ياسين النصير ناقد عراقي تميّز بحضوره الفعّال في النقاش حول الشعريّة منذ مطلع السبعينات، وجعلته اهتماماته واجتهاداته بين الأقرب إلى الأصوات الشابة في الشعر العراقي. بعد خروجه إلى أوروبا، وسّع دائرة اهتمامه لتشمل القصيدة العربية الجديدة التي راح يرصد ارهاصاتها وأحاسيسها المضطربة. وهو يعتبر، في هذا الحوار، أن جديداً بالغ الأهمية طرأ على الشعرية العربية خلال العقدين الأخيرين، ويختصر هذا الجديد ب "شعرية الحداثة الثالثة". أنت من المهاجرين الجدد إلى أوروبا. ما هو الأكثر إثارة لانتباهك في المشهد الثقافي العربي المهاجر؟ الخريطة الثقافية العربية المهاجرة أوسع من أن يحاط بها، ونحتاج لكي نقبض على رموزها إلى فسحة زمنية كبيرة. وجدت مفارقة مهمة جداً تخص الثقافة الوطنية العراقية، لا سيما أولئك الأدباء الذين هاجروا قبل أن يستكملوا أدواتهم النقدية في الداخل، ولم يؤسسوا لاحقاً رؤية نقدية في ميادين إبداعهم، بل وقعوا تحت تأثير المراجع الغربيّة. فالأديب "المقيم" يرتبط إبداعه بجذور محليّة وبقضايا الوطن وتراثه وإشكالات الحياة اليومية فيه، أما في الغرب فيتعامل مع الحياة من منظور الآخر! في بغداد لم أكن أنظر إلى الأدباء والشعراء خارج العراق، إلا بمنظار ثانوي، بسبب القطيعة والبعد وعدم المتابعة. أما الآن فأقف على كنز من التجارب الشابة الممتعة. ولا بد من الاعتراف بأنها بدأت تقودني إلى حقول معرفة لم أكن قادراً على اكتشافها قبل اليوم. محنتي الآن ليست مع المنفى كحقيقة، وإنما مع هذا الأدب المتشابك الذي ولد هنا وهناك في أوروبا. إنه وجهنا الذي نطلّ به على ثقافات أخرى. تشير هنا إلى المسافة الزمنية الفاصلة بين "داخل" منغلق على نفسه و"خارج" قيد الإكتشاف. ما النموذج الأكثر بروزاً للمثقف في المنفى، قياساً إلى النموذج الذي عرفته في العراق؟ ما لمسته خلال السنوات الثلاث التي مرت على خروجي من العراق، يشير إلى أن مشروعاً ثقافياً كبيراً هو قيد التأسيس، عناصره المبدعون قبل منتجي الثقافة الرسميين. وهؤلاء يتنادون، على الرغم من كل مظاهر القطيعة، لتحويل الإحساس بالخيبة إلى مشروع ثقافي. إننا شيئاً فشيئاً نلمح سقوط المقلدين وسقوط المدّعين، ونلمح في الظلام العربي الشاسع تباشير نور. قد أكون متفائلاً، لكن النصوص التي أقرأها مؤشر حقيقي على ذلك. نحن في حاجة إلى فترة إحياء جديدة، بعد المحاولات التأسيسيّة التي عرفتها الثقافة العربية منذ بداية القرن. أوروبا لم تنهض إلا بعد حربين عالميّتين، وبعد أن قطعت الحبل بين السلطات الروحيّة والزمنيّة. نحن من جهتنا نمرُّ في فترة أقسى من تلك التي مرت بها أوروبا، ونحتاج إلى قطيعة جوهرية وأساسية. في حاجة إلى مشروع ثقافي جذري ينقلنا إلى القرن الحادي والعشرين، ولن يقوم هذا المشروع إلا بجهود الشباب وابتكاراتهم وإبداعاتهم الجريئة. ما الإستنتاجات التي توصّلت إليها بعد مقارنة النتاج الشعري الراهن داخل العالم العربي وخارجه؟ شخصياً أعول كثيراً على الشعر الذي يكتبه الأدباء في الداخل، وذلك لحرارة التجربة هناك وعمقها. لكن معظم هذا الشعر لم ينشر، ويحفل بما هو ممنوع. الشعر الذي يكتب في الخارج له وجهان، وجه قائم على الإستذكار والمثاقفة، ووجه قائم على الإبداع والممارسة الحياتية. قصيدة شعراء الستينات ضعفت، بل وقفت عند حدود معرفية معينة. أما قصيدة الشباب القائمة على الممارسة فلم يتمّ اكتشافها بعد. الشعر العربي يتلمس طريقه إلى حداثة جديدة، وشاسعة أسميها "الحداثة الثالثة". في المنفى أو المهجر، لا تستطيع أن تميّز بين قصيدة لشاعر لبناني أو سوري أو مصري أو عراقي. وهذا في حدّ ذاته إنجاز، وله دلالاته الكثيرة. مع هذا الشعر الجديد نبدأ جولة متقدمة مع وعينا النقدي. والسؤال القائم هو لماذا يتشابه هؤلا الشعراء إبداعياً على الرغم من اختلاف مرجعياتهم؟ الشعر العراقي في الداخل الآن لا يكتبه شعراء مكرّسون، بل أولئك الجنود المجهولون الذين اكتووا بنار الحروب. وعندما يظهر ذلك الشعر، ستكون تشخيصاته مشابهة تماماً لما يكتب في الخارج. لنقل إذاً إن الشعراء الجدد لديهم هَمّ يكاد يكون مشتركاً، تجمعه نقاط تقارب عدّة بما يكتب داخل العراق مثلاً من شعر غير معلن. ما القاسم المشترك لنتاج الشعراء الجدد؟ أولاً تجاوز النزعة الذهنية، وانبثاق حساسية جديدة في العلاقة مع الأشياء. محاولة تحويل الخيالي بعد كل ما مررنا به من مآس إلى واقع حقيقي لا مفترض. البدء بتهشيم الصورة الشعرية الكلاسيكية. الإقرار بعدم كفاية اللغة. محاولة إشراك القارىء لا من موقع المتلقي فقط، وإنما من خلال بناء النص. ابتعاد النص الحديث عن أي زمنية يمكن التأشير عليها. هيمنة المكان على النص، أي محاولة جعل الجغرافيا هي المستنطق الشعري الحديث. كل هذه الملامح تشكل بداية "الحداثة الثالثة". وماذا عن النبرة، عن لهجة الشاعر وصوته؟ وهل يمكن القول بهوية جديدة للإيقاع؟ كلما ابتعدنا عن النبرة والإيقاع اللذين يشترك فيهما الشعراء، دخلنا في الخصوصية. ما يحدث الآن هو الإبتعاد عن ثلاثة إيقاعات خارجية تتمثل في "التاريخي" و"الإجتماعي" و"الإيديولوجي"، وهو الثالوث الطاغي على قصيدة الحداثة الأولى. والإبتعاد عن إيقاع الأسطورة والقناع والشخصيات التراثية "المسماة"، وكلّ ذلك طغى على قصيدة الحداثة الثانية. والشروع في تحويل ما هو يومي ومألوف وشاذ ونادر وثانوي ومهمل إلى قيم شعرية تولّد إيقاعها الفردي والخاص، من دون أن نجد بعداً أيديولوجياً، أو تراثياً، أو حضارياً. وهذا ما يميز الحداثة الثالثة. هل هذه محددات ثابتة وأكيدة، أم أنها قابلة للتبدل والزوغان بفعل انفتاح الشكل الشعري الجديد وحيويته وفرديّته؟ إنها محددات مشروطة بفعالية القارىء، وبما تنتجه النصوص نفسها. المحن التي مرّت علينا جميعاً، كفيلة بتفجير لغة مشتركة وأحاسيس تحول المتلقّي إلى فاعل على مستوى النص. ما ننتظره من الشعراء الشباب هو شقّ الرداء الشعري القديم، والكشف عما هو مستور في حياتنا الإجتماعية والسياسية. فليس هناك مجال للمصالحة، بعد هذا الدمار الشامل، مع الموضوع الذي كان يغطّى بخطابات السياسة والإجتماع والمحرّم والطهراني. يبدو أن النقد الحديث لم يكتشف بعد معاناة الشعراء وهم يكشفون الستر عن هذه المواقع، فهو راح إلى النص الأكثر أماناً، والنص القديم، ليقول فيهما قولاً متأخراً. إن الأدب العربي الحديث عموماً، يجاهد، الآن، من أجل أن يعيد المركزية إلى المنطقة العربية لا كانتزاع من المركزية الأوروبية، وإنما كتأثير وهوية. وعالمنا العربي مليء بالوعود والممكنات. كيف يمكن تعيين معايير ل "الحداثة الثالثة"؟ وهل يمكن وضع تصور للجماليات الجديدة التي تحدد هوية هذا النص؟ ليس المقصود بالمصطلح الاشارة إلى مرحلة متقدّمة على حداثات سابقة، بل تحديد ظاهرة متجاورة مع المراحل السابقة، متزامنة معها. ف "الحداثة الثالثة" موجودة منذ بدء الحداثة ككل، لكنها الآن تكتسب شرعيتها من خلال التغييرات الكبرى التي طرأت على الحساسية الشعرية، والحياة، والمفردة، وبناء الصورة. ومن المعايير الممكنة لتعيينها موقع "المتلقي". فالمتلقي لقصيدة الحداثة الأولى السياب، الملائكة، البياتي كان يقف على مبعدة منها، يستقبلها بكل حواسه، من دون اعادة صياغتها. لأن الشاعر جعله متلقياً، فقط. في حين أن المتلقي لقصيدة الحداثة الثانية، أي حداثة الستينات، وفيها جمع مختلط من الشعراء سعدي يوسف، نزار قبّاني، أدونيس، الفيتوري، عبد الصبور، محمود درويش، أمل دنقل، نجد أن المتلقي بدأ بالتحاور مع القصيدة، لا بفعالية القصيدة ذاتها، وإنما بفعالية الوضع الإجتماعي والإيديولوجي. ومع ذلك بقي دور القارئ سلبيّاً. لم يدخل القصيدة إلا من نوافذ عامة لا تعنيه كذات. ونلاحظ أن الشعر في هاتين المرحلتين سهل على التناول النقدي. قصيدة الحداثة الثالثة طرحت تحدياً جديداً ، فلم تعد تواجه شاعراً معزولاً مع متلق معزول. المتلقي بات هو الشاعر، والعكس بالعكس. فبنية القصيدة هذه تقوم على ما هو مختلف، ما هو غير منسجم، ما ندركه بالحواس. هنا بدأ التحطيم الحقيقي لكل القناعات التي حملها القول المفرد للشاعر، وبدأنا نتحسس أن قيمة الكلمة ليست في حروفها ومعناها المباشر، بل بدلالاتها وتأويلاتها. هناك معيار آخر هو بنية القصيدة. كان الإيقاع في قصيدة الحداثة الأولى سلطة قامعة، تقرأ القصيدة وكأنها عمودية موزعة بأزياء جديدة. ولعلّ جديد الحداثة الأولى يكمن في إعادتها توازننا المفقود في القصيدة العمودية. ثمّ بدأ الخلل المولّدُ لقصيدة الحداثة الثانية، عندما تشرّبتْ بفنون أخرى كالرسم، والتصوير، وتحولات المشهد، والسرد... فبدأت تسلك المسارب الحياتية الجديدة. لكنها كانت، وهي تدخل حواسنا، قصيدة يمكن تلمسها وعزلها، أيضاً، والإستشهاد بها كنص لاحق بديل على هذه الظاهرة أو تلك. في حين أن بنية قصيدة "الحداثة الثالثة" فتحت الحياة على المتناقض، على ما هو جدلي بغير معادلات، على تلك الأحاسيس المضطربة، فألغت الزمن الشخصي للشاعر، وألغت الزمن الموضوعي للحدث، وتعاملت مع الظاهرة من خلال الكيفية التي تدركها. هنا بدأت القصيدة تسلك مسالك نفسية وشعورية يتسع مداها كلما عدنا إلى قراءتها. ماذا عن عامل الزمن في النماذج الثلاثة؟ - قصيدة الحداثة الأولى كانت تستجيب لما هو خارجي، لما هو تراثي، لما هو تاريخي، لما هو أسطوري. أي أن الزمن كان هو الضاغط الفاعل، واستطاع النقد أن يفسح مجالاً لها، كما لو كانت شواهد على مرحلة ما، أو على تاريخ. وحاولت قصيدة الحداثة الثانية، بدورها، أن تُنهضَ تجارب الشاعر الذاتية بإطار غنائي يتشرّبُ أحياناً ببيئة تركيبية درامية، إلى حدّ ما، عندما وضع الشاعر نفسه موضع الرائي الذي يفكر عن أمة، أو جيل أو طبقة. بدأت هذه القصيدة تدخل حواسنا ونقدنا من الأبواب نفسها. واليومي بدأ يدخل الصورة الشعرية حاملاً بصمات الشاعر المهيمن في قيادتنا إلى هذه الحقول المحروثة حديثاً. أما قصيدة الحداثة الثالثة، فبنت بيتها على المكان، على هذه البقعة المولّدة الصغيرة، واكتشفت عمق الأرض كما لو كانت بقعة حيّة