مشكلة الرهائن التي ظهرت فجأة في مدينة قزلار الداغستانية ثم انتقلت الى بلدة بيرفومايسكويه غدت في الكثير من جوانبها تكراراً لاختطاف الرهائن في مدينة بوديونوفسك في حزيران يونيو 1995 وساقت الدليل الى حدوث تبدل في موقف القيادة الروسية من حل الأزمة الشيشانية التي طال امدها. وواضح تماماً ان الكريملين عندما تأكد من عدم جدوى جهوده الرامية الى احياء المفاوضات اخذ يستعد خفية لتطبيق تدابير متشددة وحازمة ضد التشكيلات الشيشانية المسلحة وضد قادتها، وفي مقدمتهم شامل باسايف. وتتوخى القيادة الروسية من وراء تطبيق هذه التدابير تحقيق الاهداف الآتية: 1- تأكيد ان الرئيس بوريس يلتسين، وليس مرؤوسيه وخصومه، هو بالذات الشخص الوحيد القادر على وضع النقطة الاخيرة في مسلسل النزاع الشيشاني. 2- اعادة الاعتبار الى الجيش الروسي من خلال تسديد ضربات شديدة وحازمة، وان متأخرة، الى المتمردين وجعل الجيش الروسي يستعيد امجاد "النصر التي اختطفته منه جهات اخرى". 3- تهدئة الأوضاع في شمال القوقاز قبيل الانتخابات الرئاسية حتى لا تؤثر اية أعمال عنف على نتيجة الانتخابات في حزيران يونيو المقبل. وواضح ان المفاوضات ستبقى عاجزة عن بلوغ اهداف من هذا النوع. ومن جهة اخرى اخذت موسكو تسجل نقاطاً في الفوز في المواجهة مع الجنرال جوهر دودايف الذي كان حتى الاونة الاخيرة يعتبر زعيماً ل "حركة المقاومة الوطنية"، ذلك ان تصرفات المقاتلين الشيشانيين اخذت تستثير الرأي العام اكثر من سياسة "اللين والشدة" المرائية التي يطبقها الكريملين تجاه الشيشان. السمعة الطيبة ومن هذه الناحية غدت عملية احتجاز الرهائن في بوديونوفسك العام الفائت نقطة انعطاف في هذا المسار. لأن احتلال المقاتلين الشيشانيين مستشفى المدينة الذي اعتبره الرأي العام متنفساً وتجسيداً ليأس الشيشانيين وقنوطهم حمل موسكو على التراجع والاعتراف بداهة بالسبب الأول لهذا التصرف اليائس. الا ان تكرار عمليات مماثلة لعملية بوديونوفسك كما يريد المقاتلون الشيشانيون عادة وكما حدث في قزلار اخيراً لم يعد عملاً سببه اليأس والقنوط وانما هو تكتيك متعمد موزون ومخطط جيداً لمقاتلة العدو بحماية "درع بشري" من النساء والاطفال والشيوخ. ومن اسقاطات هذا الموقف ما لوحظ من تدهور السمعة الطيبة التي كان يتمتع بها الشيشان المناضلون في سبيل استقلالهم. واذا كانت القوات الروسية متهمة بقصف ساحق احرق الاخضر واليابس واجهز على المواطنين المسالمين الشيشانيين والروس على حد سواء، فان المقاتلين الشيشانيين اختطفوا مئات الرهائن بصورة عشوائية شملت الجميع ما عدا الشيشانيين. والادهى من ذلك ان الاختطاف شمل النساء والاطفال قبل الرجال. ولعل ثمة في موسكو قوى تتعمد استفزاز المقاتلين الشيشانيين. الا ان المسألة تكمن في كون الشيشانيين ينساقون، على ما يبدو، وراء تلك الاستفزازات، ويتناسى بعضهم المسؤولية الاخلاقية المترتبة على احتجاز السكان المسالمين الذين لا جريرة لهم. وقد اثار ذلك بالذات الارتباك في صفوف الشيشانيين المقيمين في موسكو وبطرسبورغ وستافروبول وداغستان ممن لا يرغبون