط" عن المفاوضات وشؤون السلام وشجون الداخل، وبدا الرئيس بري متفائلاً وواقعياً. استحقاق رئاسة الجمهورية ليس ساخناً بعد وهو صاحب نظرية "ان تشرين لناظره قريب". ومن يدري فقد تتأخر "كلمة السر" الى تشرين.
لا يرى بري فرصة فعلية لبناء الدولة خارج إلغاء الطائفية. لكن مجرد حديثه عن التفكير في انشاء هيئة لهذا الغرض اظهر حجم سوء التفاهم حول هذا الموضوع مع معظم الطوائف تقريباً، من دون ان ننسى سوء التفاهم القائم بين الرئاسات الثلاث والحروب على حدود الصلاحيات واختبار القوة الذي حصل بعدما شعر بري بأن حلفاً قام بين الهراوي والحريري.
في طريق العودة توقفت "الوسط" في صيدا التي ترتفع فيها صور الحريري ومصطفى معروف سعد. لهذه المدينة الجنوبية قصتها الطويلة وهي استضافت أول القبور الكبيرة يوم قتل معروف سعد في تظاهرة الصيادين.
الحريري: هاجس التجانس
في قريطم بدا رئيس الوزراء رفيق الحريري مرتاحاً الى حكومته الجديدة التي يقدمها كفريق عمل منسجم. لكنه يشعر في الوقت نفسه بأن السباق يشتد والوقت يضيق. فالحكومة الحريرية الثانية مطالبة بإبراز نتائج ملموسة، على الأقل على الصعيد الخدماتي... وخلال شهور الصيف. والاشارات الأخيرة اظهرت ان المسار السوري - الاسرائيلي يتقدم في اتجاه نتائج ملموسة، وعلى لبنان ان يكون مستعداً للسلام. ورشة الاعمار مفتوحة، لكن معالجة التدهور الاقتصادي برمته تبدو صعبة أو انها تستلزم وقتاً طويلاً.
في 1992 دخل رفيق الحريري نادي رؤساء الحكومة. وفي الشهور الماضية أكد موقعه في نادي أقطاب السياسة في لبنان. لكن زعامته داخل طائفته لا تزال تفتقر الى الامتحان الانتخابي خصوصاً في بيروت. رصيده عزز موقع الرئاسة الثالثة في لبنان، وغياب بعض "المشاكسين" عن حكومته الجديدة ضاعف القناعة بأن "الجمهورية الثانية" وحراس سلامتها لا يملكون بديلاً منه. لكن عدم اكتفائه بحصة متواضعة في هذه الحكومة يحمله أعباء مضاعفة في شأن النتائج، وينذر بدفع المنافسين والمعارضين الى "المشاكسة" من خارج مجلس الوزراء. فتقدم الحريري نحو زعامة الطائفة السنية والتحول الى "رئيس دائم وحاجة دائمة" لا يثلج صدر الرئيس سليم الحص ولا يحظى بالترحيب لدى الرئيس عمر كرامي، فضلاً عن الموقف المعروف للرئيس حسين الحسيني والوزير السابق سليمان فرنجية.
يملك الحريري أوراقاً عدة في مواجهة صيف الخدمات وخريف الاستحقاقات: علاقة قوية مع الرئيس الهراوي لحمتها حلم التمديد، وعلاقة تحالف مع الوزير جنبلاط، وقدرته على وقف التدهور الاقتصادي واطلاق عملية الاعمار، فضلاً عن علاقته بدمشق وشبكة علاقات واسعة.
الرقم 3 على السيارة المتوقفة في باحة قصر قريطم لا يعني ان الحريري هو "الرجل الثالث" في "الجمهورية الثانية" التي تحمل بعض بصماته. فموازين القوى داخل مثلث الرئاسات تختلف كلما تحالف اثنان ضد الضلع الثالث، مع الالتفات طبعاً الى ان الحروب الرئاسية محكومة دائماً بمصالحات تفرضها صعوبة الحسم على طريق ضهر البيدر.
ذهبت بيروت فهل ترجع؟ هذا هو السؤال. الاعمار يرمم الأبنية والدور، ولكن متى يرمم الوفاق المعادلة اللبنانية لتنسى هذه المدينة النائمة على الشهداء ما فعلته الحرب بقلبها والرئتين.
إنها جمهورية سوء التفاهم فهل تكون الانتخابات الرئاسية المقبلة فرصة للخروج من هذه البلبلة؟ وهل تكون الانتخابات النيابية التي ستعقبها فرصة لتصحيح التمثيل؟ وهل يتمكن لبنان من اتقاء اخطار السلام؟ كلها اسئلة مطروحة على المسؤولين والاقطاب، خصوصاً ان الجمهورية لم تعد تدار من قصر بعبدا وحده.
جولة "الوسط" على المواقع في الجمهورية الثانية اظهرت خلافات كثيرة على الصلاحيات والاعمار والتجنيس والدوائر الانتخابية وإلغاء الطائفية، وكذلك على صناعة القرار. وغالب الظن ان خير ما تفعله الجمهورية الثانية هو فتح الطريق الى الثالثة عبر حوار جدي وديموقراطية حقيقية، وعبر العودة الى منطق الانتخابات بعدما قامت جمهورية سوء التفاهم على قاعدة التعيين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.