تختزن كل الأحياء. هذه القصيدة لا تشكل قناعات عادية عندما تقرأها، بل تفجّر هذه القناعات لأنها تعتمد المجاورة بالصور، وتعتمد صياغة المشاعر من بداياتها، وليس من نهاياتها. وهذه القصيدة ترافق حركة الثقافة ككل، بعد أن أصبح العالم قرية واحدة، فانزوى التاريخ والتراث في بقع محصورة. والمكان، بتعبير شتراوس، هو آخر قلاع المعرفة قبل دخولنا في زمن لا نعرفه. يشكو البعض من "لا موسيقية" القصيدة الجديدة، والإيقاع مايزال الإشكالية الأكثر اثارة للاهتمام بين عناصر النقاش حول الشعر الحديث عموماً. الإيقاع ينتمي إلى اللغة، بحيث نستطيع أن نعزله ونتعامل معه ونشاهده أيضاً. لا شك في أن تأثيرات الثقافة الأجنبية في هذا الجانب مهمة. ولا شك أيضاً في أن رتابة الحياة العربية، واستمرارها لمئات السنين على وتائر شبه ساكنة، جعلت من البنية العقلية والبنية الفنية واحدة. كان الأدباء العرب يفكرون بالعلم شعراً وبالثقافة شعراً، وبالخمرة شعراً، ولم يُدخلوا الفلسفة والمخيلة إلا بعد أن أشبعوا بما هو تقليدي وديني. الكسر الإيقاعي تمّ على يد الصعاليك، لخروجهم على منطق القبيلة. فكان الخروج على منطق الإيقاع رديفاً للتمرد الإجتماعي. ومن هناك بدأت التكسرات تتعمق، حتى اعتبرنا الشعر الحديث خروجاً منهجياً على تلك الإيقاعية. ما عاد الإيقاع ترنيمة لتدعيم الصورة، فهذه اختزلت واعتمدت الإحالة. والأنماط الإيقاعية لقصيدة النثر ليست ذهنية على الإطلاق، بل تخييلية وحلمية تستفيد من فعالية المتلقي. قد لا تعطي القصيدة الجديدة معنى مباشراً يمكن استعارته، إذ انّها اعتمدت المشابهة التي يصبح معها المشبه به أغنى من المشبه. وقصيدة النثر لا تستطيل لمجرد الإستطالة تحدو بها القافية والنبرة، لأنها لا تعتمد أحذية مدربة، لكونها غائرة في وحل الواقع العربي. إلى أي مدى يمكن القول بأن أفقاً فلسفياً جديداً قيد التشكّل، يحدّد نظرة الشاعر إلى وجوده، إلى اللغة، إلى الذات، إلى الآخر، إلى العلاقات بين الأشياء؟ ما دامت قصيدة "الحداثة الثالثة" تعتمد المتروك، فهي تعيد الإعتبار إلى هذا النثار الذي طلعت منه رؤية "حداثة التخلف". فشارع نيفسكي في سان بطرسبورغ مثلاً، هو الذي ولّد الرواية الروسية في القرن التاسع عشر. كان شارعاً بائساً، خارج التاريخ والقوانين. لكنه، في الوقت نفسه، كان شارعاً - مخاضاً، ولّد فلسفة وفناً وثورة. وما دامت قصيدة الحداثة الثالثة تأخذ قارئها إلى نثار العالم ومتروكه، فلا بدّ أنها بين الطرق التي تقودنا إلى بناء عقلنا من جديد. هل توافق على كون النقد العربي في معظمه غائب عن المستجدات الجمالية والفكرية في الشعرية الجديدة؟ النقد العربي الحديث يسير في ثلاثة وديان لا منافذ بينها: الأول يتعامل مع النص كما لو كان حقيقة تاريخية شخصانية منزّلة، بحكم العلاقات والمناهج الثابتة. وهذا نقد سكوني لا يعتمد حركة الواقع، وينحصر غالباً داخل الأسوار الأكاديميّة. والثاني نقد يستعير مفرداته من واقع آخر وثقافة أخرى، من دون أن يعتمد الطريقة المنهجية الملازمة لهما. إنّه "النقد الحديث". الثالث هو الذي يستقرىء ثقافة الآخر، ويستقرىء ثقافة الماضي، وفي التطبيق يرفض مقاييس الإثنين، ويستفيد منها في بناء جانب من مقاييسه الخاصة. إنّه "النقدالثالث" الذي ما يزال يؤسس مقاييسه، مرافقاً المغامرة الشعرية الجديدة.