في تحمل مسؤولية تصرفات "الذئاب" الذين يمارسون العنف. مزايا دوداييف ومن جهة أخرى ظل الجنرال جوهر دودايف حتى الاونة الاخيرة يتمتع بمزايا وافضليات مطلقة بالمقارنة مع موسكو، اذ حظي في الواقع بتأييد معنوي من الرأي العام الروسي، فيما تفتقر الحكومة الروسية لهذا التأييد. وكان لدى دودايف وباسايف امكانية التحدث في اي وقت من خلال وسائل الاعلام الروسية وحتى التلفزيون وعرض آرائهما وتقويمهما لأفعال الطرف الآخر. وحظي انصار دودايف بدعم كبير من البرلمان الروسي بمجلسيه وكذلك على الصعيد الاقليمي، حتى ان عدداً من كبار المسؤولين الروس الذين اتصلوا بأنصار دودايف وشاركوا في المفاوضات معهم تمادوا في التزام جانب الشيشان حتى غدوا بمثابة رهائن لسياسة دودايف ولنتائج المفاوضات. ثم ان دودايف لقي فرصة نادرة للامتناع من الانتخابات "العجيبة" التي جرت في الشيشان وكان بوسعه ان يشارك فيها لا من اجل الفوز فقط، بل ومن اجل عرض استعداده للبحث عن سبل اخرى لحل المشكلة وليس حصرها في المخرج الدموي. باختصار فان دودايف فرّط في الدعم المعنوي والسياسي الذي كان لديه في معسكر العدو، وكان بوسعه ان يستفيد منه بحكمة لابد ان تتوافر لدى شخص لا يريد القتال لمجرد الاستنزاف التام لشعبه. وعلى هذا دخل وادخل العالم معه في مأزق يدفع الى التساؤل عن العواقب الاقليمية التي تترتب على "الغزوات" الشيشانية للأراضي الروسية. حلفاء الكرملين لقد اصبح واضحاً تماماً ان عملية قزلار كادت تقود دودايف الى شفا الهاوية، لانه بتصرفاته المنافية للدستور الروسي افرغ، بقصد ام بغير قصد، شعار الفكرة القومية الذي اعتمده الاسلاميون في الشيشان سابقاً. وعندما تبنى دودايف الارهاب وسيلة لدعم سلطته جعل تترستان وانغوشيتيا وداغستان وابخازيا والطائفة الشيشانية الغفيرة في روسيا وخارجها تشيح بوجهها عنه وبذلك حولها بالضرورة الى حلفاء الكريملين. ويتساءل كثيرون عن العواقب السياسية التي يمكن ان تترتب على عملية اختطاف الرهائن بالنسبة الى الكريملين فمن الواضح ان النتائج المفجعة لعملية قزلار ستساعد على تراص البنى السياسية الروسية العليا، ومنها مجلس النواب المنتخب والذي شجب بشدة العملية الشيشانية وسيعمد من دون ريب الى ترسيخ الشرعية والنظام في أراضي روسيا قاطبة. ومن الواضح ايضاً ان فرصة موآتية اتيحت ليلتسين اليوم اكثر من أي وقت آخر كي يثبت بالدليل والبرهان انه زعيم الامة ويدفع الى دائرة الضوء صورته كرئيس للدولة وقائد عام للقوات المسلحة، من خلال امكانات وسبل عدة، كأن يضطلع شخصياً بمهام رئيس الوزراء او ان يعين رئيساً جديداً للوزراء للفترة اللازمة لاستبعاد احتمال تكرر عمليات العنف، ولن يقدم رئيس الوزراء الجديد على التفاوض مع المتمردين. فما مدى صدقية هذا المنطلق؟ لعل موقفاً كهذا هو المخرج الوحيد من المأزق. ففي المواجهة التي طالت بين دودايف والكريملين لم يفهم الأول انه كان باستطاعته اغلب الظن ان يربح المعركة كلها خطوة فخطوة فيما لو تصرف بمزيد من الحكمة. اما الآن فيبدو انه يخسر الكثير ان لم يكن كل شيء، ودفعة واحدة.